في ما قلناه في المقالات السابقة عن الشاعر نزار قباني، هناك ما يشير الى ان العيب لم يكن في الشاعر ذاته أو منه، ولكن العيب في الثقافة التي تقف وراء الشاعر ووراء قراء الشاعر ومستهلكي شعره... وأنا واحد من هؤلاء. والمتمعن في الشعر لن يجد صعوبة في أن يكتشف حركة النسق الشعري، وهو نسق يقوم على الأنا الطاغية. والذات الشاعرة ذات أنانية تفرض على صاحبها رؤية خاصة إلى نفسه الشاعرة، توحي بأن الشاعر هو مركز الكون، وهو منقذ البشرية، وأنه الوحيد الذي يرى ويحس ومن عداه لا يرى ولا يحس. وحساسية الشاعر هي النبض الصادق للأمة والتاريخ، وهو الرائي للمستقبل وعرّاف الكون. ومن جهة أخرى فإن الآخر لا وجود له ولا قيمة له، ولا يكون الشاعر مخلاً إلا إذا بز كل من سواه ووقف وحيدا لا يصل إليه أحد. وتعلمنا الثقافة أن عداوة الشعراء بئس المقتنى، وتروي لنا القصص والحكايات عن ضحايا هذه المعاداة. وهذا ليس كلاما تجريديا وإنما هو استنتاج لحوادث الثقافة. وحكايات الفرزدق والمتنبي ونزار قباني، واقتراحه لقوة ردع عسكرية لضرب خصومه - مما رأيناه في المقالات السابقة - تؤكد هذه الصفات. وهي ليست صفات فردية لشعراء بأعيانهم، ولكنها سمات نسقية يفرزها ويعززها النسق الثقافي الذي يرى ان الشعراء أمراء الكلام ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، ويرى أن الفحولة هي في هذه الصفات ويعزز هذا الرأي ويكرره حتى يصبح ذلك عقيدة ثقافية. وجاءت نتائج هذا الفعل الثقافي بارزة وواضحة في الشعراء، أولاً، ثم في الحدث الثقافي والاجتماعي بعامة. وإذا كان النسق الثقافي يفضي إلى كائنات من هذا النوع، وإذا كان مفهوم الفحولة هو في الأنا الطاغية الملغية للآخرين والمتعالية على الانتقاد، وإذا كان هذا النموذج مقبولاً ومسوقاً في كل الأدبيات الثقافية الشعرية والبلاغية، إذا حدث هذا فعلاً وقولاً في الثقافة ورموزها الإبداعية فهل نستغرب حدوثه في المجتمع والسياسة؟ أليس جلياً هنا أن ثقافتنا تسهم إسهاماً جلياً في "صناعة الطاغية"؟ وإذا كانت الثقافة تصنع الشاعر الفحل المتعالي المتفرد المصفوح عن كل أفعاله وأقواله حتى ليجوز له ما لا يجوز لغيره لأنه أمير اللغة وأمير المجاز والحقيقة، أفلا يكون ذلك نموذجاً للمحاكاة، وتأتينا شخصيات أخرى لها التفرد والتعالي ويأتي الزعيم الأوحد مثل الشاعر الأوحد ويأتي المنقذ والمحرر وحامي بوابات العروبة وموحد العرب وصانع مستقبلهم؟ إن ظهور طاغية في بغداد ليس غلطة من غلطات التاريخ، ولكنه ناتج طبيعي للنسق الثقافي الذي ظل يصنع الفحول في المجالات كافة، من فحول الشعراء الى فحول السياسة والمجتمع. وذلك حسب مفهوم الفحولة ثقافيا أو بالدرجة الأولى شعرياً. وكلما استخلصنا صفات الشعر الفحل ونظرنا في الممارسات والاقوال، وفي تقبل الثقافة لذلك كله، سنرى أنها صفات لا يختلف فيها الشاعر عن السياسي، وكلاهما متفرد أوحد لا آخر بإزائه، وعداوته بئس المقتنى انظر المقالتين السابقتين عن صفات الشاعر الفحل هما إذن - معاً - نموذجان لنسق ثقافي واحد. وإذا كانت كتب الأدب تحدثنا عن فرح القبائل بميلاد شاعر وكيف يكون ذلك الفرح، فإننا لن نعجز عن اكتشاف الشبه حينما نرى جماهيرنا تهتف لطغاتها وترفع صورهم وتنفعل بهم، غير متمعنة بسلوكهم وبضرر ذلك السلوك على حياة الناس ومستقبل الأمة. من هنا نرى ان الطاغية قد جرت تربيته ثقافيا ليكون كذلك، وهو لهذا لا يرى نفسه طاغية، بل انه ليعتقد بأن المشيئة الإلهية قد اتت به ليكون المنقذ والحامي. وانك لترى هذا النوع من البشر يتسمى بأسماء ويصف نفسه بصفات مثلما يتقمص اشكال شخوص تاريخية سالفة، توحي جميعها بأنه مندفع بذلك الزخم الثقافي الذي يوهمه بأنه هو النموذج المنتظر. وهذا كله من نتائج النسق الثقافي المغروس فينا، وهو الذي يفرز لنا هذه الانواع من الطغاة. وقد يصعب علينا ان نوازن بين الشاعر بوصفه طاغية والطاغية السياسي. وهذا ما سنقف عليه في الحلقة القادمة ان شاء الله. * أكاديمي سعودي.