رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    محترفات التنس عندنا في الرياض!    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    رقمنة الثقافة    الوطن    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    أجواء شتوية    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    القبض على إثيوبي في ظهران الجنوب لتهريبه (13) كجم «حشيش»    نائب وزير العدل يبحث مع وزير العدل في مالطا سبل تعزيز التعاون    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رائدة الرواية الجديدة في فرنسا رحلت عن 99 عاماً . ناتالي ساروت : عالم روائي تجريبي عماده اللغة والشخصيات ضمائر وأصوات
نشر في الحياة يوم 22 - 10 - 1999

كانت ناتالي ساروت تردّد دوماً أنها ترغب في أن تودّع العالم بعد أن يودّعه القرن العشرون فتكون هكذا خير شاهد على عصر بكامله. غير أنّ الحياة لم توفّر لها متعة الوداع تلك فماتت قبل أن "يموت" القرن العشرون، عن 99 عاماً. ولئن عاشت كلّ هذه الأعوام الطويلة فأنّ حياتها لم تكن صاخبة على غرار بعض الذين عاشوا مراحل العصر، حروبه وما طرأ عليه من تحوّلات. فهي "ترهّبت" للكتابة كما يقال وأمضت أعوامها في ما يشبه العزلة الجميلة منصرفة الى عالمها الذي بنته داخل اللغة وهو عالم روائي بامتياز ولكن قليل الشخصيات والأحداث: عالم تصنعه اللغة باستمرار، اللغة وما وراءها، اللغة وما قبلها وبعدها، اللغة التي كما تعبّر تلتقط "تلك الحركات الداخلية التي تنزلق بسرعة على عتبة وعينا".
ليست ناتالي ساروت روائية كبيرة فحسب، بل هي "ظاهرة" بذاتها. ولا يمكن أن تُقرأ إلا انطلاقاً من فرادتها داخل الحركة الروائية الفرنسية والعالمية على السواء، بل انطلاقاً ممّا أضافته الى الأدب العالميّ وممّا أسسته داخل فضاء الكتابة. فالصناعة الروائية استحالت معها كتابة تتخطى حدود الرواية لتطلّ على آفاق أشدّ رحابة والتباساً. وقد باتت تشعر في مراحلها الأخيرة أن نصوصها الروائية شارفت تخوم الشعر فراحت تتحدّث عنها وتصفها كما لو أنها تتحدّث عن القصائد وتصفها. "صرت أكتب النثر كما لو هو الشعر" تقول. وإذ تشبّه نثرها الروائي بالصنيع الشعري لا تتوانى عن طرح الأسئلة التي يطرحها الشعراء عادة: "ما الذي يجعل الشاعر يكتب قصيدة؟ هذا يحدث تلقائياً عندما يتحرّك في الكاتب شعور معيّن".
ولئن كانت ناتالي ساروت "نجمة" الحركة الروائية الجديدة في فرنسا والعالم أو ما سمّي ب"حركة الرواية الجديدة" فهي تخطتها وبدت مختلفة عن رفاقها الذين أعلنت معهم "الثورة" الجديدة تماماً مثلما بدوا هم بدورهم مختلفين واحدهم عن الآخر. إلا أنّها كانت بحق رائدة هذه الرواية الجديدة حتى وان أكملت ثورتها وحدها لاحقاً وعلى طريقتها الخاصة جداً. وقد وجد ألان روب غرييه "أبو" الرواية الجديدة في كتابها "عصر الشك" الذي صدر في العام 1947 "بيان" الرواية الجديدة فانطلق منه ليؤسس نظريته التي كانت نظرية المجموعة ككلّ. لا شك أن ساروت سبقت "الرفاق" في كتابة النصّ الروائي الجديد وفي التحرّر من إرث الرواية التقليدية ومصطلحاتها الراسخة كالعقدة والشخصيات والخاتمة وسواها وفي كسر هالة الزمن وحدود المكان. وكتابها الأوّل "انتحاءات" الذي حمل الملامح الأولى لتجربتها الثورية الجديدة كانت كتبته في العام 1933. لكنّ الناشرين رفضوه في حينه حتى اقتنع أحدهم به وعلى مضض فنشره في العام 1938. آنذاك لم يثر الكتاب "الغريب" إلا اهتمام قلّة من النقاد والأدباء فوصف ب"النص المغلق أو الهرمسي" وب"الرهافة الشعرية". ولكن حين أعادت دار مينوي الشهيرة اصداره في طبعة ثانية مع رواية ألان روب غرييه "الغيرة" عام 1957 مطلقة حركة الرواية الجديدة سرعان ما استعاد الكتاب حقه الضائع. وكان حينذاك بمثابة الركيزة الأولى للانطلاقة الروائية الجديدة التي وجدت أيضاً في "عصر الشك" منطلقاً نظرياً سوف يترسّخ لاحقاً في كتاب ألان روب غرييه الشهير "نحو رواية جديدة" 1963. وكانت ساروت تعترف دوماً أنّها سبقت روّاد الرواية الجديدة تبعاً لتقدّمها إياهم في السنّ. لكنّها في الجوهر كانت تختلف عنهم اختلافاً بيّناً سواء في رؤيتها الى العالم أم في لغتها أم في أسلوبها وبعض التقنيات السردية. فتجربتها داخلية بامتياز على عكس تجربة غرييه مثلاً التي انصهرت في ما سمّي "مدرسة النظرة" أو تجربة ميشال بوتور التي تجلّت في "استخدام الزمن" أو صموئيل بيكيت الذي انصرف الى عالمه العبثي. وهي تعترف أنها طالما كانت "على حدة" وضدّ التيار حتى عندما شاركت رفاقها ثورتهم. وكم أصاب جان بول سارتر حين تبنّى روايتها "صورة مجهول" 1947 وكتب مقدمتها مسمّياً اياها "الرواية المضادة" أو "اللارواية". وقد وصف أدبها ب"الصعب والممتاز". وهكذا ظلّ الأدب الذي كتبته بل هو راح يزداد صعوبة وانغلاقاً. ولعلّ روايتها الأولى هذه "صورة مجهول" بدت أقرب الى الاعتراض على فن الرواية. فهي تدمّر الرواية في الوقت الذي تبنيها. تصبح الكتابة هنا فعل بناء وهدم معاً: رواية تُكتب داخل رواية لا تنتهي إذ من المستحيل أن تنتهي فما من حكاية تروى وما من شخصيات وعقدة. انها الرواية التي تفكّر في نفسها وتعيد النظر في معطياتها المفترضة. أما "الأشخاص" فهم أقرب الى الأطياف الناطقة: هي، العجوز أو الأب والابنة ثمّ الراوي الذي يؤدّي دور "الجسم الموصل" كما يقال في الفيزياء. وان كانت "صورة مجهول" روايتها الأولى ذات "البنية المتواصلة" كما أشار غايتان بيكون فلأنّ كتابها الأول "انتماءات" كان عبارة عن نصوص قصيرة أو لوحات أو مقاطع سرديّة مختصرة صاخبة ب"ذبذبات داخلية" تكاد لا تُدرك وخالية من أي بنية أو ذريعة أو أسماء أو شخصيات... كلّ ما هناك ضمائر متعدّدة كال: هو وال: هم وال هن... وجميعها تتبادل كآبتها وانهيارها النفسي وفراغها خلال حوارات قاسية وعنيفة ولكن على قدر من البراءة والحكمة معاً. وان استطاعت هذه النصوص أن تكرّسها للفور ككاتبة ذات صوت مختلف وباهر وأن تنمّ عن لعبتها الروائية المقبلة فأنّ كتابها "عصر الشك" استطاع أن يرسّخ الناحية الأخرى من شخصيتها الأدبية: ناتالي ساروت الناقدة الثاقبة النظرة والحادّة الرؤية. وبدا الكتاب منذ صدوره أقرب الى المرجع النقدي والنظري لا للفن الروائي الذي رسّخته ساروت فقط وإنّما للرواية الجديدة بل والحديثة عموماً. ولعلّها عبر النصوص النقدية الأربعة التي ضمّها الكتاب تمكّنت، كما يقول الناقد جان إيف تادييه من "تجديد النقد الأدبي" عبر الآراء التي تطرحها أوّلاً ومن دون أيّ ادعاء ثم عبر الشكل الجديد الذي تبنّاه خطابها النقدي وكذلك الخصائص الفريدة المستقلّة عن النظريات الرائجة. وبدا الكتاب أشبه بما يسمّى "مقالة" في الرواية تبحث في ماضيها وحاضرها ومستقبلها كنوع أدبي: من دوستويفسكي الى كافكا، من بلزاك الى بروست، من فلوبير الى سيلين... تبحث ساروت عن إرث الرواية الحديثة، عن إرثها الثقافي والتقني لتنطلق في بناء نظريتها الخاصة، نظرية الرواية الجديدة. وهنا لا تتمالك عن اسقاط الشخصيات والعقدة والحلّ وبقية المصطلحات "القديمة" التي لم يبق لها أيّ دور. إلا أنّ ساروت لم تبنِ نظريتها من عدم بل انطلاقاً من التجربة التي كانت باشرت خوضها. فالنظرية الروائية لم تسبق الكتابة الروائية لتمهّد لها الطريق بل هي رافقتها وكأن الواحدة تكمّل الأخرى. وحين تتحدث ساروت عن انفجار الإطار الروائي فإنما انطلاقاً من تفجيرها ذلك الإطار ولا سيّما في روايتها "صورة مجهول". وقد انفجر الإطار انفجاراً قوياً حتى لم يبق من شيء، بل لم تبق سوى اللغة التي تترجح وتتردّد بين "الانتحاء" والفضاء المشترك، لم يبق كما تقول ساروت نفسها سوى "ذاك الفيض الهائل من الأحاسيس والصور والعواطف والذكريات والنزوات... في حين يندفع فينا باستمرار سيل الكلمات من دون توقف".
قراءة مزدوجة
ليس من السهل دخول عالم ناتالي ساروت الروائي فهو يفترض قراءة مزدوجة، قراءة أولى وثانية، قراءة الظاهر وما وراء الظاهر كيلا أقول الباطن. عالم روائي ينفي ذاته أكثر ممّا يرسخها، عالم يختلط فيه زمن الكتابة وزمن الرواية حتى يصبح من الصعب الفصل مَن يكتب ومَن يروي، بين الشخصية والصوت، بين الضمير والهمس، بين الرجل والمرأة. عالم فارغ ومملوء في الحين نفسه: لا شخصيات ولا أحداث هنا ولكن ثمة لغة تتوالد وتتقطع ومونولوغات ذاتية وحواريات هي أشبه بالمونولوغات وكتابة روائية تجهد في توكيد استحالتها، إرهافات وتوتّرات حميمة تظهر وتختفي "ولم يكن من المستحيل أن أوصلها الى القارىء، كما تقول ساروت، إلا في صور تمنحه ما يوازيها وتجعله يلتمس أحاسيس مماثلة". إنّها "الرواية المضادة" حيثما الزمن لم يبق زمن "الحياة الحقيقية" بل أضحى زمناً حاضراً يتسع ما لا يقاس".
تعترف ناتالي ساروت أنّ رواياتها لا تدعو الى "التسلية" و"الراحة". فلا مرويات هنا ولا مفاجاءات، بل لغة مزروعة بالاشراك، لغة متقطّعة، وجمل لا تكتمل في معظم الأحيان، كثافات ونثر بات ينثال انثيالاً من غير أن ترك أو تقع في "الأطناب". فهي تلتقط "التموجات" الطفيفة التي تخالج القلب والروح. ولعلّ فن ساروت يكمن في اختراعها لغة روائية غير عادية، لغة تصنّف وتصف وتحدّد و"تشيّء"، لغة تستنبط الحياة الداخلية وتكتشف فضاءها الرحب وتضيء "المطلق" الذي يختزنه الكائن في ذاته.
وقد نمّ نثرها عن قدرة هائلة في التأليف والصوغ والصقل والتقطيع. فهي تكتب بتؤدة وتنسج لغتها المتقطعة واللاهثة في أحيان بهدوء ولكن ليس ببرودة. وعندما سئلت عن عدم اكتمال بعض الجمل لديها قالت "عندما يكتشف القارىء نهاية الجملة فلا يعود لازماً أن أنهيها".
هكذا يستحيل فعل القراءة هنا فعل كتابة ويصبح القارىء كاتباً بدوره، كاتباً لنصّ لا ينتهي، بل يُكتب باستمرار. يصبح القارىء متواطئاً في اللعبة ولا يمكث على هامشها، فالكتابة تسعى الى قول ما لا يقال بل الى اكتشاف ما لا يُقال أو يُكتب. من هنا يمكن تفسير إعجابها الشديد برسام "اللامرئي" بول كلي الذي تبنّت مقولته أنّ الفنّ لا يقوم على إبراز ما هو مرئي بل على جعل اللامرئي مرئياً.
وان عمدت ساروت في معظم رواياتها الى حذف أسماء الشخصيات ممعنة في "قتلها" وفي جعلها أطيافاً وأصواتاً فأنّ روايتها "مارتورو" 1953 حملت اسم بطلها نفسه "مارتورو" وكان هو الوحيد الذي يحمل اسماً في الرواية فيما الآخرون هم مجرّد أسماء كالعم والعمّة وسواهما... والبطل هو الراوي نفسه، لكنّه الراوي الذي لا يروي حكاية ما بل هو أقرب الى "المسجّل" الذي "يترجم" ما يصادفه ويلقاه: بطل سلبي بامتياز، شاب ولكن مريض، تخصص مبدئياً في الهندسة الداخلية لكنّه لم يحقّق حتى الآن أي إنجاز. أمّا في رواية "بلانتاريوم" أو ما يترجم القبة الفلكية الاصطناعية التي صدرت في العام 1959 فتطلق ساروت أسماء على شخصياتها. لكنّ أسماءهم لن تضيء ملامحهم ما يكفي أو ما يجعلهم أشخاصاً أسوياء أو عاديين: جيزيل وألان والعمة بيرت... وتصفهم الكاتبة جالسين معاً وصفاً ينفي عنهم أي حياة طبيعية ويؤكد حالات القلق والخوف والهجس التي تنتابهم: "ثنائي رائع، جيزيل تجلس قرب ألان. عيناها الزهريتان تلتمعان. ذراع ألان فوق كتفيها. تلاويح وجهها الناعمة توحي بالاستقامة والطيبة. العمة بيرت تجلس الى جوارهما. يدها الصغيرة والمتجعّدة ملقاة على ذراع ألان موحية بجو من الثقة الحنون. ولكن مَن ينظر اليهم يحسّ أنّ ثمة انزعاجاً أو ضيقاً. ماذا يحلّ بهم؟". هكذا تدفع الكاتبة قارئها الى ولوج عالم هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا سوى "أخيلة" وليسوا هم أنفسهم كما تعبّر.
أمّا لعبة ساروت الروائية ذات المنحى التجريبيّ فتتجلّى أكثر ما تتجلّى في روايتها "الثمار الذهبية" 1963 إذ تعتمد تقنية الرواية داخل الرواية ولكن لا لتقصّ أو تروي حكاية أو أحداثاً أو تقدم شخصيات ما. فالبطل هنا هو الرواية نفسها التي تحمل العنوان نفسه. أما الموضوع أو ما يربط الصفحات بعضها الى بعض فهو ردود الفعل التي تثيرها الرواية في طويات "القراء" الذين أحبّوها أو كرهوها. وفي الختام تعلن الرواية نفسها للقراء المزعومين: "أنكم ما زلتم هنا، في "الثمار الذهبية". وبعد تسع سنوات على صدور "الثمار..." تصدر ساروت رواية قصيرة أشدّ غرابة وقد حملت عنواناً هو عبارة عن سؤال "هل تسمعها؟" 1972. و"الهاء" هنا لا ترجع الى شخصية أنثوية كما يتوهّم القارىء للوهلة الأولى بل الى ضحكات يسمعها رجل أو يظن أنّه يسمعها وهي تأتي من غرفة الأطفال في البيت فيما هو يجالس صديقاً له: ضحكات ساخرة، قاسية، تتبدّل وتختلف من حين الى آخر. أما الرجل أو "الأب" كما سيبين لاحقاً فهو من هواة جمع الأعمال الفنية والأثرية.
ليس من السهل رصد عالم ناتالي ساروت المتعدّد و"المتاهي" والكثير المزالق ولا سيّما أنه كان يزداد صعوبة وانغلاقاً من رواية الى أخرى. فالروائية التي وجدت في الكائن البشري "هاوية" تملأها الرغبات والهواجس والأحاسيس الغامضة راحت تفتنها اغراءات تلك الهاوية جاعلة من اللغة لا خشبة انقاذ وإنّما أداة للسبر والاستبطان. ولعلّ رواياتها الأخيرة من مثل "أنت لا تحبّ نفسك" 1989 و"هنا" 1995 و"افتحوا" 1997 تمثل خير تمثيل استسلامها لهاوية اللغة ومتاهة الكتابة، وكذلك عزلتها الداخلية وعنادها الأدبي وإصرارها على خوض الرواية خوضاً غير معهود. وفي هذه الروايات تتخلّى ساروت عن الفن الروائي الذي عرفت به ساعية الى كتابة نصّ مفتوح ومغلق تفترض قراءته الكثير من الهدوء والأصغاء والتأمل. فالكاتبة لم تهجر "عصر الشك" لتدخل في شيخوختها عصر اليقين. فالشك والريبة والقلق لا تزال جميعها بمثابة العلامات التي تضيء الطريق الى عالمها الغامض والملتبس، وقد يجد القارىء في رواية "هنا" نموذجاً لما آلت اليه كتابة ساروت في مرحلتها الأخيرة، مرحلة الشيخوخة النضرة والمتوقدة.
يبدأ النص الروائي "هنا" عبر ثلاث محاولات في الفصول الثلاثة الأولى يقوم بها الراوي ذاك الكائن الحي لردم ثغرات ذاكرته. انه يحاول أن يجد كلمات أو لحظات سقطت في عتمة الزمن. وتتمثل الفصول الثلاثة الأولى في ثلاث استعادات تعمد الكاتبة من خلالها الى بناء التجربة في أبعادها الداخلية. أما المحاولات فهي قائمة على البحث عن اسم لإمرأة فيليبين واسم لشجرة شجرة الأثل واسم لرسام ايطالي ارسيمبولدو. انه البحث عن "التسمية" إذاً. ففقدان الإسم يعني السقوط في عتمة الذاكرة وعودة الإسم عودة للذاكرة نفسها. تمثل المداخل الثلاثة حال الاضطراب التي تعرو الراوي أو الرواة الثلاثة الذين ليسوا إلا انعكاساً "مرآوياً" للكاتبة كي لا أقول للراوي المنفصم والمبعثر في انفصام ذاكرته وتبعثرها. وان لم يكن كتاب ناتالي ساروت "هنا" رواية فهو لم يخلُ من بعض العناصر الروائية كالسرد والراوي والمشهد و"المونولوغ"، لكنّ العناصر هذه جميعاً سبكتها الكاتبة في قالب "لا روائي" قائم كما تعبّر هي على "الحركات الداخلية" انطلاقاً من أفكار وتأملات وتداعيات،. وكما تتعدد المداخل تتعدّد المخارج أيضاً. وإذا الكتابة كما رأى اليها سارتر نوع من "اقتفاء الأثر" أو "البحث" وهما مغامرتان تجيدهما ساروت جيداً كما قدّمتها كتبها السابقة.
طوال سنواتها الطويلة لم تمل ناتالي ساروت الكاتبة الفرنسية الروسية الأصل الكتابة يوماً بل هي منذ كتابها الأول "انتحاءات" راحت تنصهر داخل تجربتها المميزة والخاصة وهي بلا شك واحدة من أهمّ التجارب الأدبية العالمية المعاصرة. ولعل الكاتبة التي شاركت في اعلان ثورة "الرواية الجديدة" في فرنسا والعالم لم تتراجع يوماً عن أهدافها. بل انها ازدادت صلابة ومتانة من كتاب الى آخر. وفي وسط الشهرة العالمية التي تمتعت بها لم تحاول ساروت أن تتنازل عن موقعها الطليعي. فهي ظلت تكتب ما تستحيل كتابته، تكتب لتقول ما يصعب قوله أو يستحيل. ولعلها كتابة خاصّة جداً، كتابة غير متصالحة مع "الأنواع" و"المدارس" الأدبية ولا مع اللغة والعالم. إنها كتابة الحضور والعدم، الحياة والموت، الحقيقة والماوراء، بل كتابة "الانتظار - النسيان" كما يعبّر موريس بلانشو. وان لم تكتب ناتالي ساروت كثيراً نظراً الى العمر المديد الذي عاشته فلأنّها كانت تكتب كما لو أنّها تصغي وتتأمل، بهدوء الصوفيين وتؤدة الرائين. ولم يمضِ يوم في حياة ساروت لم تكتب فيه، سواء بالكلمات أم بالصمت. ولا غرابة أن تقارن بين المعجزة وفعل الكتابة قائلة "فجأة تحصل المعجزة وتكرّ السبحة كما أشاء. انني استمتع بالكتابة ولولا ذلك لما كتبت".
* توفيت ناتالي ساروت في باريس قبل ثلاثة أيام عن 99 عاماً. وهي روسية الأصل، ولدت في ايفا نونو ضواحي موسكو عام 1900 وكان اسمها ناتاشا تشرنياك ثمّ هاجرت الى باريس واستقرّت فيها مع والدها. درست في السوربون وفي أكسفورد وفي برلين وتخرّجت محامية. ثم انصرفت الى الكتابة محترفة إياها كروائية وكاتبة مسرحية.
بؤس الترجمة
كان من الممكن ان يكون تعريب رواية "طفولة" للكاتبة ناتالي ساروت حدثاً أدبياً عربياً نظراً الى ان المكتبة العربية تجهلها وتفتقد كتبها. لكن الترجمة التي أصدرتها دار شرقيات في القاهرة قبل عام خيّبت هذا الأمل إذ بدت على قدْر كبير من الركاكة لغة وأسلوباً. ويمكن بسهولة إحصاء أكثر من مئة خطأ لغويّ صرفاً ونحواً في الصفحات الخمسين الأولى من الرواية إضافة الى الاخطاء الفاضحة في الترجمة، مما يجعل قراءتها مستحيلة. أما اللغة العربية المعتمدة فهشّة وضعيفة ولا تليق أبداً بنص إبداعي جميل صاغته ناتالي ساروت ببراعتها اللغوية ومهارتها. واللافت أن المترجمة لورين زكري هي دكتورة في الآداب وقد راجع الترجمة العربية دكتوران آخران هما أمين سامي واصف وإيلين جرجس وكذلك محمد وعبدالفتاح عبد الدايم.
وكتاب "طفولة" هو أشبه بحالة روائية خاصة في نتاج ناتالي ساروت وقد استعادت فيه شذرات من طفولتها "الروسية" البعيدة. لكنها لم تشأ ان تكتب سيرة ذاتية بل جعلت من تلك "الطفلة" بطلة صغيرة ولكن في المعنى الأليف للبطولة. وأصرّت ان تعالج حكايتها من خلال مسافة ما، تفترضها عادة الكتابة الروائية. فلم تدمج بينها وبين الطفلة التي كانتها ذات يوم حتى وإن حملت الطفلة بعض ملامحها. وهي المرّة الاولى ربما تكتب ناتالي ساروت بصفاء كلّي ووضوح وتتخلّى عن الإلتباس السرديّ خارجة من قوقعة الكتابة الصعبة والمعقّدة. إنها هنا تروي ببراءة وفتنة بل هي ترسم بدقّة ملامح طفلة هي أقرب إلى الشخصية المنفصلة عن ماضيها.
وناتالي ساروت التي رفضت دوماً ان ترسم "صورة شخصية" لنفسها تستعيد في الثالثة والثمانين من عمرها 1983 الطفلة التي كانتها ولكن من دون ان تكتب سيرتها بل كتبت "قصّتها". وتقول ساروت في حوار مع مجلة "لير" الفرنسية عن هذه القضية: "حاولت أن أحيي الأشياء التي أتذكرها في أجمل طريقة. ولكن مع رقابة ذاتية قاسية كيلا أشطح بعيداً عن الواقع".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.