منذ لحظة الصفر من اليوم الاول لسنة 1999 الجديدة، اصبحت بورصات العالم تتداول عملة اضافية، واية عملة!… انها اليورو، عملة الاتحاد الاوروبي، تلك التي تمثل وتعبّر عن اقتصاد منطقة هي بين الاغنى والاكثر تقدماً في العالم، تساهم بنحو العشرين في المئة من الناتج الداخلي الخام على الصعيد الكوني ويستوطنها 290 مليون نسمة من ذوي الدخل المرتفع. هكذا، اصبحت لأوروبا الغربية هوية نقدية واقتصادية موحدة، وذلك بالرغم من تخلّف بعض اعضاء اتحادها عن خوض تلك المغامرة اما امتناعاً او تريثاً، على ما هي الحال بالنسبة لكل من بريطانيا والسويد والدانمارك، واما لقصور عن شروط اساسية التحكم في العجز العام وفي نسب التضخم على ما هي الحال بالنسبة الى اليونان، ذلك البلد الذي تضافرت عليه سمته الجنوبية مع صفته الشرقية لتجعلا انتماءه الى اوروبا يشوبه بعض الاشكال. هي اذن، عملة كبرى تدخل معترك الحياة الاقتصادية في زمن العولمة هذا، بقدر من الزخم لا يستهان به، جعل البعض لا يتردد في توقع ان يصبح اليورو منافساً للدولار، بل ربما بديلاً له في المبادلات الدولية، تماماً كما سبق للنقد الاميركي ان زعزع مواقع الجنيه الاسترليني في بدايات هذا القرن. وقد جاء في الحماس، النسبي او البالغ، الذي قوبل به اليورو حال دخوله حيز التداول من قبل بعض بورصات العالم ما قد يبرر هذا التفاؤل. فنظراً لفوارق التوقيت، كانت اسواق المال الآسيوية اول من طرح العملة الاوروبية للبيع والشراء، فدشنت هذه الاخيرة تجربتها الاولى تلك بتسجيل ارتفاع في مقابل الدولار أثلج قلوب الاوروبيين. ثم ان اليابان وبلدان شرق اوروبا، وسواها من مختلف ارجاء العالم، لم تخف ارتياحها لهذه الوحدة النقدية الجديدة التي يبدو انها تعلّق عليها آمالاً كبيرة، ان لم يكن لبالغ ثقتها في قدرة اليورو على مغالبة العملة الاميركية، فعلى الاقل لاعتقادها بجدواه في الحد من سطوة هذه الاخيرة على اقتصاد الكرة الارضية. غير ان ذلك الارتياح لم يترجم الى كبير قلق على الصعيد الاميركي، حيث لم يظهر ما يوحي بأن واشنطن، سواء في ذلك فاعلوها الاقتصاديون او المسؤلوون السياسيون، تخشى اليورو او تتوجس منه خيفة، بل وجد، على العكس من ذلك، من ادلى بتحليلات مفادها ان اقرار العملة الاوروبية الموحدة من شأنه ان يحفز الصادرات الاميركية الى اسواق القارة العجوز. وعلى اية حال، ربما كانت الحقيقة في هذا الصدد، واقعة في منطقة ما بين هذين الحدين الاقصيين، بحيث لا يمكن القول ان بروز اليورو سيؤدي حتماً الى اهتزاز مواقع الدولار، ولا، على العكس من ذلك، ان مفعوله سيكون لاغياً او اقرب الى الانتفاء، بل ربما كان من الافضل عدم الانجرار الى الايغال في التوقع في هذا المضمار، خصوصاً وان التجربة قد دلّت على توقعات الخبراء الاقتصاديين لا تبزها، من حيث قلة الدقة والتعرض الى الخطأ، سوى التكهنات المتعلقة بأحوال الطقس. لذلك، ربما كان من الحكمة الاكتفاء بالقول ان المشهد الاقتصادي العالمي قد تغيّر كثيراً، مع دخول اليورو، دون ولوج مغامرة السعي الى تحديد المفاعيل المحتملة لذلك المستجد، أقله على الصعيد الاقتصادي البحت. ذلك انه اذا كان من السهل نسبياً توقع ان يؤدي اقرار العملة الاوروبية، من الآن وحتى دخولها حيز التداول بين ايدي الناس في تعاملها اليومي عند حدود سنة 2002، الى تفعيل عملية توحيد الاقتصادات الاوروبية وصهرها ضمن كل متكامل، من خلال التقريب بين التعريفات وأنظمة التسعير وانظمة الضرائب وتسهيل المبادلات داخل الفضاء الاوروبي وما الى ذلك من مثل هذه الجوانب، وان كل ذلك سيجري بنجاح كبير، فان نجاح اليورو على الصعيد العالمي ربما تحكمت فيه، سلباً او ايجاباً، دعماً او انتقاصاً، عوامل اخرى قد لا تكون محض اقتصادية، بل سياسية بالدرجة الاولى. فحتى تتمكن احدى العملات من فرض نفسها على الصعيد العالمي فانه يجب ان يدعمها نفوذ سياسي، اي ان العملات الكبرى كانت على الدوام عملات امبراطورية، من سحيق التاريخ وحتى تجربتي الجنيه الاسترليني فالدولار الاميركي. اما القوة الاقتصادية وحدها فلا تصنع عملة سائدة، او عملة مقياساً او ملاذاً على الصعيد الدولي. ذلك ما يشهد به الين الياباني، ذلك الذي كان قبل سنوات خلت احد اقوى عملات العالم، يتجاوز الدولار في بعض الاحيان من حيث القيمة الاقتصادية، لكنه لم يتمكن ابداً من الحلول محله لانه كان يفتقر، تحديداً الى كل قيمة سياسية، ربما هي نفوذ امبراطوري، وذلك ما يشهد به المارك الالماني ايضاً، ذلك الذي كان قد بلغ بعض اكبر درجات القوة والمتانة، لكن مصيره، على صعيد موقعه في مبادلات العام كان شبيهاً بمصير صنوه الياباني، لافتقاره الى نفس ما افتقر اليه هذا الاخير. ففي البلدين، اليابان والمانيا الغربية سابقاً كانت قوة العملة قد تحولت الى تعويض عن سيادة خرجت من هزائم الحرب العالمية الثانية مثلومة منتهكة منتقصة، ولم تكن من عناصر تلك السيادة ومن تعبيراتها وقد باتت تمتد نفوذاً دولياً. وقد يكون اقرار اليورو بشكل من الاشكال، اكثر تساوقاً مع مثل هذين الانموذجين منه مع اي سواهما. فقد تحققت العملة الاوروبية الموحدة من جراء تخلي بلدان القارة على سياداتها النقدية الوطنية، الا انها لم تفعل ذلك لحساب مرتبة سيادية اوروبية جامعة هي ليست موجودة اصلاً، وقد يكون انعدامها واحداً من بين الاسباب الاساسية التي حالت دون وجود سياسية اوروبية خارجية محددة المعالم وفاعلة، بل لصالح مرتبة تقنية هي تلك المتمثلة في البنك المركزي الاوروبي، ومقره فرانكفورت. بهذا المعنى، ومن هذا المنظور ربما امكن القول بأن اليورو قد صيغ على منوال المارك الالماني مارك ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا على مثال الفرنك الفرنسي، ذلك الذي كان يحمل شحنة قومية هويته سيادية عالية ومضطرمة. وما يشفع ليورو تلك هي مواصفاته، وبسبب من المواصفات تحديداً، انه ربما كان، من بين العملات الكبرى، اكثرها "ديموقراطقية" طالما انه قد قام على تحييد العملة سيادياً، وبالتالي الى الغاء كل ما يرتبط بها من تعلّق ومن تماه عاطفي قومي، او امبراطوري، لا عقلاني، ليوجد معها وشائج من طبيعية عقلانية وظيفية باردة تمليها اعتبارات السوق وحدها، وما الى ذلك مما تستوجبه دورة الحياة الاقتصادية وارقامها وخطوطها البيانية، لكن ذلك هو بالتحديد ما قد يعرقل زخم اليورو كعملة تصبو الى دور عالمي، الا اذا ما تمكن الاتحاد الاوروبي من صياغة حضور سيادي على الصعيد الدولي، تعبّر عنه سياسية خارجية ونفوذ فاعل وطيد الاسباب. اما اذا انتفى كل ذلك، فقد يصبح اليورو منافساً خطيراً للفرنك السويسري، لا الدولار…