"إن كنتم في الوطن وفي المهجر فاذكروا أن لكم وطناً تنتمون إليه... انبذوا التعصب الديني فإنه يقتل النفوس ويميت العقول". أضاف صاحب مجلة "المنارة" في افتتاحية العدد الثاني الصادر في 2 كانون الثاني يناير 1906 مخاطباً أبناء أمته وبالنيابة عنها: "سيروا ومنارتكم الاتحاد والمحبة ورائدكم السلام. اشتغلوا ومبدأكم الاستقامة. تكلموا وموضوعكم الحق. فتشوا وضالّتكم الحقيقة. وعيشوا وغايتكم الفضيلة". ورداً على الحملات الصحافية المتبادلة بين المغتربين تساءل جرجي سابا: "أما لكم آذان تسمع ضوضاء استياء الجمهور المدني من أعمالكم وأقوالكم الفاسدة؟ أما لكم عيون تبصر انشقاقكم وتقرأ المعارك القليلة التي سجلت لكم تاريخاً أسود في الصحافة العربية؟ انتصحوا"! يذكر أن العبارات أعلاه هي جزء صغير من افتتاحية احتلت ثلاث صفحات كاملة، وكتبت بخط جميل جداً مما يدعو الى الاستنتاج بأن الزميل سابا استعان بخطاط ولاية بيروت. والحقيقة أنه ليس بحاجة الى دفع مال غير متوافر لديه، وهو الطالب، خصوصاً وأن الخط العربي كان أحد هموم المدارس آنذاك، وأن الجامعة الأميركية كانت تعج بالخطاطين الهواة من الطلبة. هل كان رشيد سليم الخوري، الذي لقّب نفسه بعد التخرج ب"الشاعر القروي"، من أصحاب الخط الجميل؟ ربما، لكن، من المؤكد أن موهبته الشعرية طرقت باكراً باب المجلة، وأن قلم التحرير رحّب بباكورة نتاجه فامتزج الغزل بالفلسفة أو الحكمة: سحرتني بلحظها الفتان ذات قدّ يزري بغصن البانِ قل لمن غرّه جنى خدها الورديّ إياك حارس البستان يتباهى الإنسان عند ارتكاب الاثم لو كان بعض الهرمان وجميع الأسرار تظهر كالشمس جلاء للواحد الدّيان اشتهر "الشاعر القروي" بالقصائد ذات المنحى التربوي الحافلة بالحِكم، مما يعزّز النظرية القائلة بأن بواكير الشاعر تحدّد منحاه ونهجه الشعري، فيحدث بعد ذلك تطوير لا تغيير. أكثر من ذلك، فإن بدايات الشاعر تتضمن ملامح نهجه الحياتي، بدليل أن استعداد خليل حاوي للانتحار في إطار موقف سياسي وطني، واضح في قصائده العامية التي دشن بها حياته الأدبية. توفيق الجليل يخوض في موضوع التعريب في العدد الثالث الصادر في 17 كانون الثاني 1906، مؤثراً الترجمة على الخطابة، ومقترحاً بعض الأسماء اللامعة لتعريب نتاجهم، أمثال أمرسون وواشنطن وسبنسر وداروين، ثم يستدرك لتنبيه كل مترجم "أن يدرس الموضوع درساً وافياً كي يفهمه هو جيداً حتى يمكنه أن يُفهمه لغيره". استمرت "المنارة" بالصدور طوال العام الدراسي 1906، ثم توقفت ربما لأسباب تتعلق بحرية المطبوعات. ومما يرجّح هذا الاستنتاج أن جرجي سابا استأنف إصدار مجلّته إثر إعادة الاعتبار للدستور العثماني في صيف 1908، وشهدت بيروت في ذلك الوقت بداية أو استئناف صدور عشرات الدوريات. قال سابا في افتتاحية العدد العاشر: "أحب أن أذكر ما وصلنا إليه من حرية القول والعمل بفضل الدستور والنظام الجديد، وأتوصل منه الى إهداء هذه الجريدة الى كل نفس حرة تسعى وراء هذه الغاية". أضاف "اليوم وفي كل آن، في حاجة الى جريدة صادقة تؤنب وتؤدب وتسلّي ولا تتحبب، وهكذا كانت المنارة الى أن حجبت عنكم وقتاً خالته دهراً، حكمت عليها الظروف أن تخفي النور تحت المكيال". آنذاك، استضاف جرجي صوايا، في الغرفة التي يتقاسمها مع زميله في الجامعة الياس عبيد، عدداً من الصحافيين والأدباء أمثال أحمد عبدالعال، الأمير عادل أرسلان، الدكتور خليل سعادة، ملحم حمادة، عبدالقادر أفندي، داود مجاعص، أسعد رستم، وابراهيم الخوري. كان أرسلان - وهو شقيق المير شكيب - سياسياً إذ تولى لاحقاً وزارة الخارجية السورية. أما الدكتور سعادة فهو والد أنطون سعادة، وأصدر في أميركا اللاتينية جريدة "الجريدة" ومجلة "المجلة"، وأسس أحزاباً سياسية عدة خلال الحرب العالمية الأولى. داود مجاعص صحافي وسياسي ثائر، أمضى معظم حياته لاجئاً سياسياً في القاهرة وأميركا. لعل الوحيد غير السياسي بين الفرسان الثمانية هو الشاعر أسعد رستم الذي اشتهر بشعره الساخر. ومع ذلك، فقد كانت سهرة أدبية بحتة، على رغم أن المناخ العام الناتج عن الانقلاب على السلطان عبدالحميد، يبيح الاجتماعات والمداولات السياسية. ومما ورد في وقائع الجلسة التي غطتها "المنارة" في العدد العاشر أن جرجي سابا سأل أسعد رستم أن ينظم شيئاً فاعتذر بشطر من بيت شعر "فقلت للحضور أن رستم يظهر قصوره في نظم الشعر وجوابه لي كان شطراً قسته بقشتي فوجدته موزوناً. فتحيّر رستم كيف أني قست الشعر بالقشة، فأجبته بأن هذه الطريقة تعلمتها حديثاً، خصوصاً وأن جمهوراً كبيراً من شعراء الكلية يقيسون أبيات قصيدتهم بالقشة". هنا كتب صوايا الى رستم البيتين التاليين: إن لم تنظم يا رب الشعر سللت عليك القرضابا فأجب رحماك واسترنا وامنع يا صاح الأسباب وفعل صاحب "المنارة" جرجي سابا الشيء نفسه حين قال لرستم: ألقيت في أنس الحضور منارة وأنا نسيت "منارتي" في غرفتي فنظمت أشكركم وأخبر رستماً أني وجدت بحمد ربي قشتي وكان جواب رستم نثرياً إذ وعد جرجي سابا بقصيدة لمجلته. أما داود مجاعص فقد كان كريماً وعملياً، إذ زوّد صاحب "المنارة" بقصيدة غزلية شبه مرتجلة، توّجها بمقدمة صغيرة قال فيها إن "حضرة الرصيف الفاضل شاعر كبير كما أنه كاتب بليغ". وورد في القصيدة التي تحكي قصة مراهقة: راحت بشكواها الى أمها والأم أدرى بمصاب البنات زنبقة تطلع من كمّها بلفتة الظبي وعين المهاة تهافت الصبح إلى شمّها فعطرت أنفاسه المشتهاة وتحت عنوان "موقعة رأس بيروت" نشرت "المنارة" خبراً طريفاً يتعلق بصدور "مذكرات جلب للطلاب والأساتذة: أديب رحال، الياس عبود، جرجي صوايا، الياس حداد، الدكتور حليم بركات، جميل الراسي، أسعد شحادة". أما سبب اعتقال المثقفين من طلاب الجامعة الأميركية وأساتذتها، فيعود الى "ما حدث السنة الماضية عندما هجم بعض أهالي الحي على التلامذة الساكنين في بيت بسول، وكيف أن التلامذة قابلوهم بالمثل وأظهروا بسالة ونشاطاً خارقي الحد، وكيف أن المعركة أسفرت عن جرحى عدة". يبقى أن العدد الأول من "المنارة" المفقود صدر في 17 كانون الأول ديسمبر 1905، وأن أمين توما كان بمثابة "صفّيف" المجلة التي كانت تصدر مرة كل أسبوعين، ناهيك بأن بناية بسّول العتيقة ما زالت تستقبل طلاب الجامعة ولكن من غير خناقات ومذكرات جلب. * أخذت صورة الغلاف من أحد الأعداد المحفوظة في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.