"قال لهم موم: ولدت عام 1617 في باريس، درست الفن على فولين في باريس، رويس في تولوز، هيمكير في بروج. بعد بروج، عشت وحيداً. في بروج أحببت أمرأة وكان أن أحرق وجهي كلّه. خلال عامين، اخفيت وجهاً كريهاً في الشاطئ الصخري أعلى رافيللو في ايطاليا. الأشخاص اليائسون يعيشون في الزوايا. كل العشاق يحيون في الزوايا. كل قراء الكتب يعيشون في الزوايا. اليائسون يحيون معلقين في الفضاء مثل الوجوه المرسومة على الجدران، لا يتنفسون، لا ينطقون، لا يستمعون الى أحد". بهذا الفصل تبدأ رواية "شرفة في روما" للكاتب الفرنسي باسكال كينيار الصادرة حديثاً عن دار غاليمار في باريس. أقول لهذا الفصل لا بهذا المقطع تبدأ الرواية، ذلك أنها تتشكل من فصول قصيرة، متفاوتة الأحجام كأن لا يتجاوز بعضها بضعة سطور مما يعطي فكرة مسبقة عن ماهية الكتابة. موجزة ومقلّة ومقتضبة وملمومة وداخلية ومصيبة وحارقة وقاطعة ومبهرة و... أما من لا يكترث من القراء سوى بالبنيان تماماً القصصي أو بمجرى الأحداث، فتكفيه قراءة هذا المقطع كي يطلّ تماماً على مكوّنات الحدث الروائي، ذلك أن باسكال كينيار يستخدمه كحجة للولوج الى عالم روائي أخر وكتابة أخرى. هناك، حيث تمضي الشخصيات في أسفار داخلية أو خارجية تساعدها على تأمل العالم والحياة، الانتماء إليهما أو البقاء على هامشهما. يكتب باسكال كينيار من الضفة، لذلك تمتاز مواضيعه بلا زمنية واضحة وبحسٍ ماضوي، حتى ولو كان القرن السابع عشر هو قرنه الثقافي والإبداعي بامتياز، ألم يقل ذات يوم في معرض تعليقه على خياره الزمني هذا: "بودي لو أقرأ في العام 1640"؟ ربما لأن باسكال كينيار كاتب أوروبي بامتياز بمعنى انتمائه الروحي والفكري والثقافي الى أوروبا التنوير والثقافة والعلم والذائقة والمعرفة، أوروبا المغسولة بالضوء أو الغارقة في رماديّ السُحَب الواطئة والطبيعة النائية المكتئبة، أوروبا الشعراء والفنانين والموسيقيين والرسامين الذين يكنسون مساحتها الشاسعة ويتنقلون بين جوانبها كمن يجوب رحاب ريف منبسط وناء. يكتب باسكال كينيار من الضفّة أيضاً لأن في كتابته علماً كثيراً وإلفة معرفية عميقة مع كل أشكال الفنون إذ تتحول معظم شخصياته المنتمية فعلاً الى التاريخ أو المخترعة، الى مناجم انسانية ثرية كما هي الحال في روايته الشهيرة "كل صباحات العالم" التي تحولت الى فيلم سينمائي وتحكي عن علاقة الموسيقى سانت كولومب بتلميذ يدرس الموسيقى عليه، أو كما هي الحال في روايته الأخيرة "شرفة في روما" التي تروي قصة رسام يدعى موم يخترع "الطريقة السوداء" في نقش الألواح النحاسية التي تطبع منها رسومه الدينية والجنسية على السواء. هكذا تغرف كتابة باسكال كينيار من مخزون ثقافته الفنية الواسعة وحسه الإبداعي المشحوذ، كي تأتي رواياته مصقولة ومشغولة كما الجوهرة الثمينة التي تشع بألق عظيم وتبقى مستترة وعصية من حيث سرّ اكتمالها وغموض مكنوناتها واقتضاب موادها الأولية. ربما لأن معرفة باسكال كينيار ليست نتاج الكم أو التوثيق، وربما لأنها في أساسها نابعة من السؤال الأصلي الذي ما فتئت تطرحه كل الفنون، فنراها تنطلق منه لتعود فتطرحه من جديد: كيف يتم ملء كل هذا الخواء والغياب والانسحاق؟ بما هو أقوى منه حتماً: أي بما ينتجه كل ذلك من حزن وكآبة وانكسار، بإعادة جوهر السؤال الإنساني الفني الى الأرض المحروقة التي أوجدته، عله يخلق طبيعته الأخرى حتى ولو كانت طبيعة ميتة، عله يبتكر تلك الجمالية التي لن يكتسب من دونها ذبولُ الروح ووجعها، أي معنى أو مضمون. فروايات باسكال كينيار موجعة في صفاء جماليتها. إنها الدرجة الأخيرة أو القصوى من وضوح الروح، ذروة الوعي في اكتمال خسارته وانسحاقه ولا جدواه، اللحظة الملتمعة الآيلة حتماً الى الاندثار. قمة الجمال في اكتمال غيابه، أقصى الحب في انتهائه لدى حلول لحظة الفراق، لهاث الحياة وراء جرح لا معنى لمرور الزمن من دونه، الانحناء احتراماً أمام العذاب لأنه غذاء الروح ومعناها الأخير. كل ذلك من دون فجيعة أو شكوى أو نواح، بل بنبل وأناقة وايجاز وفوقية تُخرج الشخص أو الشخصية من وحول النهر ومجراه، كي تضعه على الضفة، كي تجعله منسحباً ونائياً تستوي لعينيه ولأحاسيسه شمولية ذلك المشهد الإنساني العام، كما ينبسط السهل فسيحاً ليعين من يقف وحيداً على قمة جبل شاهق. في رواية "شرفة في روما" يقول موم الذي أحرق الحامضُ الذي يغسل به لوحاته النحاسية وجهه ما يلي: "هنالك عمر لا نعود نلتقي معه بالحياة، وإنما بالزمن. نتوقف عن رؤية الحياة تحيا. نرى الزمن الذي يلتهم الحياة وهي نيئة. حينذاك ينقبض القلب نتشبث بقطع أخشاب لكي نرى أبعد قليلاً المشهد النازف دماً من بداية العالم الى أقصاه وكي لا نهوي فيه". تلك هي الشرفة التي يطل منها موم على العالم. فهو بعد أن وقع في غرام نائي ابنة جاكوبز، معلم الرسم الذي يدرس موم في محترفه، والذي قام خطيبها بإحراق وجهه بالحامض بعد أن فاجأهما معاً، سيبدأ السفر عبر أنحاء أوروبا هرباً من ناني التي خانته وهجرته بعد أن تشوهت ملاحمه، ليستقر زمناً في روما حيث سيتشبّث بأخشاب عمله الإبداعي، كخشبة خلاصه الأخير. هكذا سيغرق موم في فنه كلّياً وسيكرّس له كل سنوات شبابه هرباً من ذكرى ذلك الحب الموجع الذي سلبه وجهه وروحه. وهناك سيكتشف أسلوباً جديداً في نحت أو نقش اللوحة النحاسية يطلق عليه اسم "الطريقة السوداء"، أي تلك التي تنبثق من العدم، من السواد الحالك لأنه الأصل، بدل أن تخطّ اللوحة البيضاء باللون. والطريقة هذه ليست سوى أسلوب كينيار بالكتابة، أي حُفر الجُمَل بأداة حادة، غسل المعاني بحامض المعرفة، والنقش في السوادسي يتشكل المشهد الروائي بؤدة، من تدرّجات الأسود والأبيض والرمادي، بعيداً من هشاشة اللون، لا مصداقيته وهباته. كل فصل من فصول "شرفة في روما" لوحة على حدة لن تكتمل الا باكتمال الجدارية التي تتألف منها حياة هذا الفنان الشاب الذي سينتهي منتحراً وهو في سن الخمسين بعد أن يرفض الفرصة الأخيرة التي ستقدمها له الحياة حين يكتشف أن ناني أنجبت منه شاباً جاء يبحث عنه. وكل فصل لوحة مكتملة بذاتها تصف مشهداً حقيقياً يقوم موم بنحته في لوحته النحاسية، أو مشهداً تقوم الحياة بنقشه في إدراك موم ووعيه للحياة. هكذا يتفاوت المشهد الروائي في رواية "شرفة في روما" بين حسّية وشبقية مطلقة وبين صوفية أو قدسية قصوى، فيما كينيار يتهادى على سطح كتابة قد تبدو للوهلة الأولى آسنة، لا تعصف الأمواج بها. لكننا لا نلبث أن نكتشف تلك الحصى الصغيرة تُلقى على صفحاتها، فترتعش مياه الكتابة، ثم تتشكل تلك الدوائر المركزة التي تروح تتوالد بعضها من بعض، تتدافع وتتسع حتى تطول الضفاف، تلك التي يجلس فيها القارئ الذي ما أن يغادر شرفة باسكال كينيار حتى يشعر بابتلال روحه المشبعة بندى أرقى الكلام وأصفاه.