نعيش عصر احتدام الهويات. ومجريات هذا العالم الذي ما انفك يعاد تأسيسه وصوغه وفق محاور "هويتية" لا يني يجري التمرس خلفها، على نحو تناقضي صراعي في الغالب، أو هكذا يبدو، تذكّرنا بتلك الواقعة يومياً، وبطريقة بالغة الوضوح والبداهة، حتى ان الحديث فيها يصبح ضرباً من اللوك الممل لبعض أكثر الآراء تداولاً على قارعة الطريق. ولكن أن يصار هكذا إلى استخدام مفهوم أو فكرة أو مسلمة بحث كما اتفق، وأن يجري الاستنجاد بها على وجه صواب أو من دونه، أو أن يزج بها في كل مجال على نحو مصيب أو مغرض، أو أن تكون على كل لسان وتحت كل قلم قد لا يبخس بالضرورة ومن جراء ذلك، مثل ذلك المفهوم، أو مثل تلك الفكرة، أو مثل تلك المسلمة، إذ ربما توجب على مثل ذلك اللغو المفهومي أن يحض، على العكس من ذلك تماماً، على جهد توضيح من شأنه أن يعيد إلى الأشياء سمتها الاجرائية وأن يمدها من جديد بوظيفتها التفسيرية. وموضوعة الهوية هي من الأهمية والمركزية في هذه الحقبة من تاريخنا، بحيث أنها تستحق مثل ذلك الجهد، خصوصاً أن هذه المسألة إذا ما اعيدت إلى ذلك الفضاء المتوسطي الذي يعنينا هنا، مع ذلك الشرخ الهويتي الواضح الذي يبدو أنه يخترقه من غربه إلى شرقه، تكتسب راهنية وإلحاحاً ومقداراً من التعقيد خاصاً. صحيح أنه، وبعيداً عن التبني غير المتمحص للطروحات الشائعة راهناً حول "صراع الحضارات"، تلك الاثيرة لدى صموئيل هتنغتون واتباعه الكثر، لا يسعنا إلا أن نلاحظ بأن عالم ما بعد الحرب الباردة هو الآن بصدد التشكل بما يؤدي إلى انشاء مجموعات ثقافية كبرى على هيئة كيانات سياسية و/أو على هيئة تكتلات جغرافية - سياسية. فقد لاحظ أحدهم أن عالم الإسلام يشهد حروباً، أو نزاعات على هذه الدرجة أو تلك من الكمون، أو احتكاكات على كل حدوده الآسيوية والافريقية والأوروبية، ولكن مثل هذه الملاحظة يمكنها أن تجد تصديقاً لها في أماكن أخرى، خصوصاً حيث يتماهى الانتماء الثقافي مع بنية دولة قائمة، على ما هي حال الصين مثلاً، تلك التي تكاد بدورها ان تكون في حال نزاع على كل حدودها، وتلك هي أيضاً وأكثر فأكثر منذ بعض الوقت، حال الهند، حيث يبدو ان الهندوسية من خلال تجربة حزب ال "باهاراتيا جاناتا" في الحكم، بصدد التحول إلى دين دولة وذلك ربما للمرة الأولى في التاريخ المديد لذلك البلد. وهكذا، فإن المعاينة التجريبية للعالم الذي هو بصدد التمخض من حولنا، ربما بدت مؤكدة وداعمة لفكرة بروز الهويات الثقافية كأحد الأشكال والأوعية الكبرى للتعبيرات السياسية في نهاية قرننا هذا، إلا أنه يبقى ان المقاربة الهويتية، ومفردة "هوية"، كمفهوم أو كباراديغم تفسيري، تبقى في الأدب الصحافي، بل حتى الاكاديمي، غائمة إلى حد ما، بل متناقضة، وتالياً، ذات فاعلية محدودة، إذ هي تستخدم في استكناه، وفي تفسير وفي الاحاطة بظواهر هي على قدر من الاختلاف والتباين، أو هي متعارضة صراحة، من حيث طبيعتها ومداها. وهكذا، توضع في خانة التمظهرات الهويتية، التطلعات الوحدوية الكبرى على قاعدة الانتماء إلى مجمع ثقافي كبير مشترك، أي ما يبدو نزوعاً امبراطورياً أو امبراطورياً جديداً، وكذلك ما يبدو عكس ذلك تماماً، أي أكثر المطالب الفئوية خصوصية ومحلية. وبذلك يبدو العامل الهويتي تارة كمبدأ تكتيل والتحام، ويقدم تارة أخرى على أنه مبدأ تفتيت. صحيح ان مثل هذه الضدية قد لا تكون، في حد ذاتها، أمراً فاضحاً أو بالضرورة خاطئاً، إلا أنها، في مثل صياغتها تلك، وفي ما هو موضوع تفكيرنا هنا لا تنجدنا بشيء في استكشاف السؤال التالي: هل نحن سائرون نحو تشظي تشكيلات الدول القائمة أم على العكس من ذلك صوب تجاوزها ضمن أشكال ما فوق قومية اتية؟ النظرة المعمول بها حالياً لعامل الهوية لا تسمح، بحسم هذه المسألة ولا هي بقادرة على ذلك. ومن وجه آخر، فإن العامل الهويتي، ذلك الذي غالباً وكثيراً ما يستخدم كمسلمة أو كأداة تحليل لمجريات العالم واضطراباته، لا يكاد يتقدم أبداً في نقائه الابستيمولوجي، إن صحت العبارة. فهو بالفعل مثقل في الاستعمال اليومي، بالافكار المسبقة وبأحكام القيمة، السلبية عادة. إذ غالباً ما يجري الحديث عن التشنج والعدوانية والانفكاء الهويتي. ذلك ان المطلب الهويتي يبدو دائماً مريباً، نظراً لحمولته، على الأقل في أكثر تمظهراته مشهدية، من انعدام التسامح والانغلاق والدموية. قد لا يكون مثل هذه الأحكام غير مبرر، غير أنه، عندما يلابس التحليل، هكذا، منذ البداية، فإنه يصادره، كما يصادر مآلاته، مسبقاً. وبذلك، إذا ما كان كثيراً ما يتم اللجوء إلى العامل الهويتي كمنطلق وكأداة للتحليل طيعين، فإن تلك الأداة تبدو، من ناحية أخرى وفي الآن نفسه، في نظر مستخدميها، خصوصاً في الغرب، موصومة بقدر من اللاشرعية الاخلاقية، مع كل ما يمكنه أن ينشأ عن مثل ذلك الموقف من انزلاقات، على صعيدي التناول والفهم. لكن هذا الشكل من أشكال اللاشرعية ليس الوحيد الذي يصم مسألة الهوية، فهذه الأخيرة، ينظر إليها، عدا عن ذلك، على أنها ظاهرة انفعالية للاعتراض أو للرفض، في مواجهة انموذج غربي، استقام، من ناحيته، مقياساً كوني الصلاحية، وافقاً لا يتجاوز. وأمام انموذج كهذا، يستقوي بنجاحاته العلمية والتكنولوجية، وازداد عنفواناً بفضل العولمة، ويعتبر تبعاً لذلك مسوغاً باتجاه التاريخ، فإن المطالب الهويتية الصادرة عن الشعوب والفئات الطرفية تبدو، بالضرورة عقيمة، ماضوية، بل انحرافاً. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الانتقادات السالفة الذكر، فإن السؤال الذي يطرح هو: أي موقف يجب تبنيه تجاه المسلمة الهويتية؟ هل يتعين نبذها، لعدم اجرائيتها ولأنها تفتقر إلى كل وظيفية في تفسير ما تزعم انطباقها عليه، أم هل يجب، على العكس من ذلك، الاعتراف لها ببعض الجدوى المعرفية، والعمل، تبعاً لذلك، على ترميمها، وإعادة صياغتها، حتى تصبح قادرة على احتواء وانتظام تلك الظواهر التي عادة ما تنسب إليها أو ترتبط بها، وذلك على نحو منسجم؟ نفضل في ما يخصنا الخيار الثاني، معتبرين بأن مفهوم الهوية قادر على الإتسام بفاعلية تفسيرية كبيرة وعلى اكتساب قدر من الخصوبة لا يستهان به، إن نحن استطعنا أن نتناوله وفق منظور مختلف والتقاطه وفق مقاربة أقل سلبية. فلو نظرنا إلى الظاهرة الهويتية بوصفها جزءاً من توجه جارف، ترتسم معالمه على الصعيد العالمي، وهو المتمثل في إعادة النظر، على نحو أكثر فأكثر جذرية، في انموذج الدولة - الأمة، كما عرفه العالم حتى الآن، وكما فرض نفسه على العالم الثالث بعد الاستقلالات، لرأينا بأن المطالب الهويتية، في صيغتها الثقافية، هي التي تشكل حاملة إعادة النظر تلك ومرتكزها. بحيث يبدو أن الانتماء إلى فضاء ثقافي أوسع، أو أضيق، بات بصدد الحلول محل الانتماء الوطني، أو هو على الأقل بات يحظى بالأسبقية عليه. ففي ما مضى، كان كيان الدولة، حتى وإن اقيم اعتباطاً، وحتى لم يصادف بالضرورة واقعة وطنية، كافياً لتأسيس هوية. بل أن الدولة، في عديد الحالات، أبقت الأمة وانشأتها، كما بين ذلك على أفضل وجه ارنست غلينر في كتابه "الأمم والقومية". ومثل تشكيلات الدولة تلك، مؤسسة الهويات الوطنية، نجدها حتى في أوروبا، أي حتى حيث تبدو الدولة - الأمة ثمرة مسار تاريخي طويل وعميق. أما المنحى الراهن، فهو على العكس من ذلك، نحو تجاوز ذلك الانموذج، نحو استبداله بآخر، يتحدد أساساً بالانتماء الثقافي، وباعلان الارتباط بمجمع ثقافي أوسع. وهكذا، كان المرء في السابق يقول عن نفسه مثلاً بأنه جزائري، مدللاَ على تماهيه مع كيان دولة تولدت عن حرب تحرير مجيدة، أما الآن فبات يرى إلى نفسه مسلماً بقدر ما هو جزائري، إن لم يكن أكثر. كذلك، كان يكفي المرء أن يقدم نفسه في السابق على أنه هندي، في حين يبدو أنه بات يرى أن عليه راهناً أن يعلن بأنه أيضاً، وربما حصراً، هندوسي. صحيح ان هذا الضرب من المطالب الثقافية والدينية قد وجد على الدوام، ولكنه كان في السابق غالباً ما يجري توسله من قبل الواقعة الوطنية أو الدولة، الناشئة أو القائمة، في حين يبدو أنه، في عصرنا هذا، بصدد تجاوز تينك الواقعتين، أو عند الحاجة، إلى الحلول مكانهما، بأن فرض نفسه كمرتبة أولى لاسباغ الشرعية. وحتى حيث تتخذ مطالب الهوية هيئة الحركة الفئوية البالغة التخصيص والمحلية، فإن الأمر يتعلق في الغالب بالسعي إلى التحلل من إطار دولة وطنية، بات يبدو خانقاً ضاغطاً، بهدف التموضع بشكل أفضل قياساً إلى انتماء هويتي أوسع. وإذا ما نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية، فإن المطلب الهويتي، بالرغم من خطابه الماضوي وبالرغم من تمظهراته الانفعالية والعنيفة غالباً، هو ابعد عن ان يكون مجرد مفعول سلبي وجانبي لعولمة تتوجس على انها تهديد، ولا شيء غير ذلك، بل هو يمكنه كذلك ان يكون، بما له وبما عليه، المبدأ المؤسس لنظام كوني جديد. وتلك الفرضية، اذا ما احتفظنا بها، يمكنها ان تفضي الى نقطتين جوهريتين: - اولاهما ان المطلب الهويتي، شرط ألا نأخذ خطاب حنينه الى ماضي اسطوري او تخييلي بحرفيته، ربما كان في الواقع باعث كيانات غير مسبوقة في التاريخ، او ذلك على الاقل طموحه، وتبدو الملاحظة داعمة لهذا الزعم. من ذلك ان الهوية الاسلامية التي تدعو لها الحركات الاسلامية وفي سبيلها تنافح ربما كانت، اذا ما قيض لها ان ترى النور، بفعل تلك الحركات او دون اسهام منها، بناء غير مسبوق في ذلك التاريخ الذي يجري، مع ذلك، الرجوع الصارم اليه منبعاً وأنموذجاً. مثال آخر هو الذي تقدمه لنا تجربة حزب ال "باراتيا جاناتا" القائمة حالياً في الهند. فهذا الحزب القومي هو حالياً بصدد منح الهندوسية وظيفة سياسية، كقاعدة لنظام الدولة، ربما لم يسبق لها ان اضطلعت بها ابداً في تاريخها الطويل. - ومن ناحية اخرى، وتلك هي النقطة الثانية، فان المطلوب الهويتي، على ما سبق تحديده، ربما كان ذا مدى اكثر كونية مما اعتدنا الاعتقاد، طالما انه قد لا يعني فقط الشعوب والفئات الطرفية، تلك التي ارهقتها الحداثة، وتلك العولمة التي تغبط الضالعين فيها بقدر ما تعترض عليها، فالبناء الاوروبي، يندرج، بدوره وعلى طريقته، ضمن حركة اعادة التأسيس الهويتية الكبرى تلك، حتى وان اتبع، من اجل بلوغ ذلك الهدف، مسالك سلمية، ديموقراطية، تداولة وتشاركية. فمع اوروبا الموحدة، ان هي الا هوية ما فوق قومية جديدة بصدد التبلور، تدريجياً تحت أعيننا، ان هو الا تحول هويتي كبير بصدد الحدوث، مبتكراً انساناً، مواطناً، اوروبياً مستحدثاً تماماً في تاريخ القارة العجوز. وسيأتي يوم قريب يشعر المرء فيه، بشكل ناجز، بأنه فرنسي مثلاً بقدر ما هو اوروبي، او بأنه اوروبي اكثر مما هو ايطالي. ذلك انه من البديهي ان الاتحاد الاوروبي لا يمكن اختزاله، بحال من الاحوال، الى ابعاده السياسية والاقتصادية، وانه يستوي مرتكزاً على تاريخ، ومجموعة من القيم والتقاليد المشتركة، كما انه ينزع نحو المزيد من التجانس الثقافي. ذلك هو الواقع الذي يجب ان يظل ماثلاً في الاذهان لدى الاقبال على تناول الفضاء المتوسطي. فذلك الفضاء ما انفك يتحول الى مسرح لتأكيد هويتي مزدوج، من قبل الشمال كما من قبل الجنوب، من قبل اوروبا كما من عالم الاسلام، وهو تأكيد ما فتئ يتعاظم ويستفحل، مترجماً عن نفسه بسلوك احتماء من جهة وبمشاعر ضغينة من الناحية الاخرى. احتماء وضغينة يستجيب احدهما للثاني، فيؤكد احدهما الثاني ويغذيه، ما يجعل الشرخ بين الشمال والجنوب اكثر فأكثر عمقاً وأكثر فأكثر رسوخاً. ما العمل في مواجهة مثل هذا الوضع، علماً بأن تلك الظواهر الهويتية مدعوة الى بعض استدامة وانها تخاتل الحداثة متمكنة من الاندراج فيها، على هذا النحو او ذاك، عوض ان تحكم على نفسها بالفناء من خلال التعارض معها؟ لا يجب ان ننسى بأن هوية يجري رفع رايتها انما هي كذلك، ان لم تكن اساساً، بناء ايديولوجي، وهو ما يصنع قوتها وموطن ضعفها في آن. اما قوتها فتتبدى في قدرتها على استيلاد الاندماج والانخراط الجماعيين حول بعض الافكار او المبادئ او الاحكام المسبقة حول الذات وحول الآخر. لها ظاهر البداهة وبعض اشكال الصحة المتاحة على نحو تلقائي ومباشر. ولكن ذلك البناء الايديولوجي لا يمكنه ان يزعم لنفسه تلك الفاعلية الوظيفية، ومن بلوغ ذلك الهدف، الا من خلال التلاعب بالتاريخ وتعقيداته، الا من خلال تبجيل بعض اوجهه وطمس الاخرى، الا من خلال اغفال بعض الانتماءات من اجل ارساء سواها، وذلك ما يمثّل عقب أخيل بالنسبة اليه. بيد انه من حظ المتوسط انه فضاء تعاقب عليه عديد من الثقافات والامبراطوريات، دون ان تتمكن احداها من الغاء الاخرى بالكامل وانه فضاء امتزج فيه البشر والافكار، ما ترك آثاراً على هذا القدر او ذاك من الوضوح وعلى هذا القدر او ذاك من الرسوخ، والمتوسطي، وهو من ثمار ذلك مثل مسار المثاقفة تلك، منذ سحيق التاريخ، ذي المصادر المتعددة، وحيث قيض للكل ان يكون مصدراً للتأثير او متلقياً له، مسيطراً عليه، هو بالضرورة كائن ذو انتماءات متعددة، وتخترقه حدود ثقافية متعددة. وحتى ان كانت هذه الحقبة التي نعيش او سواها، ومتطلبات التاريخ وملابساته، ولعبة النفوذ والمصالح وارادة القوة، قد فضلت انتماءً وقدمته على سواه من الانتماءات الأخرى، فإن هذه الاخيرة، حتى وان بقيت كامنة، حتى وان غمطت، فإنها، مع ذلك لا تندثر. وهكذا، واذا ما بدا خط الانقسام التقليدي بين الشمال والجنوب، بين العالم الاسلامي واوروبا، فارضاً نفسه كبديهية، سواء في نظر الجمهور العريض او في نظر السياسيين او اهل الاختصاص، كمنظور للقراءة اساسي، ان لم نقل وحيد، فانه يمكننا، مع القليل من الجهد، وشرط التحرر من المناخ السياسي والفكري الطاغي، ان نتبين خط انقسام آخر داخل الفضاء المتوسطي، لا تعوزه، من ناحيته، لا الجدوى لا الدلالة. انه الخط الذي يفصل الحضور الشرقي للمتوسط عن حوضه الغربي، الى حيزين يغطي احدهما ما كان يمثل، في العصور القديمة، العالم الهلينستي والثاني ما كان يشكّل العالم الروماني اللاتيني. احد الحيزين، شرقاً، يتميز، سواء في جزئه الآسيوي ام في قسمه الاوروبي بتعددية دينية وطائفية كبيرة، تخالط وتلابس الى هذه الدرجة او تلك وقائع إثنية ووطنية، بحث يمكننا ان نتبين عديد التماثلات بين الوضع في البلقان وذلك السائد في منطقة سورية الكبرى. في حين ان الحوض الغربي للمتوسط يتسم، بتجانس على الصعيد الديني كبير، سواء في الشمال ام في الجنوب، طالما ان الاسلام المغربي يميل الى التوحد والحصرية مثله في ذلك مثل الكاثوليكية اللاتينية، ولعل ذلك ما يفسر ان الخصوصيات اللغوية والاثنية، في ذلك الحيز المتوسطي، حتى وان عبّرت عن نفسها بعنف، تبقى دوماً دون الانشقاق والانفصالية السافرة. وعدا عن ذلك، فقد كانت المبادلات داخل كل من الحيزين بالغة الكثافة على ما يقول المؤرخون. لن نوغل اكثر في تحليل هذه النقطة، حيث ان هدفنا من ورارء ايراد هذا المثال، وهو واحد من امثلة عديدة، يتوقف عند تبيان وجود منظورات اخرى للقراءة وخطوط انقسام اخرى داخل الفضاء المتوسطي، وانتماءات اخرى ممكنة غير تلك التي فرضتها عادات درجنا عليها في التفكير، ورؤية هي الطاغية كأفق وحيد. تلك الانتماءات المتعددة، وتلك الفضاءات الثقافية الجيوسياسية التي تتراكب وتتداخل، غير آبهة بحدود اللحظة، أكانت تلك الحدود ذهنية او نفسية او سياسية، هي ما يتوجب اقاظه، صحيح انه من الهام تطور التعاون المتوسطي على صعيد المجتمع المدني وفاعليه، من حاملي قيم التقدم، حول تلك المحاور المعلومة لدينا: حقوق الانسان ووضعية المرأة ومتطلبات التنمية البديلة، تلك التي تحترم الانسان وسطه البيئوي، وسوى ذلك من الموضوعات. لكنه يبدو من الاهمية بمكان اعتبار الانتماءات المتعددة التي تخترق فضاءنا الحضاري المشترك في كل اتجاه، وتخترق كل متوسطي، والتعرف علىها وايقاظها وتعبئتها. ومثل هذه المقاربة، وان لم تمكن من دحض ذلك الشرخ الذي ما انفكّ يتسع بين الشمال والجنوب، وبين اوروبا والعالم الاسلامي، الا انه قد يساعد على ادخال قدر من النسبية عليه، وعلى مداورته، وعلى مواجهته بذلك الحد الادنى الحيوي من التعددية الهويتية وهي الملازمة لكنه كل كائن متوسطي. * كاتب تونسي. المنشور اعلاه كلمة ألقيت بالفرنسية في ندوة في مدينة ليفورنو الايطالية، في 11 حزيران يونيو 1998، موضوعها "التعاون على صعيد المجتمع المدني في حوض المتوسط" وذلك بدعوة من "مؤسسة بيادجيو" الايطالية.