لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    يونس محمود ينتقد ترشيح المنتخب السعودي للقب كأس الخليج    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم التراث بين الثبات والتغير والأصالة والمعاصرة
نشر في الحياة يوم 11 - 08 - 1998

التراث للأمة بمثابة الذاكرة للشخص، فإذا فقد الشخص ذاكرته انقطع عن كل صلة له بماضيه. فالتراث تراكمات للأحداث والفترات التاريخية، على نحو يصيغ هوية وذاتاً حضارية خاصة. ومن ثم فهو مليء بالثمين والغث من الأحداث والكتابات. كما إن وجود تراث غني لا يعرقل مسيرة المجتمع بل يمكن الاستفادة من المخزون الغني لهذا التراث لتطوير نمط تحديث، وتقدِّم التجربة اليابانية والتركية مثالاً لهذا. فتركيا حينما أرادت القيام بعملية تحديث على النمط الغربي، ونبذ الإسلام والتراث الاسلامي وقعت في أزمة ما زالت تعيش إرهاصاتها الى الآن. أما اليابان فوازنت بين تراثها الأصيل والتطورات العملية والتقنية على النمط الغربي فاستطاعت بنجاح القيام بعملية تحديث وأضحت أحد عمالقة هذا العالم. غير أننا سنركز اختصاراً على محور محصور، نراه مهماً واستراتيجيا وينبغي ألا يُهمل في هذا المقام، وهو مفهوم التراث وعلاقته بمفهومي الثبات والتغيّر من ناحية، والأصالة والمعاصرة من ناحية أخرى.
أولاً مفهوم التراث وإشكاليته:
لعل أبسط تعاريف التراث تقول: "التراث هو ما تركه السلف للخلف". والكلمة جاءت في القرآن الكريم في قوله تعالى "وتأكلون التراث أكلاً لما"، وجاء في تفسير التراث بمعنى الميراث، والميراث يخص الأمور المادية أساساً أما التراث فينصب على الأمور المعنوية من فكر وثقافة وقيم وتقاليد. غير أن لسان العرب فرّق أساساً بين الإرث والموروث، فالإرث هو ما يورث من أصول والموروث هو ما يورث من أموال، ونحن نعتقد أن التراث هو مجموع الاثنين معاً ما يورث من أصول مادية ومعنوية.
ويتساءل البعض هل التراث هو الانتاج الفكري والثقافي والعلمي لأمة من الأمم في فترات نضوجها وتفتحها وقياداتها أم في فترات انحسارها وانحدارها أم فيهما معاً؟ أم يعني التراث كل ما ينطوي عليه تاريخ مجموعة بشرية من قيم وأنماط حياة، وإنتاج فكري وفني وعلمي؟
لعل التراث كل ما هو موروث في مجتمع معين عن الاجيال الغابرة من عادات وتقاليد، وأخلاق وآداب، وتعابير، وتنظيمات، وهذا المعنى هو بالضبط ما تؤدّيه كلمة التراث شريطة ألا نحصره في ما هو مكتوب أو مروي، لأنه ليس من الضروري أن يكون التراث مكتوباً بل يكفي أن يكون منقولاً أو متوارثاً بأي شكل. فالتراث هو من صنع الانسان أولاً، إذ أنه حصيلة الإبداع الفردي والجماعي، وهو مستمر بالإبداع، وهو عرض متغير ثانياً، وليس كياناً ثابتاً بل أن التراث يسير معنا في رحلة الزمان، وهو تاريخي زماني تراكمي من جهة ثالثة.
وإذا كان البعض يرى أن التاريخ هو "حاصل الممكنات التي تحققت" فإن التراث - كما يقول محمد عابد الجابري، في الوعي العربي المعاصر، لا يعني فقط "حاصل الممكنات التي تحققت" بل يعني حاصل الممكنات التي لم تتحقق وكان يمكن أن تتحقق "أنه لا يعني ما كان وحسب، أيضاً ولربما بالدرجة الأولى ما كان ينبغي ان يكون". ولذلك يرى الجابري أن كل الشعوب تفكر بتراثها، ولكن الفرق شاسع جداً بين من يفكر بتراث ممتد الى الحاضر، ويشكل الحاضر جزءاً منه - أي تراث متجدد يخضع باستمرار للمراجعة والنقد، وبين من يفكر بتراث توقف عن النمو منذ قرون تفصله عن الحاضر مسافة طويلة. ومن هنا يركز الجابري على عنصر العلاقة بين التراث والماضي ليصف التراث بأنه "كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أو ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد"، الجابري، "التراث والحداثة"، بيروت1991.
والتراث كلغة يمكن أن يشمل القرآن الكريم والسنة النبوية المكملة له أيضاً. ولكن جرت العادة في الاصطلاح، سواء ارتبط بعلوم الحضا رة المدنية أو بالعلوم الشرعية التي قامت حول الكتاب والسنة، على ضرورة التفرقة بين معنى الكلمة أو المصطلح، وبين المضمون المراد والذي قد يختلف باختلاف الزمان والمكان، وإنه وإن دخل القرآن والسنة في المضمون اللغوي للتراث فإنهما يسموان عليه، فالتراث ينطلق منهما وينضبط بهما.
ويقدم الدكتور حسن حنفي تعريفاً للتراث باعتباره ليس مجرد تراث متحفي أو نمط سلوك ماضوي بل هو نظرية للعمل، وموجِّه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها، واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الانسان حنفي، "التراث والتجديد" بيروت 1981. ويفصل ذلك الدكتور حامد ربيع حسين، حين يرى أن التراث مجموعة من القيم التاريخية المرتبطة بجماعة معينة، وقد قدر لها ان تترابط مع تلك الجماعة لا فقط كحقيقة فردية أو معنوية، وانما كممارسة جماعية استقرت، ولو خلال فترة محدودة من الزمن، وترسبت في الوعي الجماعي والتقاليد، فإذا بها اضحت علامة من علامات تلك الجماعة. ومظهراً من مظاهر التعبير عن الانتماء الى تلك الجماعة، أو بعبارة أخرى أن التراث، وكما يوضح حامد ربيع، يفترض عناصر ثلاث: قيم، ممارسة، استمرارية. القيم في ذاتها هي نوع من المعرفة والثقافة، لكن الممارسة لتلك القيم تقودنا الى نطاق الحضارة ولكن ليست كل حضارة تراث. إن التراث هو ذلك القسط من الحضارة الذي ترسب من خلال استمرارية معينة فإذا به تقليد متماسك بغض النظر عن مدى احترام ذلك التقليد، وطول الفترة الزمنية التي تعبر عنها الاستمرارية.
وبعيداً عن تعدد التعريفات فإن التراث كمفهوم يفترض عناصر مشتركة يمكن اجمالها على النحو التالي:
1 - عنصر العطاء البشري، حيث يتصف التراث بأنه عطاء إنساني بمعنى أنه عطاء أيّ مجموعة بشرية في مرحلة تاريخية معينة. وطالما أنه كذلك فإنه لا معنى لأن يكون للتراث أي صفة قدسية أو سلطوية، من ثم يخرج منه مصادر العقيدة الإلهية "القرآن الكريم والسنة النبوية المكملة له لأنهما بحكم تعريفهما الباطن خارج الزمان، وهذا لا ينفي تأثيرهما عليه".
2 - عنصر الاستمرارية، ويتضح في أن التراث بما يحمله من فكر وقيم وعادات وتقاليد يعتبر عامل ربط زمني بين الماضي والحاضر والمستقبل حيث يتصف التراث بأنه تاريخي زماني تراكمي، وبالتالي فهو يربط بين الماضي والحاضر، وممتد الى الحاضر. هو أيضاً عامل وصل وربط الحاضر بالمستقبل أو بعبارة أخرى أن التقاليد والعادات والألفاظ والأفكار التي كانت سائدة في الماضي ما زالت تعيش في الحاضر أو ترقد خلفه كما أن لها تأثيراتها على المستقبل، وفي الوقت نفسه فإن الاستمرارية بهذا المعنى لا تعني التكرار بقدر ما تعني التراكم.
3 - عنصر الانتاج، ويضم في تعريف التراث جانبيه المادي والمعنوي، فالتراث المادي أو ما يعرف برموز التراث قوامه الآثار والمخطوطات، وكتب التراث الفكرية، والثقافية، والعلمية، وما تضم المتاحف من أنواع الفنون، والأعمال. أمام التراث المعنوي فيفترض وجود تراث فكري، وهو ما قدمه العلماء والفلاسفة والمفكرون السابقون من نتاج فكري وثقافي. كما يفترض ايضاً وجود تراث يضم القيم والقواعد السلوكية، والعادات والتقاليد. إذن التراث بتعبير الانتاج يتضمن الجانب المادي والمعنوي في الوقت نفسه، أو بعبارة أخرى يفترض وجود فكر وحركة، ورموز لهذا الفكر وتلك الحركة.
4 - عنصر الجماعة، حيث يترسب التراث بجانبيه المادي والمعنوي في وجدان ووعي جماعة معينة ويصبح علامة ومظهراً من مظاهر الانتماء الى تلك الجماعة بحيث يعبر عن جوهر الهوية أو الذاتية الحضارية لأي جماعة ينتمي إليها.
5 - عنصر البيئة، يرتبط التراث أيضاً بالبيئة بما تحمله من أوضاع جغرافية وظروف تاريخية ومعتقدات دينية، بحيث يكون هناك تأثير متبادل بين التراث والبيئة. فالبيئة تترك بصماتها وتأثيراتها على التراث كما أنه - أي التراث - يؤثر في البيئة من خلال التغير الذي يحدثه فيها.
ثانياً: اشكالية الثبات والتغير: موقع التراث وخبرة الأمة:
يرجع أصل كلمة الثبات في اللغة العربية الى الفعل ثبت أي استقر وسكن، والثابت هو المستقر غير المتغير دائماً ولا يعتريه اضطراب ومن ثم فالثبات هو الاستقرار، وهو حالة لنظام ما يتسم بالثبات النسبي في العلاقة بين عناصره، ومكوناته. ويتميز الثبات إما بغياب أو عدم وجود تحولات أو تغيرات شاملة أو حدوث التغيير ولكن في حدود معينة لا يتم تجاوزها، ومن خاصية الثبات تنشأ الحركة داخل اطار ثابت، وهو ما يتماشى مع النظام الكوني الذي يخضع لقوانين ثابتة وكل خروج عليها إنما هو الطريق الى الفوضى، والفساد. فالحركة داخل إطار ثابت لا تعني تجميد الحركة ولكن تقتضي المرونة ودفع الحركة داخل هذا الاطار الثابت، وهذا هو طابع الصفة الإلهية. فالقول بوجود عناصر للقيم والثقافة تتسم بالثبات لا ينفي وجود عوامل تغيّر يمكن أن تؤثر في هذه القيم وتلك الثقافة بحيث تعيد تشكيلها، فتنشأ منظومة جديدة للقيم والثقافة تختلف قليلاً أو كثيراً عن المنظومة التقليدية، وقيمة وجود تصور ثابت القيم هو ضبط للحركة البشرية مع وجود الأصل الثابت الذي يرجع اليه الانسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف فيزنها بميزان ثابت ليرى قربها أو بعدها عن الأصل الثابت. من ثم فهناك ثبات في الغايات والأهداف ومرونة في الوسائل والاساليب أي ثبات على الأصول والقيم الدينية والاخلاقية، ومرونة في ايجاد الاشكال المؤسسة التي تحققها في الواقع المعاش. أما بالنسبة للتغير فالبعض يذهب الى أن الحركة تعد جوهراً وقانوناً للحياة. وإذا كانت الحركة بمعناها الأوسع تدل على التغير عامة فإن هذا يستتبع أن يكون التغير جوهراً للوجود وقانوناً للحياة. وأصل الكلمة هو تغير أي اصبح على غير ما كان. والتغير هو الانتقال من حال الى حال أخرى انتقالاً يؤثر على العملية التي تقوم بها البنية موضع التغير أو يؤثر على العملية والبنية معاً. ومن هنا فإنه ينبغي التأكيد على حقيقة أن التغير هو حصيلة تفاعل الاشياء ذلك التفاعل الذي يتسم بالتعقيد الشديد ولهذا اختلفت الآراء في شأن تفسيره. فالبعض يرى أن التغير حالة روتينية في المجتمع الانساني فالقديم لا يمنع الجديد من البروز فضلاً عن تداخلهما، والبعض الآخر يعتبر التغير فعلاً طارئاً يعتمد في حدوثه وصيرورته على توافر الحدث والغرض معاً.
وعلى وجه العموم فالتفرقة بين الثبات والتغير هي تفرقة نسبية إذ لا يمكن وضع المجتمعات على خط واحد بمعنى أن تكون المجتمعات المعزولة في طرف، والمتغيرة في طرف آخر، وبهذا المعنى لا يوجد مجتمع مستقر تماماً إذ لا يوجد هناك استقرار تام للانماط الثقافية. والمجتمعية بشكل عام، وبالمثل ليس هناك مجتمع كامل الدينامية والتغير حيث تتغير فيه كل الانماط من جيل الى آخر.
وترتبط خاصيتا الثبات والتغير بما يعرف بالتحول المجتمعي وخبرة الأزمة. فعادة ما تؤدي الأزمات المجتمعية الى وضوح الوعي بمشاكل الاستمرارية والتحول. والواقع ان التحول المجتمعي ظاهرة دائمة في المراحل التاريخية، ولكنه قد يحدث في فترات معينة بمعدلات بطيئة نسبياً ومن دون أن تلاحظه أغلبية المواطنين إلى الحد الذي توصف به حقبة تاريخية كاملة بالجمود أو الانحطاط. ولكن حتى في هذه الفترات التاريخية يدور الصراع بين قوى التحول والتغير والقوى الراغبة في الحفاظ على الوضع القائم. لذا فالأزمة هي محاولة تفسير وادراك معنى خبرات سلبية، ومثيرة للقلق يمر بها البشر في مواقف محددة، وعادة ما تفضي محاولات الخروج من الأزمة الى تغير أو تحول مجتمعي يدور حول الاسئلة التالية: مدى وكيفية وسرعة التغير المطلوب للخروج من الأزمة، وترتيباً علي ذلك مدى وماهية ومساحة الاستمرارية المطلوبة للمحافظة على وجود المجتمع وتماسكه. بعبارة أخرى: ما الذي يجب تغييره؟ وما الذي ينبغي الحفاظ عليه؟ وما الذي يجب أن يستعاد أو تتم العودة اليه مرة أخرى؟ وفيما يتعلق بالتراث بشكل خاص لم يستطع العقل العربي رغم معانته الأزمة حتى الآن حسم الاجابة على هذه الاسئلة، وهذا ما دفع الدكتور هشام شرابي الى القول بأنه ليس غريباً ان يبقى واقعنا الاجتماعي وبنيته الأساسية على ما هما عليه في المئة سنة الأخيرة دون أن يتغير منهما إلا السطح والقشور. ولهذا يحاول شرابي الاجابة على الشق الثالث من الاسئلة السابقة بقوله إن التراث المهم ليس هو التراث العتيق الذي يعود بنا الى مئات السنين الى الوراء بل هو التراث الجديد الذي صنعته الأزمنة الحديث في حياة الجيل السابق والجيل أو الجيلين قبله والذي صنعنا وصنع الواقع الذي نحياه. وبهذا فإن التراث الذي ينبغي دراسته والحفاظ على انجازاته، كما يقول شرابي هو في المكان الأول التراث الذي صنعته الاجيال الثلاثة أو الاربعة الماضية. وبهذا يصبح بإمكاننا اقامة قاعدة اجتماعية متينة فوق هذا نبني عليها ونوسع أطرها مما يمكننا من تجاوز الاحكام الخطابية كلها من ثورية أو أصولية أو غربوية شرابي النقد الحضاري للمجتمع العربي، بيروت، 1990.
ولكن يرى آخرون ضرورة الحفاظ على التراث ككل القديم منه والجديد، وإعادة إحيائه مرة أخرى بالنظر الى التراث الإسلامي بخاصة، وأن التراث الاسلامي له خصائص ومميزات وأبرزها أنه يجمع بين الثبات والمرونة معاً في تناسق محكم، وتوازن فريد، فلم يمل مع القائلين بالثبات المطلق الذين جمدوا الحياة والانسان. ولم يجنح الى القائلين بالتغير المطلق كذلك الذين لم يجعلوا لقيمة ولا لمبدأ ولا لشيء ما ثباتاً أو خلوداً بل كان وسطاً عدلاً بين هؤلاء وهؤلاء القرضاوي، مجلة "المسلم المعاصر" ع43، ومن هنا نصل الى نقطة البدء في التحليل للتراث، التي لا تقتصر فقط على جانب الثبات المتمثل في الشريعة، والنصوص الثابتة، ولا على جانب التغير المتمثل في الممارسة ووقائع التاريخ وأحداثه المستمرة، وإنما ينبغي لها أن تجمع وتسير على هذين الساقين من أجل معرفة أصول وقواعد الممارسة من دون الالتزام بتبني اشكالها أو إشكالياتها النابعة من خصوصيتها الزمنية والبيئية. ولهذا يكون لتناول التراث جانبان هما:
- جانب الثبات المتمثل في مجموعة القيم والمبادئ المستمدة من الاصول الثابتة حيث توجد قيم مثل العدالة والحرية والمساواة، وحيث توجد مبادئ مثل الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الجانب يستمد ثباته من مصدره المتمثل في أصول الشريعة الثابتة.
- جانب التغير، وهو الذي يتعامل مع الخبرة الانسانية التي تمارس الحركة وتصنع التطور، ومن ثم فإن ثبات القيم والمبادئ لا ينفي التطور، ولا يعني الجمود كما أن نسبية التطبيق وخصوصية التجربة لا تنفي اطلاقية القيم وثباتها نيفين عبدالخالق، مجلة "المسلم المعاصر" ع 43.
ثالثاً: التراث ومفهومي الاصالة والمعاصرة:
قد يبدو للوهلة الأولى، وبفعل الغموض وعدم التجديد الذي رافق توظيف هذين اللفظين الاصالة والمعاصرة منذ عقود مضت انهما على طرفي النقيض بمعنى أن شيئاً لا يستطيع أن يكون اصيلاً ومعاصراً في الوقت نفسه، وعليه أن يختار بين أن يكون أصيلاً أو أن يكون معاصراً، وهو ما يوضحه الدكتور محمد عابد الجابري بقوله: "إن هذا التناقض الذي ساد هو الذي جعل فريقاً منا يرى الأصالة في النموذج الموروث التراث الاسلامي وفي العودة إليه وإليه وحده، وهذا ما يمنعه بالتالي من أن يخطر له أن الأصالة الحقيقة هي تلك التي يجب أن نحققها في تعاملنا مع الفكر العالمي المعاصر، وهو ايضاً الذي جعل فريقاً آخر يرى المعاصرة في النموذج الوافد الفكر الاوروبي وحده بالرغم من ان المعاصرة الحقيقية هي تلك التي يجب أن نحققها في تعاملنا مع تراثنا أولاً الجابري، الخطاب العربي المعاصر، بيروت 1992، وهو ما جعل ايضاً الدكتور سيف الدين عبدالفتاح يعبر عن المعنى ذاته بسياق آخر حين يقول: "إنه ثار جدل كبير بخصوص مكانة التراث من عملية التجديد والاحياء. فمن قائل بأن العودة الى التراث تعد تقليداً يتعيّن نبذه والالتفاف عنه، ومن قائل بضرورة احياء التراث بوصفه عنصراً جوهرياً من عملية التجديد. والواقع ان كلا الاتجاهين قد انصرف الى الفروع دون تحديد الجوهر والأصول على نحوٍ جعل الخلاف مستمراً والجدل محتدماً حول مسألة التراث.
ولذلك يرى أن الأصالة كمفهوم لا يقابل المعاصرة بل هو يرتبط بالتجديد، والقدرة على تقديم الاستجابة، ومواجهة كل حادث. وعلى هذا تعني الأصالة تأكيداً الهوية والوعي بالتراث، وهي تعني ايضاً تكامل الحاضر مرتبطاً بالماضي ومتصلاً بالمستقبل فلا تستهدف الجمود ولا تقليد الماضي وإنما هي الارتباط بالخطوط الممتدة من ماضي الأمة الى مستقبلها مروراً بحاضرها سيف، التجديد السياسي.. رسالة دكتوراة، 1987. ويأخذ الدكتور عبدالله العروي موقفاً إزاء المعاصرة كونها تمثل تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر التي تدعي العالمية و الإلمامية، وتعرض نفسها علينا الى حد الالزام، والضغط، ولا تفتح لنا باباً سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور. وفي الاتجاه نفسه يذهب الدكتور حسن حنفي الى القول إن التراث الغربي ليس كما هو معروف عادة تراثاً انسانياً عاماً يحتوي على خلاصة التجربة البشرية الطويلة بل هو تراث فكري بيئي محض نشأ في ظروف معينة هي تاريخ الغرب وهو صدى لهذه الظروف ومن ثم لا يمكن نقله الى بيئة اخرى بإسم التجديد والمعاصرة. ولكن حنفي يرى أهمية دراسة التراث الغربي ليس في ذاته كي ينقل منه علماً أو معرفة بل لنأخذ منه موقفاً، ويدلل على ذلك بالصين التي كان يإمكانها أخذ بالجانب النظري من البحوث الذرية من حلفائها في الغرب ولكنها آثرت حتى في هذا الجانب القيام بأبحاثها المستقلة. ومن ثم يرى حسن حنفي ان التراث الغربي يمكن اعتباره على ما يقول السابقون من علوم الوسائل لا من علوم الغايات حنفي، في الفكر الغربي المعاصر، بيروت، 1990.
في حين يرى الدكتور يوسف القرضاوي أن الاصالة ليست هي التقوقع على القديم ورفض كل جديد مهما كان في القديم من ضرر ومهما صاحب الجديد من نفع لأن إبقاء كل قديم على قدمه، واغلاق باب الابداع والاجتهاد هو سبيل العاجزين. ومن ثم يؤكد على أن الأصالة ليست هي رفض كل شيء عن الغير أياً كان ذلك الشيء وذلك الغير، ويقول: "قد نستطيع أن نأخذ بعض الأطر أو الأشكال المناسبة لنا لنضع داخلها مضاميننا ومفاهيمنا الخاصة بشرط ألا يكون مبعث ذلك مجرد الرغبة في التقليد بل الحاجة الى التحسين والتجديد القرضاوي، مجلة المسلم المعاصر، ع4.
ومن ثم فإنه يجب التأكيد على أن الأصالة والمعاصرة كمفهومين ليستا على طرفي النقيض فلكل منهما نبع معرفي مختلف وهدف مختلف، فهما متكاملتان في البنى الثقافية ولا وجود لإحداهما من دون الأخرى، فالأصالة تفترض:
- التعبير عن التراث بشكل واقعي.
- الحفاظ على ركائز مشتركة في التراث مع تغير العناصر الهامشية منه ومع تكييف هذه العناصر مع المتغيرات المجتمعية والعالمية.
- الصمود الى النهاية لرياح تحاول أن تعصف بثوابت التراث.
- عدم الخروج عن الخصائص الجوهرية والبذور الحقيقية التي ينبثق منها الطابع المميز الثابت للتراث، تلك الخصائص الجوهرية تمثل في الوقت ذاته نقاط انطلاق لأية حركة تجديدية.
أما المعاصرة فتفترض:
- الوعي بظروف الواقع، والقدرة على التكيف مع المتغيرات الأساسية الحادثة في العالم من دون التضحية بالقسمات المشتركة للمجتمع.
- الحداثة بمعنى التجديد في الوسائل والأساليب وليس في المبادئ والقيم.
- تطوير العادات والتقاليد المجتمعية بما يناسب روح العصر ولكن دون الخروج عنها.
- التفتح وعدم الانغلاق والإبداع.
- وأخيراً فالمعاصرة بحد ذاتها تخضع الى تغير اجتماعي دائم وسريع. فالبيئة المحيطة بالفرد كثيراً ما تتغير جذرياً خلال فترة حياته، ويصبح تعلم الأمس أقل استعمالاً من حياة الغد.
* باحث مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.