حصل لقائي الأول به منذ أكثر من سنة. لا أدري إذا كان يمكن تسمية تلك الحادثة العابرة لقاء. كنت منهمكاً بترتيب ملفات الجناح حيث أعمل في المستشفى، حين سمعته يتكلم عن إجازته المقبلة وكيف انه سيقضيها في كوبا. كان يتحدث عن كوبا كوطن، بكثير من الشوق والحنين. استغربت ذلك، فهو الذي يتكلم الإنكليزية بلكنة أميركية لا يمكن تضييعها. ثم على مدى سنة كاملة، كنت أسمع عنه كلاماً اشبه بالشائعات. وكلما سمعت أكثر، ازددت اعجاباً بشخصه. "كان في السجن بتهمة الشيوعية في أميركا، شارك بالمظاهرات الدموية في السبعينات في تشيلي، حارب مع تشي غيفارا قبل أن يُقتل هذا الأخير ..."، وتمتد الحكايات. قصة مرافقته تشي غيفارا لم تقنعني كثيراً فهو لم يطرق باب الستين بعد. كان أسمر البشرة، فقد تساقط شعره، وقصير ونحيل. نحالة جسده هي من ذلك النوع الذي يصيب الرهبان بعد طول الصوم، والسهر. شخصيتي المفتونة بالقصص وجدت فيه ضالة، كان يمثل لي قصة جديدة. بعد مجهود بسيط وصلت اليه، وسألته إن كان يحب تناول القهوة معي في صباح اليوم التالي. أبدى تردداً فقررت تغيير أسلوبي في الطلب وإلالحاح. "سيدي يقال عنك الكثير وأنا كاتب هاو للقصص". وبعد لحظات من الصمت أضفت مصطنعاً التردد "أود أن استمع لقصتك وأن أحاول صياغتها ونشرها كقصة خيالية". وعندما سمعت ضحكته المقتضبة أدركت أني نجحت "الكتابة خسارة متواصلة في عالمنا هذا، ابتعد عنها ستكون نصيحتي الوحيدة لك" أضاف هذه الجملة، وحسبت أني خسرت معركتي لكنه ربت على كتفي وقال "سكن العليا للعزاب الساعة التاسعة صباحاً، التاسعة وخمس دقائق أعتبر أن موعدنا لاغ". شرعت بعدِّ الدقائق وكنت مستيقظاً من الساعة السابعة على رغم انه يوم إجازة، وكانت سيارتي عند أسفل مدخل سكنه قبل خمس عشرة دقيقة من موعدنا. في المقهى الفرنسي الطابع جلسنا في الهواء الطلق، طلبنا القهوة، وأضاف كثيراً من السكر والحليب إليها، وتناول سيجارة وأخذ يرتشفها متلذذاً ببطئ. بادرني بعبارة "أتدري لقد صدمت عندما وصلت الرياض" مضيفاً "الشوارع عريضة، المدينة مبنية على شبكة من الطرق السريعة كتلك التي عاصرتها في الجزء الأول من حياتي في كاليفورنيا. هواتف جوالة في كل مكان. أجهزة لسحب الأموال عند كل زاوية. ومراكز تسويق كأنما الناس يعيشون على التسوق". أردت أن أسأله عن مكان ولادته، وأصله وفصله عندما أخذ نفساً طويلاً وراح يتحدث. كان واضحاً انه قرر أن يحدث نفسه أكثر من أن يحدثني. "اسمي جون ميلون أبي أميركي أبيض وأمي من عائلة ذات أصول كولومبية. غيرت اسمي عندما تركت أميركا الى جون كاسترو. كنت مأخوذاً بشخصية الزعيم الكوبي، مغرم بالنظم الاشتراكية، غاضب على المادية المفرطة للشعب الأميركي ما بعد الحرب العظمى الثانية. كانت السنة التي وصل فيها كاسترو 1959 هي السنة التي اخترت ترك أميركا فيها. كنت في الثامنة عشرة من عمري اعتقدت أن تغيير العالم حاصل لا محالة، فذهبت الى كولومبيا راغباً ألا يداهمني التغيير وأنا في أميركا". سرح بصره قليلاً ثم عاد للحديث من دون تدخل مني. "بعد أن قتل الأميركيون تشي غيفارا من أجل حفنة موز قررت ترك كولومبيا والسفر الى كوبا، كنت قد بدأت العمل في الصحافة في كولومبيا وما كان صعباً أن أجد عملاً في المجال نفسه خصوصاً وأني أحمل الجنسية الأميركية مما يجعلني عملة نادرة. ثوري أميركي. كم ثوري أميركي صادفت في حياتك؟ تسمع عن ممثلين، مغنيين، أغنياء وصعاليك أميركيين لكنك لا تسمع عن ثوار أميركيين!" كان السؤال قد بدأ يتقافز في داخلي وما أتمكن من حبسه"قتلوا تشي من أجل حفنة موز؟". نظر اليَّ وكان في عينيه نظرة مشفقة مغزاها من أين لك أن تدرك؟. ثم قال "نعم شركة الفواكه كانت أمير كية وكانت ثورات جنوب أميركا تشكل خطراً على مكاسبهم، وبالتالي قتلت الحكومة الأميركية تشي حتى تحافظ على أموال ملاك الشركة، بضع أشخاص ليس إلا!" أحسست أن الحماس قد بدأ يداخله وأنه سوف يتطرق الى مواضيع لا تهمني في هذه اللحظة "ثم ماذا حدث لك في "كوبا سيد كاسترو"؟" أضفت موجهاً الموضوع الى حيث أريد أنا. أخرج سيجارتين وضع واحدة في فمه ثم قدم لي الأخرى مع نظرة تقول "خذها ستحتاجها"، ثم قال "أتعلم ما سر الحياة؟". واجهت سؤاله بصمت وأخذت ألهو بدخان السيجارة وعلى وجهي تعبير يوضح أني لا أدرك أي شيء من سر الحياة. لم ينتظر مني إجابة فهو لم يسأل ليسمع إجابة فاسترسل "الحياة يا صديقي صندوق مزركش كبير، تفتح الصندوق فتجد داخله صندوقاً آخر وهكذا، حتى تصل أخيراً الى صندوق صغير. وعندما تفتحه محاولاً الوصول الى السر تجد شيئاً في داخل صندوق لا معنى له. شيئاً مبهماً أعصى على الفهم مما بدأت به". أنهيت سيجارتي وقد تناولني دوار خفيف من جرائها "هل تقترح أن البحث عن مغزى للحياة غير مجدٍ؟". التمعت عيناه "كنت صغيراً مثلك أبحث عن العدالة. وكنت أريد ايجادها من طريق الثورة ومن طريق الحب. ولكنني آثرت الثورة على الحب. كنت أعتقد أن في الحب معنى لحياتي وفي الثورة معنى للبشرية، فأخذت البشرية" في كلامه عن الحب أدركت أني على مشارف قصة هذا الرجل الغريب. طالت لحظات الصمت أكثر مما أحتمل فسألته "ماذا عن الحب ؟" "هل قابلت روز من قبل؟ روز التي تعمل في بنك الدم". أخذت أهز رأسي، كنت قد قابلت روز التي تجاوزت الخمسين واحتفظت على رغم ذلك بجمال مميز. كان شعرها ناعماً طويلاً، وفمها واسعاً تحيط به شفتان رقيقتان، ذكرني بنساء أساطير غابريل ماركيز. ومع فارق السن الكبير بيننا كنت أتغزل بها كلما سنحت الفرصة لافتعال حديث معها. راح يكمل "أنا قابلت روز عندما كنت في أول العشرينات من العمر، في كولومبيا. كانت واحدة من هذه الأشياء العجيبة. كلمتان، ثم لم أستطع النوم في تلك الليلة، أصابتني نوبة ربو. ليس غريباً أن أصاب بالربو، بل الغريب أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أصاب فيها بشيء من هذا القبيل". اتسعت حدقتا عيني، لست طبيباً ولكنني أدرك أن الربو مرض مزمن يأتي ليبقى، لكنه الحب وما يفعله من عجب. "ثم ما الذي حصل بعد ذلك؟" بدأ الفضول يأكلني "رحلت عن كولومبيا ولم أودعها، كنت أحبها وكنت أعرف أن رحلتي طويلة ومتعرجة. أعتقدت أني أسديها خدمة العمر". صمت برهة أشعل سيجارة ثم أكمل "أتعلم؟ أنا لم أشعر بطعم، رائحة أو ملمس امرأة من بعدها "أستطيع أن أتصور ذلك، بعض النساء خلقن لنا وبعضهن خلقن لغيرنا. وهل أتيت الى هنا من أجلها؟" قلت متسائلاً، متعجلاً الإجابة "لا. هي محض صدفة. قالت لي إنها لا تدري لمَ اختفيت سنة 1964 وعندما أخبرتها غضبت وقالت إنه ما كان من العدل أن أقرر لها الأسلوب الأنسب لحياتها. والآن بعد كل هذه السنين ليس أمامي الا أن أعيش وحدتي متحسراً على اختياري الثورة لصالح ما كنت أحسبه خير الإنسانية". بعد جملته الأخيرة أخذ ينظر الى الأرض ثم أشار "أنظر الى تلك النملة".لم ينتظر مني إجابة بل مضى "تحاول تلك النملة أن تحرك قطعة كبيرة من الخبز. إن حماسي للثورة كان بحجم كسرة الخبز، وحبي كان بمقدار حركتها. أتمنى لو أني أوجدت توازناً أفضل في حياتي. كأن أثور قليلاً وأحرك حبي قليلاً أيضاً". افترقنا على وعد آخر باللقاء، فيبدو أن للحديث بقية طويلة. * مستشفى الملك فيصل التخصصي - الرياض