طرح زعيم حزب الأمة الصادق المهدي مقترح المؤتمر القومي الجامع الذي أقره إعلان طرابلس 28/7- 1/8/1999 قبل انسحاب حزبه من التجمع المعارض 16/3/2000، مؤملاً أن يكون بديلاً جماعياً عن الحوار الثنائي سواء بين حزبه هو ونظام الإنقاذ، أو بين التجمع المعارض ونظام الإنقاذ. ولكن بعد انسحابه هو من التجمع وانسحاب قرنق من "إعلان طرابلس" لأنه لا مصر ولا ليبيا ولا حكومة الإنقاذ ولا قيادة التجمع نفسها استجابوا وفعلوا ما ينبغي فعله تجاه ذلك الإعلان، أصبح مقترح المؤتمر القومي الجامع وكذلك الحل السلمي خارج ما نحن فيه من زمان ومكان. غير أن الصادق المهدي لم يطرح المؤتمر القومي الجامع مكتفياً به كحل سياسي للأزمة السودانية، إذ أصدر وثيقتين، إحداهما ايديولوجية بعنوان نداء الإيمانيين في 15 تموز يوليو 1999، والثانية ثقافية بعنوان نحو استراتيجية ثقافية للسودان في مطلع الألفية الثالثة الميلادية ومنتصف الألفية الثانية الهجرية. ساهم بها في ندوة السودان - الثقافة والتنمية - نحو استراتيجية ثقافية التي عقدها "مركز الدراسات السودانية" بإشراف عميده الدكتور حيدر ابراهيم من 4 الى 6 آب اغسطس 1999 في القاهرة. للوثيقتين علاقة جذرية بما يخطط له المهدي في إطار "المؤتمر القومي الجامع" أو أي صيغة أخرى مماثلة. فالصادق يدرك أن المشكلة في النهاية وبالنسبة له هو بالذات وحزبه ليست مشكلة سياسية فقط، شأنه شأن أي حزب علماني وبالذات حين تكون المواجهة مع نظام يطرح نفسه إسلامياً المشروع الإسلامي الحضاري العالمي. فحزب الأمة يستند الى قاعدة الأنصار الدينية والناشئة منذ 1882، كما يستند منافسه الحزب الاتحادي الديموقراطي - في قسم كبير منه - إلى قاعدة الختمية الناشئة منذ عام 1818، ولم يجرؤ أي من الحزبين على إلغاء الخيار الإسلامي الذي ورثوه عن جعفر النميري حين حكما السودان في الفترة النيابية الثالثة 1986- 1989. فالمشكلة أمام الصادق وأمام كافة الشماليين السودانيين - وهو متنبه لها جيداً - كيفية معالجة العلاقة بين الدولة والدين في إطار التعددية الدينية في السودان، وفي إطار الديموقراطية وحقوق الإنسان، وفي إطار العولمة بكل سلبياتها وإيجابياتها، وهناك مشكلات التنمية والتحديث، والموقف من الدوائر الجيو - ستراتيجية التي تحيط بالسودان، وأصبحت أكثر تأثيراً عليه في القرن الأفريقي ووسط افريقيا وغربها من بعد أن كان التوجه السوداني شمالاً نحو مصر في الغالب، وهناك قضايا الهوية السودانية نفسها. إن أكبر تحد سيواجه المحاورات مع نظام الإنقاذ هو الموقف من الخيار الإسلامي، والمهدي يدرك أنه لا هو ولا الميرغني بمقدورهما رفض استمرارية هذا الخيار. ولكن: كيف يستمر هذا الخيار الإسلامي وقد أصبح موضع إدانة بالكيفية التي مارسته بها الإنقاذ؟ خصوصاً وأن الآخرين يطرحون حلاً ديموقراطياً ليبرالياً علمانياً لإشكاليات التعددية السودانية، الدينية والقومية والإتنية العرقية والسياسية والثقافية؟ وأين موضع مواثيق حقوق الإنسان العالمية وفي عصر العولمة بالذات؟ ثم أين جنوب السودان من كل ذلك؟ ومبادئ الإيغاد الستة التي أكدت على علمانية الدولة؟ وكذلك القرارات المصيرية لمؤتمر اسمرا عام 1995؟ لحل هذا المأزق المقبل في الحوارات مع نظام الإنقاذ أصدر المهدي الوثيقتين المذكورتين، فهو الوحيد المستعد من بين الآخرين، لأن معركته مع النظام اكثر اتساعاً وشمولاً من الآخرين. وهناك جذور لاستعداد الصادق فهو يطرح منذ عقدين الصحوة الإسلامية بديلاً عن طروحات الشيخ الترابي المشروع الإسلامي الحضاري العالمي. وفي سياق هذه الرؤية أصدر المهدي دراساته حول: العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي- 1983 والتطرف الديني وأثره على الأمن القومي السوداني - 1986 ومفهوم الدولة في الإسلام - 1992، وهناك الكثير من المحاضرات. اجتهادات الصادق والافتقار الى الإطار لكن أين هو الإطار الذي سيناقش فيه الصادق كل هذه الاجتهادات لتُكرس كمبادئ موجهة لمرحلة التغيير السياسي المفترضة؟ فحزب الأمة يقف الآن وحيداً، والنهج الذي خطه المهدي لا يجمعه بنظام الإنقاذ ولا بالميرغني ولا بقرنق، مع إدراكي التام أن الصادق وحزب الأمة ليسا بالطرائد السهلة المنال، فحين تم توقيع اتفاق جيبوتي بينه وبين الرئيس البشير 25 - 26 تشرين الثاني نوفمبر 1999 الذي حمل عنوان نداء الوطن بديلاً عن نداء الإيمانيين وقف المهدي في موازاة البشير كتفاً إلى كتف وتركا التوقيع لمسؤول العلاقات الخارجية في حكومة الإنقاذ، الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل، ولمسؤول العلاقات الخارجية في حزب الأمة مبارك الفاضل المهدي، وهكذا تحددت المقامات. الآن ليس أمام الصادق وقد وقّع اتفاق جيبوتي بشكل ثنائي بين الإنقاذ وحزب الأمة، ثم انسحب لاحقاً من التجمع الوطني 16/3/2000 ومع انسحاب قرنق من إعلان طرابلس بما يعني فشل آلية المؤتمر القومي الجامع مع فشل المبادرة المصيرية - الليبية والمتلازم مع فشل الإيغاد نفسها، سوى أن يمضي الصادق في تطوير هذه العلاقة الثنائية بين نظام الإنقاذ وحزب الأمة، وقتها فقط سيتحقق ما يمكن أن يجمعه بنظام الإنقاذ ولكن إلى أي مدى، وبأي مضمون؟ والأهم من ذلك ما هو مدى استعداد الذين أحدثوا متغيرات رمضان للحوار والوفاق أصلاً؟ وما هي الثمرات التي يمكن أن تعود على الشعب من مثل هذا الحوار أو الوفاق؟ آفاق الحلول المستعصية طوال إقامتي في العاصمة أسمرا 29 أيار/ مايو وإلى 18 أيلول سبتمبر أيلول 1999 تابعت عن كثب ما يدور في أروقة المعارضة السودانية، حيث عقدت هيئة قيادة التجمع اجتماعها في الفترة 7 وإلى 14 حزيران/يونيو 1999. غير أن مناقشاتي المكثفة كانت مع المهدي والأمين العام لحزب الأمة عمر نور الدائم وأمين العلاقات الخارجية مبارك الفاضل المهدي، إذ كنت مستشرفاً تماماً أن حزب الأمة سيضطر الى حوار ثنائي مع نظام الإنقاذ خلافاً للآخرين وذلك لأسباب عدة فصلتها بوضوح فهل سيعود السيد الصادق المهدي الى الخرطوم من موقع الضعيف؟ وقد فشلت المبادرة المصرية الليبية وتجمّد "الإيغاد"، وأُجهض "المؤتمر القومي الجامع" وتضاءلت متاحات الحلول السلمية مع اندلاع المعارك في الجبهة الشرقيةوالجنوب وجبال النوبة؟ ما قدمه نظام الإنقاذ لحزب الأمة وغيره من بعد متغيرات رمضان يتلخص في أمرين: الجبهة الوطنية العريضة وقانون الأحزاب، فبتاريخ 20 كانون الأول ديسمبر 1999، وبعد أسبوع واحد من متغيرات رمضان طرح الرئيس البشير صيغة الجبهة الوطنية العريضة بديلاً لصيغة المؤتمر القومي الجامع، وركز على أنه من مهمات هذه الجبهة الوطنية وضع برنامج محدد. ثم بعد شهرين وثلاثة أرباع الشهر، أي في 12 آذار مارس 2000 أصدر مجلس الوزراء السوداني قانوناً جديداً للأحزاب يسمح بحرية التنظيم والتعبير من دون تسجيل ولكنه يشترط التسجيل في حال المشاركة في الانتخابات، رئاسية أو برلمانية أو ولائية. ذلك يعني تطبيق نظام التوالي على المشاركين. ضيق هذا الموقف الحكومي ساحة التحرك السياسي بالنسبة للسيد المهدي، إذ يأتي على النقيض من كل مقررات طرابلس وعلى النقيض من توجهات اتفاق جيبوتي خصوصاً بعد تمديد حال الطوارئ لنهاية العام، وعلى النقيض من فكرة المؤتمر القومي الجامع، وعلى النقيض من النقاط التسع التي أسميت تهيئة مناخ الحوار ومن ضمنها إلغاء قانون الطوارئ لا مده. مع ذلك حاول المهدي إيجاد مقاربة ما بين مفهومه هو للمؤتمر القومي الجامع ومفهوم البشير للجبهة الوطنية العريضة، إذ جعل المهدي موضوع الجبهة الوطنية قابلاً للتداول ولكن من بعد عقد المؤتمر القومي الجامع واسترداد الحياة الديموقراطية. الحياة - عدد 13439 - تاريخ 24 كانون الأول 1999 وعلى النقيض فإن الحزب الاتحادي الديموقراطي قد رفض ما طرحه البشير. أما بالنسبة لقانون الأحزاب الذي يبيح نشاطها ولكنه يقيدها في حال المنافسة الانتخابية بما قيد به أحزاب التوالي من تسجيل وموافقة على الدستور، فقد أراد مبارك الفاضل إيجاد مقاربة أو مخرج إذ اعتبر أن ما أقدم عليه النظام هو إجراء تمهيدي انتقالي يمكّن من التقدم باتجاه الحوار "وأن التجمع الوطني الديمقراطي لم يطلب أصلاً إلغاء الوضع الدستوري القائم وإنما طلب إتاحة الحريات وخلق مناخ للحوار لأن قضايا الدستور والقوانين ستناقش في مؤتمر الحوار الذي سينتج عنه وضع جديد". ولاحظ مبارك المهدي "نقاطاً إيجابية في القانون الجديد هي: الاعتراف صراحة بالتعددية السياسية المباشرة ورفع الحظر عن الأحزاب القائمة قبل انقلاب حزيران 1989 وإعطاؤها الحق في ممارسة عملها من دون تسجيل إلى حين عقد مؤتمر الحل الشامل" - الحياة - عدد 13517- تاريخ 14 آذار 2000. أما الحزب الاتحادي الديموقراطي فقد اعتبر أن قرارات الحكومة تصب في عرقلة جهود الحوار والحل السياسي. من الواضح الآن أن خطة الإنقاذ تعتمد على الآتي: أولاً: حرية النشاط السياسي التعددي وفقاً لقانون الأحزاب الذي يتيح حرية الممارسة ولكنه يقيد المنافسة الانتخابية بقانون التوالي، أي التسجيل. ثانياً: إن الحوار والنشاط السياسي لا يعني بالضرورة المشاركة في السلطة، فالمشاركة أمر يبحث لاحقاً في ضوء تطورات الوفاق. ثالثا: إن القوى السياسية التي سيتعامل معها النظام هي تلك التي تأتي إليه من دون شروط مسبقة وتجري معه الحوار، أي من دون شروط تهيئة مناخ الحوار. رابعاً: إن القوى المعتمدة حتى الآن هي أحزاب التوالي ومن تبقى من الفصائل الجنوبية بعد خروج كاربينو كوانين في تشرين الثاني 1997 وخروج رياك مشار بعد استقالته في كانون الثاني 2000. خامساً: إن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق ليست طرفاً في حوار الشماليين خصوصاً وأن الحركة الشعبية الجنوبية أعلنت في 31 كانون الثاني 2000 التزامها بالحوار في إطار "الإيغاد" فقط وذلك تكريساً لموقفها الذي قرر عدم المضي في تنفيذ إعلان طرابلس 8/8/1999، ثم إعلان ذلك صراحة في اجتماع كمبالا- أوغندا لهيئة قيادة التجمع والملاسنة المتشنجة الشهيرة مع حزب الأمة كانون الأول 1999. فالحركة الشعبية الجنوبية ترى أنه خارج "الإيغاد" لن تشارك في أي مؤتمر جامع إلا المؤتمر الدستوري أثناء ما يكون من فترة انتقالية يقبل بها نظام"الإنقاذ" لتسليم السلطة بعدها. سادساً: إن الحكومة عقدت العزم على إجراء انتخابات عامة، سواء تمت المصالحة أم لم تتم، وسواء شاركت أحزاب المعارضة أم لم تشارك، متذرعة بضغوط تُمارس عليها في هذا الاتجاه من قبل الاتحاد الأوروبي وقوى عالمية وإقليمية أخرى، ومضت حكومة الإنقاذ الى أبعد من ذلك حين هددت بإعادة تحريك مطلبها من مصر ترحيل المعارضة السودانية إذا لم تستجب لمصالحة النظام الحياة - عدد 13506- تاريخ 3 آذار 2000. منظمة النظام...و المهدي إذن كيف سيتعامل المهدي مع هذه الأجواء، وقد عادت المنظمة لتسيطر على النظام، المنظمة - كما ذكرنا - بخلفيتها العقائدية الضيقة وتنظيمها المغلق وقاعدتها الانقلابية. فالمنظمة في أحسن حالاتها لم تعط إلا هامشاً للحريات ثغرة في الحائط المسدود، وجسد الترابي هذا الهامش في قانون التوالي حين كان مرشداً للنظام، فكيف سيتصرف النظام ولا مرشد له حتى لتقنين ما يماثل الهامش؟ فقانون الأحزاب 12/3/2000 لا يعني تطويراً لقانون التوالي وإنما يعني فقط السماح للآخرين بالعمل من غير موالاة مقننة شرط ألا يشاركوا في الانتخابات - التي يتعجلها النظام الآن- إلا إذا توالوا- فإذا كانت الانتخابات متعذرة إلا بهذه الشروط فكيف يكون مصير المطلب الشعبي لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار؟ إن المشترك بين المنظمة داخل النظام وشيخها السابق الترابي أن لكل منهم أسلوبه في استتباع الآخرين، المنظمة بقانون الأحزاب والترابي بالتوالي، وهذه من الأساليب التي يمكن للرؤوس الصغيرة من أمثالي التعامل معها ولكن كيف بالرؤوس الكبيرة كرأس السيد الصادق الذي وقف في جيبوتي موازياً للبشير كتفاً إلى كتف 25/26-11-1999، فإذا كان المهدي وازاه هناك في منطقة حرة فهل سيوازيه داخل السودان وفي ظل قانون الأحزاب؟ إن مناورات النظام عديدة ومتنوعة - المنظمة والترابي معاً - وقد مورست هذه المناورات على كل من مد يده للتعاون مع هذا النظام حرصاً على مستقبل السودان، أو تفاؤلاً بالضغوط الداخلية والخارجية عليه، أو استشرافاً لإمكان تعقل القائمين عليه. وكم كنت أود أن يستفيد المهدي وحزب الأمة من تجربتي وأخي الشريف زين العابدين الهندي الأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي مع هذا النظام منذ توقيعنا على "بيان دمشق" بتاريخ 17 أيار 1997 الذي تضمن ما يماثل أو يقارب - ولكن بالقليل - ما ورد في "إعلان طرابلس". وها هي ثلاث سنوات مرت ولم نحصد سوى التوالي وقانون الأحزاب من دون أي توسيع لقاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار. * سياسي ومفكر سوداني.