ليس لكل عملية تحقيب إلا أن تكون تقريبية، بالقوة، وبما يشبه الضرورة. انها مما يتواضع عليه الناس، فيختارونه أو يسلمون به تعسفاً، أي على نحو يحتمل الخطأ، لتمييز الماقبل عن المابعد، بأكبر قدر من الوضوح ممكن. الهاجس العملي أو مطلب الاستساغة هما ما يفرض مثل ذلك، غير أنهما كثيراً ما يفضيان الى تصليب كل تحقيب، فيستوي حداً فاصلاً ونقطة انطلاق إلزامية لكل تفكير. على المؤرخين والباحثين أن يسودوا الصحائف بعد ذلك، ليفيدونا، على عكس ما علمتنا المدارس، بأن العصور الحديثة لم تبدأ مع سقوط القسطنطينية، أو سقوط غرناطة، ولا الحقبة المعاصرة مع الثورة الفرنسية... لنراهن بأن نظراء وزملاء لهم في المستقبل سيعكفون بدورهم على تسويد الصحائف لدحض تلك الخدعة التي تتربص بنا جميعاً، والقائمة على مصادفة العولمة، وتداعياتها المتعددة، مع حلول الألفية الثالثة، وأنهم سيقترحون البحث عن مقدماتها وعن روادها في زمن سابق ومتقدم. ليس في نيتي سوى ابداء قدر من الحيطة والحذر في تناول الخصوصية والعولمة وتطبيقهما على العالم العربي، ومن ورائه بيئته الأوسع المتمثلة في العالم الاسلامي، وذلك بهدف طرح الفرضية التالية: إذا كنا لا نعني فقط بمصطلح العولمة "الاقتصاد الجديد"، وما يلازمه من ثورة في الوسائل المعلوماتية تغذي ذلك الاقتصاد ويغذيها، بل كذلك مجمل الظواهر الجديدة من سياسية وايديولوجية وجغرافية سياسية، ومن إعادة تشكيل للكيانات وإعادة صياغة لبنى العالم، ومن أزمات واهتزازات نتجت عن نهاية الحرب الباردة وما خلفته من فراغ جيوستراتيجي، فإنه قد لا يكون من الخطل الزعم بأن العالم العربي، وامتداداته الاسلامية، لم تتوقف عند تلقي اثار ذلك التحول، بل أنها كانت، في أفضل الحالات كما في أسوئها، بل غالباً في أسوأها مع الأسف، من رواد العالم الذي بصدد التشكل تحت أعيننا، ومن بين أول من رسم قسماته الأولى، أو على الأقل بعض تلك القسمات، ومن بين أول من "حدس"، وان جزئياً، واقعه الآتي، باذلاً في ذلك ثمناً باهظاً في غالب الأحيان. سأتوقف عند حدثين، يبدوان محملين بدلالة خاصة ويتسمان بصفة التأسيس في هذا الصدد، حدثا خلال الحرب الباردة، أي ضمن ظرف دولي كان لا يزال يحكمه بقوة، منطق المعسكرين، لكنهما تمكنا، الى حد كبير، من إبطال ذلك المنطق، فاستبقا نهايته، وتموضعا، قياساً له، وقبل الأوان، في ما بعدٍ يتجاوزه. والحدثان المعنيان هما من ناحية الثورة الايرانية، ومن ناحية أخرى الحرب الأهلية اللبنانية. صحيح أنه يتوجب بعض الحذر وقدر من التمييز في مقاربة الحدثين المذكورين، كالقول ان الثورة الايرانية لم تحصل في بلد عربي، أو أن الحرب الأهلية اللبنانية، بالنظر الى الفاعلين الاقليميين والدوليين الذين ضلعوا فيها، لم تكن أهلية إلا بقدر نسبي، بل ربما بالغ النسبية، لكن ذلك لا يلغي، في ما يهمنا هنا، أن الحدثين قد "توقعا" بشكل مبكر، بعضاً من الملامح الأساسية لهذا العالم الذي نعيش فيه منذ سقوط جدار برلين. ذلك أنه إذا ما كان باراديغم الهوية يبدو، في زمننا هذا، حاملاً للنزاعات والأزمات والاعتراضات، ونمطاً للتعبير عنها على الصعيد الكوني، فإنه ربما عاد الى كل من الثورة الايرانية والحرب الأهلية اللبنانية كل على طريقته، وما كان لهما من أصداء في العالم العربي، سبق الإسهام في صياغة ذلك الباراديغم على النحو الذي نراه الآن. حيث قدمته الأولى في صيغته "الماكرو" هويتية، ان صحت العبارة، تلك المتمثلة في اسلاموية شاملة وشمولية، جاحدة لكل تمايز داخلي، تتنكب النهوض كتلة صماء في مواجهة العالم الخارجي. في حين أن الثانية قد عبرت عنه في صيغته "الميكرو" هويتية، إن صحت هذه العبارة أيضاً، تلك المتمثلة في الخصوصي والمحلي والإثني أو الإثنوي، سواء لبست لبوس الانتماء الديني أو الطائفي أو لم تفعل. بحيث أنه ربما أمكننا القول بأن حاضر منطقة البلقان ربما كان، بمعنى من المعاني، مندرجاً سلفاً في تلك السابقة اللبنانية، أو أن هذه كانت تنذر به. هذان الحدثان الشرق أوسطيان، واللذان كانا، استطراداً أو من حيث تداعياتهما، حدثين عربيين، كانا، بقطع النظر عن ديناميكية وعن ظروف كل منهما الخاص والذاتية، قد أعلنا عن الاهتزازات الهويتية الكبرى التي يشهدها زمننا هذا واستبقا التعبير عنها. فقد كانا منذ السبعينات! النذر الأولى لفوات الحرب الباردة وللنظام الدولي الذي كان يتأسس عليها ويرتبط بها. بل أن الثورة الايرانية ربما كانت أول تطور سياسي بذلك الحجم، منذ الحرب العالمية الثانية، ينجح في التعبير عن ذاته وفي تأكيدها، خارج إكراهات واقعة الاستقطاب الثنائي، وبدرجة من الاستقلالية غير مسبوقة حيال منطقها الذي كان غالباً على كل شأن دولي، وذلك على نحو لم يقيض لأي من القوى المنضوية في حركة عدم الانحياز أن حلمت ببلوغه. هكذا، وعلى الأقل في ما يتعلق بهذا الجانب، فإن "شعار لا شرقية ولا غربية"، ذلك الأثير لدى الاسلاموية الايرانية، والذي كان له الصدى الذي نعلم في ارجاء العالم العربي، لم يكن مجرد شعار أجوف، بل انطبق على قدر من الحقيقة كبير. كان يمكننا أن نشير كذلك، وان بإيجاز، الى سياسة السلام التي اتبعها الرئيس المصري أنور السادات، وقد كانت أول محاولة لاخراج أحد أكبر نزاعات العالم ذلك العربي - الاسرائيلي من تحكم منطق الاستقطاب الثنائي فيه. أو حرب افغانستان، تلك التي يعتبرها البعض بمثابة فيتنام الاتحاد السوفياتي السابق، سوى أنها كانت بالنسبة له فيتنام قاتلة ومبرمة... ما الذي يمكن استنتاجه من كل ذلك؟ بعض ملاحظات أولية لا تدعي الاحاطة: أولها أن العالم العربي، ومن ورائه العالم الاسلامي، كانا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وان جزئياً، بمثابة محطات الانذار المبكر، التي تنبئ و"تتنبأ" بما كان ينتظر العالم. وقد سُجل إخفاق في التقاط تلك الاشارات وفي استبيان ما من شأنه أن يكون كوني المدى فيها، وهو ما قد يعود الى ذلك النزوع الى اعتبار كل ما هو كوني حاملاً، حصراً، للأنوار والتقدم، أو الى نظرة مفادها أن كل ما يأتي من تلك المنطقة لا يعدو أن يكون ضرباً من "همجية ايكزوتية"، هي من خصوصياتها ومن مواصفاتها الجبلية. أما الملاحظة الثانية، وهي ملازمة لتلك الأولى، فهي القائلة بأن العديد مما نتصوره ظواهر جديدة، يجري بحثها ونقاشها في الندوات وفي اللقاءات، قد تكون في الواقع، على الأقل بالنسبة لبعضها، مشاكل وشروراً أصبحت على قدر من القدم، وأصبح لها تاريخ، بحيث أنها ما عادت تتطلب فقط جهداً استشرافياً، بل وكذلك جردة حساب. والعالم العربي، وبالنظر الى ما سبقت الاشارة إليه، ربما كان نقطة الانطلاق المثلى لمثل جردة الحساب تلك. أما الملاحظة الثالثة، فهي أنه إذا ما كان الوضع السائد حالياً، والمرشح للمزيد من السيادة، في العالم، يحمل اسم "العولمة"، فإنه لا يسعنا، على ضوء ما سبق، إلا أن نقر بأنه نتاج جماعي. ساهم البعض في إرسائه بواسطة الابتكارات التكنولوجية وأسباب القوة المالية والسياسية، في حين ساهم البعض الآخر من خلال استباق أنماط ردود الفعل التي كان على ذلك الوضع الدولي الجديد أن يستثيرها، والأزمات الماثلة وراءه ومن جرائه، والتعبير عن كل ذلك بشكل مبكر، بحيث قد يكون ذلك التمييز الدارج بين من هم خارج العولمة، يناصبونها العداء، ومن هم داخلها، بحاجة الى مراجعة. فالجميع منجرف في تيارها، فاعل فيها ومنفعل. لماذا أخفق العالم العربي، وهو الذي كان له بعض السبق في تحسس عدد من التحديات التي كانت تنتظر العالم وفي الحدس بها، في استثمار ذلك السبق على نحو يمكنه من دعم مواقعه في كنف هذه العولمة الوليدة؟ ربما عاد ذلك الى نزوعه البالغ الى الانكفاء الدفاعي، ذلك الذي يجعله يرى في كل تحول أو تغيير مستجدين، تهديداً يستهدفه وموجهاً ضده بالتحديد. أو ربما لأن نخبه، قد اعتادت تبجيل خطاب الضغينة والركون الى موقع الضحية، تجاه عالم خارجي تصوره على أنه مجحف جائر في كل الحالات، بما يرفع عنها كلفة السعي الى فهمه. أو ربما، وبكلمة واحدة، لأن العالم العربي قد أخفق، في العمق، في تجاوز أفق الحقبة الاستعمارية، فهو لا ينفك يحيل واقعه وواقع العالم الى تلك الصدمة المؤسسة، تلك التي تبقى رحماً وحيدة لكل خطاب أو مقولة أو صورة عن العالم الخارجي. ما هي الآفاق المفتوحة أمام مستقبل العالم العربي؟ هل أننا أمام صياغة تقريبية أخرى... إذاً ما العالم العربي بالتحديد؟ وهل ان تلك التسمية تنطبق على كيان حقيقي وماثل أم انها تسعى الى التستر على خصوصيات محلية ووطنية متنوعة بقدر ما هي عنيدة؟ لقد كان العالم العربي دوماً، خلال العصر الحديث، وبالمعنى السياسي، أقل من مجموعه وفائضاً عن كل واحدة من الدول التي يتكون منها. انه فضاء امبراطوري تنقصه امبراطورية، أو هو حلم امبراطوري لم يتحقق. وهو قد كان، تبعاً لذلك، ضرباً من مفارقة في عصر الدولة - الأمة. غير أن نهاية الدولة - الأمة، وذلك النزوع الذي نلاحظه نحو اجتراح كيانات ما فوق وطنية جامعة، يبدو أنه، في ما يخص العالم العربي، بصدد تأكيد تلك المفارقة عوض أن يؤدي الى تذليلها. إذ أنه إذا ما كان العالم العربي يبدو، على الصعيد الثقافي، أكثر توحيداً من أي وقت مضى، بفعل تعميم التعليم وسياسات التعريب والتداول المطرد للنخب وللمنتوجات الثقافية، ولتزايد وسائط الإعلام "القومية" المدى، إلا أنه، من وجه آخر، لا ينفك، على الصعيد السياسي، يزداد تباعداً وتشتتاً. كيف يمكن تفسير ظاهرة كهذه، محملة بهذا القدر من التناقض؟ لا الوقت المتاح ولا المكان يسمحان لنا بالدخول في تحليل معمق لهذه المسألة. لنكتف إذن بتأويل للأمور ينزع الى التفاؤل... ربما كان العالم العربي بصدد إعادة صياغة مطالبه الهويتية على نحو مستجد ومتميز، من شأنه أن يلائم بين هويته الكبرى الجامعة وهوياته الصغرى المتنوعة والمتعددة. صحيح انه لا يوجد في الخطاب المتداول على صعيد المنطقة، ما من شأنه أن يعد بعد رائق كهذا، إلا أنه يبدو بأن الواقع ربما كان سائراً وفق منطق مغاير. ذلك أن في تراجع الراديكالية الاسلاموية وفي بدء عودة السلام الأهلي الى الجزائر وفي المسار الديموقراطي في المغرب، وفي الانتخابات الايرانية الأخيرة ما قد يمثل اشارات واعدة ومشجعة. قد يكون ما يبدو أن تلك المنطقة تتمتع به من ملكة استشراف قد بدأ يؤشر، هذه المرة، نحو بداية مصالحة مع الذات ومع العالم... أماني كل ذلك ليس إلا؟ ليكن. * كاتب تونسي. والمقالة سبق أن ألقيت بالفرنسية ضمن ندوة نظمها معهد العالم العربي في باريس، في 24 شباط فبراير الماضي في عنوان "العرب على عتبة الألفية الثالثة. بين الخصوصية والعولمة".