يبدو ان قوى اليسار والوسط في ايطاليا التي كانت تحلم بقوة "المركيز الأحمر" ماسيمو داليما وواقعيته كي يقود السلطة في البلاد حتى نهاية الولاية التشريعية المقررة في 27 آذار مارس عام 2001، قد خاب أملها. فداليما لم يستطع الخروج عن القاعدة السياسية التي طالما تعود عليها الشارع الايطالي والمتمثلة اساساً في الحكومات القصيرة العمر التي لا تتمتع بأغلبية جماهيرية أو برلمانية كبيرة. فقد قدم داليما استقالته من رئاسة حكومة الائتلاف المؤلفة من عشرة أحزاب تمثل خليطاً من الكائنات السياسية التي ولدت إما من رحم الحزب الديموقراطي المسيحي المنهار وعلى رأسها الحزب الشعبي الايطالي، أو من رحم الحزب الشيوعي الايطالي وعلى رأسها الحزب الديموقراطيين اليساري، حزب داليما، الذي يقود الائتلاف. كان هذا بنتيجة الهزيمة الكبرى التي منيت بها الاغلبية الحاكمة في انتخابات رؤساء المقاطعات ال15 يوم الاحد الماضي. فقد خسر اليسار الايطالي اثنين من اهم معاقله التاريخية: لاكوريا وعاصمتها الاقليمية جنوه ولاتسيو وعاصمتها الاقليمية روما، امام اليمين المعارض الذي قام بحشد لقواه ومؤيديه لم تشهد ايطاليا له مثيلاً في تاريخها الحديث، فائزاً في ثماني مقاطعات في معركة حقيقية وُصفت بأن ملايين الدولارات قد أغدقت خلالها، وتوزعت على شكل رشاوى وهدايا واغراءات لأبرز الشخصيات الايطالية السياسية والاعلامية وأبسطها. كما اقام سيلفيو بيرلوسكوني، في هذه الغضون، صفقة سرية مع ألد أعدائه، اي الرابطة الشمالية، تقضي بمنح المقاطعات الشمالية الأربع، في حال الفوز، صلاحيات أكبر تسمح بانتقالها تدريجياً نحو الانفصال عن ايطاليا، واعلان ما يطلق عليه زعيم هذه الرابطة الانفصالية أومبيرتو بوسي "جمهورية بادانيا المستقلة". ويُذكر في هذا الاطار ان داليما لم يحسن قيادة المعركة الانتخابية الأخيرة، فركّز على الاتهامات والتجريح بخصومه الذين التزموا هذه المرة نهجا ولغة هادئتين وبرنامجا انتخابيا ركز على ضرورة التخلص من الاجانب وطردهم من البلاد لأنهم "يسرقون عمل الايطاليين وينشرون الجريمة والبغاء والأمراض الخطرة"! وكما هو معروف، يضم قطب الحرية اليميني المنتصر الذي يقوده بيرلوسكوني، رئيس الوزراء الاسبق وملك التلفزيونات الخاصة، حزبه ايطاليا الى الامام وحزب الاتحاد الوطني الفاشية الجديدة سابقاً وحزب الوسط الديموقراطي المسيحي. وقد طالب هذا التحالف، لحظة ظهور النتائج، باستقالة حكومة داليما وحل البرلمان والذهاب مباشرة نحو صناديق الاقتراع لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، بحجة عدم توافر أغلبية شعبية تدعم وجود الائتلاف الحاكم، خاصة بعد ان احتل حزب بيرلوسكوني المكان الأولى بين الاحزاب السياسية، مقصياً حزب داليما، حزب الديموقراطيين اليساري الشيوعي سابقاً الى المرتبة الثانية. أحزاب الائتلاف الحاكم صحت فجأة على ان داليما ليس بمقدوره ان يقودها نحو بر الانتصارات الذي يؤمّن بقاءها في دفة السلطة لفترة ثمانية اشهر اخرى، وانه ليس بقادر على ان يصبح شخصية كاريزمية مؤهلة استقطاب محبة الجماهير، كما كان أسلافه من الشيوعيين القدامى، لأنه يتصف بالتردد والضعف والتراجع السريع في العديد من مواقفه. وهكذا فخلال الاجتماع الذي جمع رؤساء هذه الاحزاب لمناقشة أسباب الهزيمة طالبوا باستبداله برجل آخر يكمل المشوار ويرضي أحزاب المعارضة، من خلال رئاسته لحكومة انتقالية تأخذ على عاتقها التحضير لانتخابات جديدة خلال بضعة اشهر. وهذا هدف لا يحظى، بدوره، بتأييد اليمين الا انه يحظى بتأييد رئيس الجمهورية كارلو ازيليو تشامي الذي يفضل عدم حل البرلمان وتشكيل حكومة تكنوقراط لا ينتمي اعضاؤها الى الاحزاب انتماء مباشرا، فيما يمكنها ان تتحرر الى حد ما من ضغوط القوى السياسية وتعمل على تبريد الاجواء والتخفيف من حدة الصراع. وقد رشح رسمياً حزب الخضر المؤتلف ضمن التحالف الاشتراكي المخضرم جوليانو أماتو رئيس وزراء ايطاليا الأسبق ووزير الخزانة الحالي لقيادة البلاد باعتباره "الرجل المناسب في المكان المناسب"، نتيجة لخبرته الطويلة في المجال الاقتصادي والمالي بشكل عام. وهناك من يضيف الى كفاءات اماتو عنصراً آخر هو انسجامه السياسي مع زعيم حزب ايطاليا الى الامام بيرلوسكوني. الا ان حزب الديموقراطيين اليساري يعارض بشدة تأليف حكومة جديدة بعيدة عن صورة الائتلاف الحالي الذي يقوده هذا الحزب. ويُذكر ان داليما الذي يقبل نزاع التحدي في أعلى درجاته، كان فشل امام أول امتحان قام به احد أحزاب التحالف الصغيرة وهو الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يملك فقط ثمانية نواب في البرلمان الايطالي، حين أعلن سكرتيره أنه غير قادر على تحقيق أية نجاحات لليسار الايطالي. وفي الوقت نفسه اعلن فرانشيسكو كوسيغا رئيس الجمهورية الأسبق، أن داليما لا يفقه شيئاً في مبادئ العمل السياسي. وهكذا سقطت الحكومة الأولى، وجاء الاختبار الثاني أسرع من الأول بانتخابات المقاطعات التي اعادت الصورة القديمة لهذا البلد الذي تتخاطفه الفوضى السياسية. وفي الخلاصة سقطت حكومة داليما الذي أكد ان مهمته التي تكلف بها "قد انتهت". وحصل هذا على رغم المعجزة الاقتصادية التي حققتها ايطاليا ونجاحها في اللحاق بالعربة الأخيرة لقطار دول اليورو بفضل السياسة الحكيمة التي سبق ان نهجها رومانو برودي قبل ذلك. الا ان 14 شهراً من حكومة داليما الأولى و7 اشهر من الحكومة الثانية لم تكف لوقوف الخليط الائتلافي الذي لا تجمعه أية أهداف استراتيجية موحدة، امام مخاض عنيف يتصارع فيه أقدم ما في أوروبا وأحدثه.