يستهل حازم صاغية مقاله المنشور في "الحياة" يوم 27 شباط فبراير الماضي، بقوله إن التراث "لم يَعُد له في حياتنا العملية دورٌ يُذكر، رغم الإقبال الواسع في بعض البيئات على تلقف كتبه وقراءتها على نحو امتثالي ضعيف الابداعية. فمع التشدق به غير المصحوب بإحياء أدواته ومؤسساته، لم يعد تأثيره الآن في مجتمعاتنا وأفرادنا يُقارن بتأثير محطات أساسية وفدت إلينا من خارج تاريخنا، كالتنوير أو النهضة أو الثورة الصناعية". ثم يختتم مقاله بالتساؤل المهم: "فمتى يتصالح تأويلنا للتراث مع تحرير عقلنا وتعبير طريقه الى الكونية، فننتزعه من الأيدي العامية التي انتزعت لنفسها، في هذا المضمار، الموقع السيادي". وفي ظني أن هذه الجملة الختامية تحمل في طياتها، وفي آن واحد، تفسيراً للظاهرة التي وردت في الاستهلال، وإجابة التساؤل الوارد في الختام: وهما أن ضعف تأثير ودور التراث في حياتنا العملية الراهنة، وتعذر أو تعثر محاولات المصالحة بين تأويله وبين تحرير عقلنا وتعبيد طريقه الى الكونية، نجما عن أن ما سماه صاغية بالأيدي العامية، لا صفوة مفكرينا القادرين وحدهم على إنقاذ تراثنا من الاندثار، هي التي تمكنت من ان تنتزع لنفسها، في هذا المضمار "الموقع السيادي". ولإيضاح ما أعني أمضي فأقول: إنه لمن المصلحة أن تدرك الكافة، باديء ذي بدء، ان الاسلام لا ينفي ضرورة تغير القيم والمفاهيم بتغير الأزمنة والظروف. فكلمة "الإسلام" تعني الاذعان لإرادة الله والتسليم بغاياته، مع العمل على أن تكون هذه الإرادة هي العليا. وباستطاعة العالم الواعي الذي يدرس حركة التاريخ وطبيعة التغيرات الطارئة بغرض استشفاف كنه الارادة الإلهية، أن يميز بين الاتجاهات التاريخية الحتمية التي تمثل قضاء الله الواجب الرضا به، وبين الأحداث والاتجاهات التي تسير ضد تيار التاريخ، وتقاوم حتميته، وتعرقل وصوله الى هدفه، فيدرك ان من واجبه أن يحارب تلك الاتجاهات الاخيرة، وان يجاهد في سبيل الله ضدها، "حتى تصبح ارادة الله هي العليا". وبالتالي فإن بوسعنا ان نتصور ان "الأيدي العامية" وبعض الحركات المسماة بالإسلامية في مجتمعنا هي ضد ارادة الله وعليه فهي غير اسلامية ويحق لنا مقاومتها، إن هي عميت عن كنه الارادة الاهلية الكامنة في التغيير، وتجاهلت الحتمية التاريخية، وأبت أن تغير مفاهيمها في ضوء المعارف المستجدة، في حين يمكن أن تكون جماعات غيرها، من دون إدراك واعٍ منها، إسلامية حقاً، إن كانت ذات وعي بالاتجاهات التاريخية، مساعدة بجهدها على دفعها نحو غايتها المنشودة. جميعنا يعلم أن الحياة هي عملية مستمرة من التكيف وفق مواقف دائمة التغير، واختيار القيم التي تحكم هذا التكيف جزء لا يتجزأ من هذه العملية. وأبدى المسلمون الاوائل همة عظيمة في سبيل تطوير المفاهيم الاسلامية حتى أغلق باب الاجتهاد. ثم زاد الطين بلة ما أدت اليه عُزلة المسلمين عن العالم الخارجي في ظل الدولة العثمانية من جهل بالتطورات الايجابية الهائلة التي حدثت في اوروبا إبان عصر نهضتها. فكان من أثر هذا الجهل، مع ما اتصف به مجتمعنا لأكثر من أربعة قرون من سمات الركود والتحجر، وقلة التغيرات الطارئة في نواحي الحياة كافة، أن ضعُفت أو خمدت حاجة المسلمين الى تطوير القيم والمفاهيم والعقيدة. فما فُتحت ابواب الاتصال بأوروبا منذ قرابة قرنين حتى ثارت الأزمة الروحية التي ما كانت لتتسم بذلك القدر الرهيب من الحدة لولا طول أمد العزلة والركود والإحجام عن الاجتهاد، عندئذ نشأ الإحساس لدى قلة قليلة من الصفوة بضرورة تطوير المفاهيم، وأدلى البعض كالأفغاني ومحمد عبده بدلوه في هذا الشأن. غير أن تلك الجهود الفردية المبعثرة، مع استنارتها، لم يجمعها تنظيم، ولم يكن بوسعها إدراك أهمية التخطيط الجماعي، وضرورة مخاطبة الجماهير بلغتها، كما لقيت معارضة شرسة من جحافل الرجعية و"العامية" فلم يسفر عنها بالتالي غير نتائج محدودة. ثم ها هي ذي العولمة وقد اطلّت اليوم برأسها"تهدد بخفض الدور المنخفض أصلاً للتراث"، وللقيم المتعارف عليها والتقاليد، تهديداً كان المفروض أن تتضافر جهود صفوة العقول عندنا وأكثرها استنارة لمواجهته، "من اجل إنقاذ تراثنا من الاندثار وتحقيق المصالحة بين تأويلنا له وبين تحرير العقل والكونية"، غير أننا ننظر فإذا مجتمعنا قد بات اليوم أشبه شيء بخلية النحل التي فقدت ملكتها. قد نرى النحل مستمراً في مجيئه وذهابه، وقد نحسب هذه الحركة حياة، غير أننا متى اقتربنا من الخلية لنتأملها بعناية، ستهولنا مظاهر الفوضى التي ضربت اطنابها فيها بعد رحيل الملكة، التي جعلت من الأجدى التخلص من الخلية بإلقائها طُعمة للنيران. يقول صاغية: "إن التراث الاسلامي - العربي المهدد بالإنقراض، شأنه شأن كل التراثات المحلية المعزولة، يطرح علينا التحدي التالي: إما أن ندعه يوالي اندثاره، أو أن نتدخل للحيلولة دون هذا الاندثار بتوفير جسر تواصل مع العالم الأوسع، وبالتأكيد على ما هو كوني وإنساني فيه بقصد إحيائه الذي قد يفتح لنا معبراً ضيقاً لولوج الكوني". وأعقّب على هذه الجملة فأقول إن كبار مفكرينا ومثقفينا وحدهم - لا العامة - هم القادرون على أن تكون لهم اليد الطولى في مضمار هذا التدخل الذي يعدو صاغية اليه، وان واجبهم في هذا الصدد بات مضاعفاً ومُلحاً في هذه المرحلة بالذات من تاريخ العالم، وذلك لسببين: الأول: ان معظم مجالات النشاط البشري في عصرنا هذا - من سياسية واجتماعية وثقافية وعمرانية واقتصادية، بل ودينية ايضاً - اخذت مبدأ التخطيط والتوجيه الواعيين، ولم تعد تترك للمصادفة او القدر أو المبادرات العفوية، قد يرى البعض ان تطور المفاهيم والقيم حتمي سواء ساهم فيه المفكرون وخططوا له أم لم يفعلوا. غير اني اعتقد أن هذا التطور ان تُرك وشأنه من دون تخطيط واع وتوجيه من جانب الصفوة، قد لا يتخذ دائماً سمتاً ايجابياً محموداً. كذلك فإن التخطيط والتوجيه في مجالات القيم والمعتقدات والتراث ليسا فقط ممكنين، بل ولا غنى عنهما في هذا العصر بالذات، من أجل الوقوف في وجه المفاهيم الضالة وتعزيز الاتجاهات المرغوب فيها. والثاني: ان الانسانية وهي مقبلة على العولمة، تواجه نظاماً جديداً له مواصفات ومتطلبات مثل تخلي الدول والشعوب عن المفهوم البالي عن حق الدولة في السيادة المطلقة داخل حدودها القومية، واستئصال كل ما من شأنه أن يتعارض مع أمن العالم واستقراره، أو يهدد مبادئ الحرية والديموقراطية والليبرالية والتعددية. فهو إذن نظام يهمه في المقام الأول غرس مفاهيم جديدة عن الحرية والاستقلال، ومبادئ قانون اخلاقي جديد، ونشر الوعي بالمشاكل التي تواجه الجنس البشري بأسره كالبيئة، والطاقة الذرية، والامن الغذائي، والانفجارالسكاني، والتعايش بين المعتقدات المختلفة الى آخره. فإزاء كل ما سينجم عن العولمة إذن تغيرات ضخمة متلاحقة، تغدو المشكلة المحورية التي يتحتم على مفكري العالمين العربي والاسلامي أن يحلوها مكان الصدارة في قائمة اهتماماتهم هي: هل من المصلحة تكييف المفاهيم والقيم السائدة الآن في منطقتنا وفق الأحوال الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم ككل؟ فإن كانت الاجابة بالايجاب انتقلنا الى السؤال: كيف؟ سيكون عليهم عنذئذ توفير الاجابات الواضحة الشافية على الاسئلة الخمسة الآتية: ما القيم الاساسية التي ينبغي ان تحكم أي اتجاه الى التكيف والمواءمة؟ ما هي طبيعة التغيرات الرئيسية التي يشهدها العالم المعاصر؟ كيف يمكن مواجهة هذه التغيرات في ضوء القيم الاساسية التي اخترناها؟ ما التعديلات التي ينبغي إدخالها على القيم الاساسية من اجل ضمان كفاءة أكبر في مواجهة التغيرات؟ وما حقائق البيئة المتغيرة التي يمكننا قبولها في ضوء قيمنا العربية او الاسلامية؟ وما الحقائق التي تلزمنا تلك القيم بواجب مقاومتها؟ ستتمثل اعتى القوى المدمرة المقاومة لجهود المفكرين في اولئك الرجعيين الذين لا يعترفون بقابلية القيم الدينية للتكيف والتعديل مع ثبات جوهرها، ولا يدركون ان الفشل هو مصيرهم المحتوم ما لم يترجموا التجربة الدينية الحقيقية الى لغة الظروف المستجدة، وان الشلل او التخريب هو عاقبة كل محاولة لتطبيق الاحكام بصورتها القديمة على هذه الظروف، وسيكون على المفكرين ان يهدئوا من مخاوف هؤلاء عن طريق بيان انتفاء التعارض بين التمسك بمفهوم القيم والتراث والتقاليد وبين الاستجابة لحاجات العالم الجديد، وانه إن كان الاول هو الكفيل بتحديد الهدف النهائي من تصرفات المسلم، فإن الثانية تمكنه من المعاصرة، وتحول بينه وبين الانسحاب من التاريخ. سيكون بوسعنا ايضاً متى نجحنا في كل هذا ان نجيب عن سؤال صاغية عن سبيل عولمة التراث ومصالحة تأولينا له مع تحرير العقل. لن يتطلب الأمر أكثر من أن نتخذ من تراثنا ومن الحضارة الكونية موقفين مغايرين لموقفنا الآن: من تراثنا، بحيث لا يكون الهدف من الاقبال عليه الهروب من حاضر ثقيل الوطأة، او الترويح عن النفس، او التفرّج على اطلال العصور الخوالي، وانما هو الاستفادة من حكمة الاقدمين، وتجارب الاسلاف، في أن نجعل من عالمنا المعاصر عالما أفضل، وأن نهيىء لأنفسنا وابنائنا مستقبلاً ازهى، لا نحترم الماضي لمجرد أنه ماض، ولا السلف لأنهم سلف، ولا نقصر الحق في التفكير على الأموال، ولا نمكّن يد الماضي من أن تمسك بخناقنا، ولا أعناقنا من الالتواء من فرط تلفّتها إلى الوراء. ومن الحضارة الكونية وحضارات الغير بحيث لا يحكم موقفنا إحساس بالنقص مهين، او استكبار مشين، او فقدان الثقة بالنفس والتقاليد والدين، مع الإقرار بأن الاستفادة من معاصرة غيرنا ممكنة على نحو استفادة اوروبا من معاصرة العرب والمسلمين إبان العصر الوسيط في تجاوزها لواقعها الى عصر النهضة، فعصر الاصلاح الديني. إن الحديث عن التراث يمكن أن يكون بأحد معنيين: أنه مجموع ما خلّفته قرائح الاقدمين وصفوة الاسلاف من فكر وعلم وفن ونمط عيش وفنون حضارة مما يمكن لجيلنا الحالي الافادة منه، والاستعانة به على حل ما يواجهه من المشاكل والتحديات ومن بينها تحدي العولمة، او تعريفه بأن كل ما أفرزه الماضي من افرازات، ضارة ونافعة، سامة وسليمة، لا يزال لها اثرها الفعّال في مسلكنا ومعتقداتنا واسلوب معيشتنا ونظرتنا الى الحياة، منها ما يجدر بنا التمسك به وتنميته، ومنها ما ينبغي علينا محاولة استئصاله، أو الحد قدر الإمكان من نطاق سلبياته، فإن كانت شعوب منطقتنا - من دون استثناء - ترنو وتتطلع وتأمل وتضرع ان يقترب مستوى معيشتها، ولو قليلاً من مستوى المعيشة في الدول الغربية، وترفض في الوقوف نفسه وتأبى، وتقاوم وتناضل، ضد نَيْل هذه المحاولة لرفع مستوى المعيشة من قيم لديها وتقاليد هي المسؤولة عن تخلفها وعن انخفاض مستوى المعيشة فيها، فكيف سيكون بوسعها التوفيق بين الرغبتين؟ وأما المعاصرة فتفترض موقفاً ايجابياً نشطاً من جانب مثقفين يستهدفون الإدراك الواعي لحقائق الزمن الذي يعيشون فيه، وعناصره، وموقعه من مجرى التاريخ، وعلاقته بالمستقبل المرئي، ومحاولة التغلب على الاتجاهات التي تعرقل وصول التاريخ الى هدفه. واستناداً الى هذه المفاهيم أقول: ان ماضي وتراثي وسلفي، وماضي الحضارات الاخرى وتراثها وأسلافها، لا يعنيني منها الى الجانب الذي ثبت لدي أنه حي، وان بوسعه ان يُثري حياتي وحاضري، ويزيد من قدرتي على مواجهة تحديات مستقبلي، ومن قدرة امتي على مواجهة تحديات مستقبلها. كذلك فإن بوسعنا من المنطلق نفسه ان نتخيل تغير تقويم أهل كل زمان لأعلام تراثهم وثماره عن تقويم أهل الزمان الذي سبقه، وان نقول إن من حق كل جيل، ومن واجبه، أن يُعيد تقويم عناصر تراث امته للتمييز بين ما يمكن استخدامه منها فيُبقي عليه، وبين ما لا يمكن استخدام فيُغضي عنه. فنحن انما نعيش في زماننا نحن لا زمان الأقدمين. وما لا يساعدنا من تراث الاسلاف على حل مشاكل زماننا هو ميت الى حين اكتشاف جيل تال لجيلنا ان فيه حلاً لمشاكله فيُحييه، أما ما نجد فيه العون فهو حيّ الى حين اكتشاف جيل تال عدم جدواه فيُنحّيه. * كاتب مصري.