هل من امكانية لتسوية، بين العرب واسرائيل، تكون اعادةُ قراءة التاريخ مادتها وحيّزها كما تكون منطلقها؟ لا شك في ان عمل "المؤرخين الجدد"، ذاك الذي جعله حلول الذكرى الخمسين لتأسيس الدولة العبرية راهناً، يمنح هذا السؤال قدراً من المشروعية كبيراً. فقد باشر أولئك المؤرخون هذه المهمة منذ نحو العقد من الزمن، وأنجزوا في ذلك تقدماً يبدو انه قد بدأ يؤتي ثماره على نطاق اوسع من الذي كان له في البدايات، عندما كان ينحصر في دوائر المختصين والأكاديميين. بل يمكن القول ان عمل أولئك المؤرخين يجد في جهد المراجعة ذاك وما آل اليه، او ما قد يؤول، من بالغ الانعكاسات والنتائج على صعيد النظرة الى "الذات"، ابرز ما يسوغه وأكبر نجاحاته وأهم مجالات جدواه. فجهد المراجعة انكب على اللحظة الأشد حميمية في تاريخ الذات، وهي زمن الولادة، وهو غالباً مجال الاسطورة بامتياز، عموماً، وبالنسبة الى كل كيان، وتخصيصاً بالنسبة الى كيان كالاسرائيلي، يحل انبعاثه الى الوجود من عدم سياسي استمر ألفي سنة، منزلة المعجزة. ولأن عمل المؤرخين الاسرائيليين الجدد قد تعلق بهذا الضرب من ضروب المساءلة، فهو يفسح المجال، انجازاً و/ أو وعداً، لحيّز تسووي في قراءة التاريخ، لا فارق ان كان ذلك هدفاً ارادياً وضعه ممثلو هذا التيار نصب اعينهم أم لا. بل يمكن القول ان الاسهام الأساسي لأولئك المؤرخين انما يقع على هذا المستوى. ذلك اننا لو حاسبنا عملهم من منطلق معرفي بحت، فقد لا نجد فيه ما يبهر، وقد لا نعثر فيه على ما يمكّنه من صفة "الجدة"، تلك التي عادة ما تطلق عليه. فهم لم يُثروا علم التاريخ بمنهجية مبتكرة ما كانت معهودة، على ما فعلت مدرسة "الحوليات"، مثلاً لا حصراً، منذ نحو نصف القرن، ولا كانوا السباقين في السعي الى تحرير التاريخ، وحقله، من ربقة الايديولوجيا، وهو ما يعود، تنظيراً وانجازاً، الى فجر الحداثة. وحتى الوقائع التي أماط اولئك المؤرخون اللثام عنها، من ان الحركة الصهيونية قد اقترفت في حق الأهالي الفلسطينيين مذابح وانتهاكات واجتثاثاً لهم بالقوة من أرض كانت وطناً لهم، فكل ذلك كان معلوماً منذ أمد، على الجانب العربي، ووفق الرواية العربية للتاريخ، وهذه لا تقل مشروعية عن سواها. بل ان عمل المؤرخين الاسرائيليين الجدد قد يبقى، من وجهة النظر الوقائعية هذه، على قدر من التقصير والاحتشام. لكن ذلك هو بالتحديد ما يكسب عمل المراجعة ذاك اهميته، فهو لا يتوقف عند الطعن في "الأساطير المؤسسة" لدولة اسرائيل، بطريقة أفعل وأنجع من كل الغاروديات التي تلهفت كثرةٌ منا على تلقفها دون تمحيص، مثيراً بذلك برم وانزعاج عتاة الصهاينة، خصوصاً "الرواد" الذين أنشأوا الكيان في 1948، ممن اعتبروا الأمر طعناً في صنيعهم المباشر. وهو ما يطول، فضلاً عن جانبه العاطفي والشخصي، مصادر الشرعية نفسها، او علة الوجود. بل ان عمل المراجعة يمثل تقاطعاً مع الرواية العربية للتاريخ وانفتاحاً عليها، وإن جزئياً، ويُدخل بذلك الفلسطينيين في قلب تاريخ اسرائيلي، درج من قبل على نفيهم اطلاقاً. ومن وجهة النظر هذه، يمكن القول ان عملهم انما ينطوي على مقاربة اكثر جذرية، في صددها التأريخي هذا، من كل خطاب صدر حتى الآن عن حركات السلام داخل الدولة العبرية. فحيث تعود هذه الحركات، في تحقيبها لمعاناة الفلسطينيين، الى الاحتلال الناجم عن هزيمة 1967، وتتوقف عنده منطلقاً، يذهب المؤرخون الجدد الى احلال تلك المعاناة وإدراجها في عمل التأسيس نفسه، وفي لحظته التكوينية، فتأتي الوقائع بذلك لتشوب نقاءً كانت الاسطورة تزعمه وتدعيه. وإذا كان ذلك لا يعني أن الاسطورة تلك قد انهارت، حيث انه لا شك بأنها ما زالت تضطلع لدى غالبية من الاسرائيليين بوظيفة تحميها من مثل ذلك المآل، فإنه يعني مع هذا انه لم يعد بإمكانها ان ترتقي الى صلابة الوقائع، في نظر اصحابها، وهو ما يمثل خطوة لا تجب الاستهانة بها. هل من امكانية للقيام بمراجعة للتاريخ على الجانب العربي، تمكّن من الالتقاء مع جهد المؤرخين الاسرائيليين الجدد وتردفه بجهد مقابل، يكون من عناصر التأسيس لتسوية عادلة لا يمكنها تعريفاً ان تقوم على حسابات القوة السياسية والعسكرية وحدها؟ ذلك انه اذا كان في وسع مراجعة واحدة ان تهدم سرداً، فإن في وسع مراجعتين تهبان من موقعين متعارضين، ان تنشآ سرداً بديلاً يكون أرفع من السردين المتقابلين وأشد مستقبلية. لهذا فالتسوية على صعيد كتابة التاريخ مهمة لا يحث عليها فقط جهد المؤرخين الاسرائيليين الجدد فحسب، بل تحث عليها ايضاً ضرورة السلام ومستقبله، بل مستقبل المنطقة في كنفه. وإذا كانت الاعتبارات السياسية التي زادتها حكومة نتانياهو واستيطان المستوطنين الاسرائيليين تعقيداً، تعرقل مثل هذه المهمة الثقافية، يبقى ان ركوب المغامرة هذه مسألة لا بد منها. وفي هذا العام، حيث يحتفل الاسرائيليون بنصف قرن على انتصارهم وإنشاء دولتهم، فيما يتألم الفلسطينيون وبعض العرب لمرور خمسين عاماً على ما اسموه نكبتهم، يصح التساؤل: اما من مكان للعقل غير انتصاريٍ وغير نكبويٍ في وقت واحد، مكانٍ يتجنب رعونة المنتصر وجلافته كما يتفادى خرافية المهزوم الذي يحيل تفسير التاريخ الى افعال الطبيعة العمياء؟ ان حلول هذه الذكرى يمثل مناسبة نموذجية لتأليف تسووي في التاريخ. والتسووية في هذا المعنى ليست تلفيقاً بأي حال لأنها اكثر وفاء لوحدة التاريخ من النظرتين المتقابلتين والسردين المتعارضين. بل ان مثل هذه المهمة، على الجانب العربي، قد تتجاوز هذا الهاجس التسووي في حد ذاته، لتستجيب الى مطلب حيوي، هو المتمثل في القدرة على تعقل الواقعة الاسرائيلية، اي ادراكها كمشكلة، بحيث يمكن لعملية ادراكها تلك ان تكون بداية التحكم فيها والسيطرة عليها ذهنياً، وبالتالي الاهتداء الى وسائل التعامل معها. فما لا شك فيه، ودون الدخول في ضرب من الفرويدية المدرسية المبتذلة، ان الجانب العربي قد عاش تلك الواقعة الاسرائيلية، خلال الخمسين سنة الماضية، كصدمة سيطرت عليه وشوشت عليه الرؤية فلم يحسن مجابهتها، وليس كمشكلة كان عليه ان يعالجها. وإذا كان مثل هذا الكلام بذاته لا يطعن في شرعية الكفاح الذي خاضه الفلسطينيون والعرب ضد ما اعتبروه، محقين، مظلمة حاقت بهم ولا تزال، الا انه يطول ذلك الأداء الذي انتهجوه خلال نصف القرن المنصرم، بل ما يزيد، في مواجهة الواقعة الاسرائيلية سواء بالحرب او بالسياسة. فحتى الآن لم يتمكن الجانب العربي من الاجابة عن هذا السؤال المركزي: كيف امكن لاسرائيل ان تقوم وأن تستمر؟ ما هو بالتحديد الوضع التاريخي الذي سمح بذلك؟ وهل من سبيل الى وضع اطار نظري يكون فاعلاً في الآن نفسه في تفسير ما حدث، وفي اجتراح الحلول انطلاقاً مما هو قائم؟ ما كانت الاجوبة العربية عن كل هذه المعضلات أقل اسطورية من نظيرتها الاسرائيلية الرسمية. مع فارق اساسي وهو انه اذا ما كانت الاسطورة لدى اسرائيل تسويغاً لنجاحات فعلية، فقد كانت عندنا تبريراً لاخفاقات فعلية هي الأخرى. فهي اكتفت، غالباً، بالقول ان الاستيطان اليهودي، ثم قيام دولة اسرائيل، كانا فعلاً استعمارياً، وانه ما كان يمكنهما ان يتحققا لولا اقدام القوى الغربية على تجزئة المنطقة العربية. وأسطورية هذا الكلام لا تتمثل في انه يجانب الصواب، فهو يتقاطع الى هذه الدرجة او تلك مع الحقيقة التاريخية. لكن اسطوريته هي انه في اعتماده هذا الاطار العام، وفي الاكتفاء به، عجز عن فهم خصوصية الواقعة الاسرائيلية، اي ما تتمتع به من دينامية ذاتية. فهذه الأخيرة هي ما جعلت اسرائيل تنجح في ان تكون في عداد البلدان التي ارتقت الى "الاستقلال" مع بدء نهاية الحقبة الاستعمارية، وجعلتها تنجح في اقامة كيان ومجتمع يتمتعان بمقومات البقاء حيث فشلت التجارب الاستيطانية الاخرى، في القرن العشرين، في بقية ارجاء العالم الثالث، سواء في ذلك الجزائر او روديسيا او جنوب افريقيا. ما السر في ذلك، علماً بأن الدعم الغربي لا يمكنه، بمفرده، ان يفسر كل شيء؟ ربما كان وضع المشرق العربي، الشامي، هو الذي يتضمن بعض عناصر الاجابة عن هذا السؤال. فكيف ذلك؟ لقد درجنا على نظرة الى المنطقة العربية تبسيطية، قسرية، لا تعترف بالتباينات، ولا تقر بأن اجزاء تلك المنطقة انما تعيش اوضاعاً متنوعة ومسارات متميزة، بل حقباً تاريخية مختلفة، بالرغم من وحدة اللغة والتشابه الثقافي والديني الغالب. بعض تلك الاجزاء يمكن القول انه يقع، بالفعل، في طور ما بعد استعماري، بالمعنى الحديث للكلمة، في حين ان البعض الآخر يمكن ادراجه داخل طور قابل للوصف بأنه "ما بعد عثماني". في الخانة الأولى، بإمكاننا ان نصنف بلداناً كبلدان الشمال الافريقي، اي مصر والمغرب الكبير مثلاً، اما الخانة الثانية فتضم المشرق الآسيوي الذي بقي خاضعاً للسيطرة التركية المباشرة حتى الحرب العالمية الأولى. ولكن كيف يتجلى هذا التمييز، وما الجدوى منه في ما نحن بصدده؟ الميزة الأساسية التي نلحظها في البلدان ما بعد الاستعمارية انها تمكنت خلال فترة خضوعها للاجنبي، وما خاضته من كفاح طوالها، من اجتراح كياناتها الوطنية، بحيث ان احرازها الاستقلال لم يتمثل فقط في تحرير الأرض، بل كذلك في ارتقائها الى كيانية سياسية قائمة بذاتها تتمتع بمقومات تمايزها، تحكمت في نظرتها الى ذاتها وفي علاقاتها بالجوار، بما فيه "الشقيق" منه. وربما مثلت مصر حالة نموذجية في هذا الصدد، قياساً الى المشرق الآسيوي المحاذي، حيث نلاحظ ن الدولة - الكيان حاضرة بقوة في كل سلوك او قرار. بل ربما امكننا القول ان من بين نقاط التمايز البارزة، والتي نادراً ما يتم التنبه اليها، للقومية الناصرية مقارنةً مع نظيرتها المشرقية، البعثية خصوصاً، ان الأولى تنطوي على بعد كياني قوي، حتى انه ربما صح وصفها بأنها كان قومية دولة، اي قومية امبراطورية، تسعى الى تأليف بقية "الأقطار" او "الأقاليم" من حول كيان مركزي. وفي المقابل كانت صنوتها المشرقية قومية كيانات منقوصة، تسعى الى تحقيق اكتمالها داخل كيانات أوسع وأشمل تقوى على استيعابها. وذلك انما هو من خصوصيات واقعها ما بعد العثماني. فزوال السلطنة لم يخلف حالات وطنية قائمة الذات، مايصح ايضاً وخصوصاً في فلسطين، بل ترك حيزاً غير محدد المعالم سياسياً، أقله بمقاييس الدولة الحديثة. وإذا كان صحيحاً ان الاستعمار، عبر اتفاقية سايكس - بيكو، قد "جزّأ" منطقة المشرق العربي يُردد باستمرار ان الاتفاقية المذكورة قد "مزقت الوطن العربي"، في حين انها لم تسرِ الا على المشرق الشامي وهو تفصيل ليس عديم الأهمية، فإن تلك الصحة تتعلق فقط بالجوانب الجغرافية والبشرية، من دون ان تستقيم أبداً على الصعيد السياسي. فالاستعمار اقتسم إرث الامبراطورية العثمانية التي كانت قد انهارت في أتون الحرب العالمية الأولى، كما يحدث عادة مع كل امبراطورية يحين اجلها، ولم يقتسم "وطناً عربياً"، لم يكن اصلا قائماًً ضمن كيان سياسي متبلور او في صدد التبلور، على ما دل فشل "الثورة العربية الكبرى". ومن هنا ترك زوال السلطنة فراغاً كيانياً على صعيد المشرق العربي، قضى هذا الاخير السنوات الخمسين الماضية في مكابدته، ما يجعله في نصاب اشبه بذلك القائم في منطقة البلقان، منه بذلك المستتب نسبياً لدى "الأشقاء" في شمال افريقيا. اما كون السوري يشعر بأنه اقرب الى المصري منه الى المقدوني، فتلك حقيقة تقع على مستوى آخر ليس هنا مجال الخوض في تحليلها. وعودا على ما سبقت الاشارة اليه، فإن ذلك الوضع الذي سبق توصيفه، وإن بإيجاز، هو الذي قد يقدم احد المفاتيح الرئيسية لفهم الواقعة الاسرائيلية. فإذا كان من نجاح حققته الحركة الصهيونية فهو ذلك المتمثل في انها تمكنت من جعل الهجرة اليهودية، وقد افلحت في تقويتها، تتحول الى حضور من القوة والفعل مكّنها من الدخول في سباق الكيانات الوطنية الى الوجود في ذلك الحيز ما بعد العثماني. وهو سباق كان الفوز فيه من نصيبها على حساب الشعب الفلسطيني، على الأقل حتى التوقيع على وثيقة الاعتراف المتبادل. والمنطقة لم تبارح بعد مرحلة صياغة كياناتها الوطنية. يصح ذلك على اسرائيل كما يصح على سواها. فالدولة العبرية ليست الوحيدة التي لم تستقر على حدود حتى هذه اللحظة. فذلك ما يكاد ان يكون شأن الجميع في علاقته بالجميع: سورية حيال لبنان او الفلسطينيين، والعراق حيال الكويت، والأردن حيال الفلسطينيين، أقله حتى عشية اتفاقات اوسلو، بل ان الاردن أوحى، إبان حرب الخليج الثانية، أنه لم ينس ان فرعاً من الأسرة الهاشمية كان يتربع في يوم من الأيام على عرش العراق! غير ان الكيانات الوطنية بدأت تفرض نفسها تدريجياً كأفق لتطور المنطقة وكشرط لاستقرارها لا مناص منه. فالهويات الوطنية تشكلت وتمايزت بما يبدو ان لا رجعة فيه، مهما تفاوتت من حيث درجة نيل الاعتراف السياسي بها، بما في ذلك الهوية الاحدث عهداً، اي الفلسطينية. فهذه الاخيرة دخلت حيز الوجود وما عاد وجودها ذاك محل جدل او سؤال، لا عربياً ولا دولياً، وهي قد انتقلت من مرحلة فرض الذات الى خوض معركة الانتظام ضمن اطار دولة. فما كان يمكن لپ"اليسارية" غولدا مئير، قبل عقود قليلة خلت، ان تنكره، قائلة قولها الشهير من ان لا وجود لشعب فلسطيني، لم يعد حتى بإمكان يميني متطرف كبنيامين نتانياهو ان يدير له ظهره. وهو حالياً ليس في وارد القدرة على الغاء الواقعة الفلسطينية كمكون سياسي من مكونات المنطقة، وكل ما يستطيع فعله، وهو ما ينصرف اليه بهمة وشراسة، انما هو العمل على تقزيم تلك الواقعة وعلى حرمانها أقصى قدر ممكن من مقومات كيانيتها المنشودة. وإذا ما نظرنا الى التاريخ الحديث للمشرق من هذه الزاوية، اي كمنطقة ما انفكت، منذ انهيار السلطنة، تعيش ذلك المخاض العسير المتمثل في الانتقال من حالة الفراغ السياسي ما بعد العثماني، الى نزوع نحو تشكيل وحداتها الكيانية مشوب باحتمالات التصدّع الأهلي، فإن ذلك من شأنه ان يفسر اولاً ما حدث، او على الأقل ان يمنح ذلك التاريخ منطقاً وإطار قراءة. كما انه في تمثل تطوراته المحتملة وما قد يستخلص من حلول ممكنة، قد يساعد على "استيعاب" الواقعة الاسرائيلية داخل المنطقة، ما دام يقدم تفسيراً للطريقة التي تمكن بواسطتها المشروع الصهيوني من ان "يتمشرق"، اي ان يصبح ممكن التحقيق في منطقة بعينها، في ظرف تاريخي خاص. وما المرجو من هذه المحاولة اكثر من ان تتيح، بقدر من العقلانية، الاحاطةَ بالواقعة الاسرائيلية، اي المهمة التي سبق ان عجزت عنها نظريات المؤامرة المعتمدة لدينا، عادة وغالباً. اننا نعي أن هذه المقاربة التي نقترح ليست، في طورها هذا، وفي هذه العجالة، الا مجرد فرضية ما زالت في حاجة الى جهد لتصليب قاعدتها ومقدماتها النظرية، والى عمل بحثي يختبر جدواها وصلاحيتها على أرض الواقع، ومن خلال مجابهتها بالوقائع. الا اننا نعتقد بأنها فرضية لا تعدم عناصر التماسك، كما يمكنها ان تتسم بقدر من الخصوصية كبير. فليس مطلوباً الاكتفاء، على ما فعل المؤرخون الجدد، بتناولٍ قِطاعيٍ محدود، يتعلق بظروف نشأة الدولة العبرية، وهو ما لا سبيل الى نكران اهميته، بل التوصل الى تقديم مراجعة لتاريخ المنطقة اشمل، لا تكون الواقعة الاسرائيلية مركزه بل احد مكوناته. ثم ان المطلوب من ناحية اخرى، وضع مسألة الشرعية، والجدال المنهك حولها، جانباً، فهي ليس من شأنها، ولا من مهامها، اسباغ الشرعية على وجود اسرائيل مثلاً، بل يتوقف مداها عند اخذ العلم، معرفياً، بوجود الواقعة الاسرائيلية، بطريقة اندراجها في واقع المنطقة ونصابها، وبأفق التعامل معها مستقبلاً. كما انه لا شأن لها بالتحكيم بين شرعيات الوجود الكيانية العربية المجاورة وأيها احق من سواه. وأخيراً، قد تساعد مثل هذه المقاربة في التخلص من ذلك التصور الخرافي للتاريخ من الجانبين. فالتاريخ يُتصوَر في التأريخ الرسمي الصهيوني وكأنه ولادة من عدم، او عودة اتصال بتاريخ ميت منذ هدم المعبد. وفي الحالتين تتجلى 1948 كلحظة بدء خرافي مثل كل لحظات البدء الخرافية: قبلها لم يكن قبلٌ ولم يعش شعب فلسطيني يعمل وينتج ويتناسل، ابناؤه يتعلمون وموتاه يوارون الثرى. ويُتصور التاريخ في التأريخ العربي السائد ل 1948 وما تلاها كأنه موت ونهاية، او لحظة تجميد لا يكون استئناف بعدها الا متى حصل التحرير او عاد الحق الى نصابه. وهنا تواجهنا خرافية مضادة تحلق فوق كل ما يجري على الأرض منذ خمسين سنة. فكأنه ليس مهماً ان تقوم دولة وأن ينشأ مجتمع وأن تخاض الحرب تلو الحرب ضد هذين الدولة والمجتمع. وإذا كانت الخرافة الاسرائيلية عن البداية من الصفر تعزز غربة الاسرائيليين عن منطقة يعيشون فيها، ولا بد عاجلاً او آجلاً من ان يتصالحوا معها، فإن الخرافة العربية عن النهاية التي كُتبت في 1948 تعزز غربة العرب عن عالم لا بد من الإقرار، ذات مرة، بالعيش فيه.