طغت المواجهة بين رئيس حزب الامة السوداني المعارض رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي وزعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" العقيد جون قرنق، على أحداث الاسبوع. وجاء هذا التحول الكبير في طبيعة التحالفات السياسية السودانية في مرحلة طرح فيها الحل السلمي التفاوضي بقوة أكثر من أي وقت مضى خلال حكم الرئيس عمر البشير الذي أكمل عامه العاشر، في ظل حال تململ واسعة في الشارع السوداني ووسط قواعد القوى السياسية الحاكمة والمعارضة وفي الجنوب والشمال من جمود القيادات ومضي الزمن من دون أن يلوح أن في جعبتها ما تستطيع تقديمه لإنهاء أزمة السودان المتطاولة. وبرزت نذر الأزمة في "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض قبل وقت طويل من الأزمة التي نشبت بين قطبي السلطة في الخرطوم الرئيس البشير ورئيس البرلمان الدكتور حسن الترابي، لكن انعدام فرص حل المشكلة السودانية أبقى على الفرقاء داخل التحالف الذي يقوم أساساً على إسقاط النظام، في رد على مسعى الخرطوم إبعاد المعارضين من الساحة السياسية تماماً. ويتلخص الخلاف في أولوية الحل السياسي على الخيارات العسكرية في هذه المرحلة، لكنه يمتد الى قضايا كثيرة لم تحسم نهائياً داخل "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي ضم في أوج قوته جميع المعارضين السودانيين. وفي مقدم المشكلات عدم التوازن في تركيبة "التجمع" لجهة تمثيل النقابات والشخصيات وقوى عسكرية وأحزاب صغيرة مع قوى رئيسية ثلاث هي حزب الامة والحزب الاتحادي الديموقراطي و"الحركة الشعبية لتحرير السودان". هذا التمثيل لم يعبر تماماً عن قوة كل طرف ووزنه، ولذلك اعتمد أسلوب التراضي في مواجهة المشاكل، مما عرقل العمل لفترات طويلة، وجعله يفشل في عقد مؤتمره العام الثاني على رغم مرور عشرة مواعيد وفقاً لقرارات المؤتمر الاول. وتخطى الخلاف مسألة التمثيل الى هيكل "التجمع" وتوزيع المناصب أو المسؤوليات فيه، ثم الى خلاف لم يحسم أبداً في شأن التركيبة العسكرية لقوات الاطراف والتنسيق بينها، مما أقعد المعارضين عن تحقيق أي إنجاز على الجبهة العسكرية التي اعتمدوها خياراً رئيسياً لسنوات وعلى رغم الظرف الدولي والاقليمي المواتي حينذاك. وعلى الساحة السياسية في الداخل اعتمد "التجمع" منذ ست سنوات خيار الدعوة الى انتفاضة شعبية تطيح حكم البشير على غرار تجربتين شهدهما السودان في الحكمين العسكريين السابقين، لكن هذا التوجه أغفل طبيعة نظام البشير الذي اعتمد على ركيزة قوية من المؤيدين من أنصار الجبهة الاسلامية القومية، وأنفق جهداً ووقتاً كبيرين في تمكين أنصاره من مفاصل الدولة والمجتمع. ولم تشهد الخرطوم عملاً شعبياً كبيراً على نهج الثورة الشعبية طوال سنوات الدعوة الى انتفاضة، وانما شهدت تظاهرات متفرقة ناتجة عن أزمات محددة، عبر خلالها المعارضون عن رغبتهم في إطاحة النظام. وثار نقاش واسع بين مثقفين من المعارضين في الخارج في شأن جدوى صيغة "التجمع" ومشروعه، قبل أن تشهد الساحة السياسية تحولات كبيرة أضعفت خيارات العمل العسكري والانتفاضة الشعبية بقدر كبير. ولم يعد الحديث عن دخول الخرطوم من بوابة أسمرا يعامل بأي جدية من طرف الشارع والمراقبين. ويعد أهم هذه التطورات في انفراط عقد دول الطوق أريتريا واثيوبيا وأوغندا والكونغو وهو تحالف رعته الولاياتالمتحدة في خضم أزمتها مع الخرطوم ووجهته نحو تشديد الضغط على الحكومة السودانية. وإذا كان هذا العقد انفرط لأسباب لم تكن للخرطوم يد فيها الا أنها سارعت الى الاستفادة من المتغير الجديد ومن تحسن في علاقتها مع جارتها المهمة مصر. ومن التطورات أيضاً التوجه الذي بادر إليه الامين العام للحزب الحاكم الدكتور حسن الترابي بطرح قوانين تشكيل الاحزاب المعروفة باسم "قانون التوالي السياسي"، ثم إقرار الدستور، ثم لقائه مع المهدي في جنيف منتصف العام الماضي الذي فتح الباب على مصراعيه أمام فكرة الحل التفاوضي السلمي. ويعتقد على نطاق واسع أن الترابي أدرك أنه بحاجة الى العودة الى صيغة ديموقراطية وفي يده حزب قوي يستطيع أن يصبح ثاني الاحزاب الكبيرة في البلاد بعد أن كان ثالثها في الترتيب النيابي قبل انقلاب البشير. وعلى رغم أن الانشقاق الكبير في الحكومة السودانية بين الترابي والبشير أضعف حزب الحكومة وكان يمكن أن يصب في مصلحة المعارضة بشكل أساسي، إلا أن أحداث الاسبوع الماضي كشفت أن البديل المعارض لم يكن جاهزاً تماماً كما كان يحلو لقادة المعارضة الترديد خلال السنوات الماضية. وبدل استخدام الظرف السياسي الدولي والداخلي المواتي لدخول معترك التفاوض، لجأ "التجمع" إلى التأجيل المتكرر وخرج الاسبوع الماضي بقرار قضى بتشكيل لجنة لدرس المبادرات السلمية وسبل التوفيق بينها، ضمت كوادر ليست معروفة على نطاق واسع، وقرر تفعيل خياري العمل المسلح والانتفاضة القديمين. لم تكن للمعارضة يد في صراع البشير والترابي في منتصف كانون الثاني يناير الماضي، وبدا للمراقبين أنها لم تسجل أيضاً نقاطا لمصلحتها نتيجة لهذا الصراع حتى الآن. في غضون ذلك سعى حزب الأمة الى حمل حلفائه في "التجمع" الى طاولة المفاوضات، لكنه لقي عنتاً شديداً واتهامات وصلت الى حد الخيانة. وبرز قرنق في هذه المرحلة قائداً للجبهة المعارضة لموقف حزب الأمة لأسباب بعضها يخص مصير حركته فيما يتعلق بعضها الآخر بالحل السياسي الذي لن يربح منه كثيراً في حال إجراء أي انتخابات ديموقراطية في السودان. ويعاني قرنق حالياً مخاوف جدية من انفراط عقد التأييد السياسي لحركته في أوساط الجنوبيين في ظل تحرك مجموعة مهمة من قادة الجنوب السياسيين في الداخل والخارج نحو صيغة جديدة للعمل من أجل قضيتهم. ويقول هؤلاء، وبينهم مسؤولون كبار سابقون، إن الجنوبيين عانوا 15 عاماً من الحرب ولم يجنوا ثماراً سياسية، وأن الخط الذي يسير فيه قرنق حاليا سيخدم حل مشكلة المعارضة الشمالية قبل حل مشكلة الجنوب. ويلاحظ هؤلاء أن القوى السياسية السودانية كلها باتت مجمعة على قبول تقرير المصير للجنوب، ولذلك لم يعد هناك ما يرجى تحقيقه بالحرب. ويشكو هؤلاء من تجاهل قرنق لهم لأنه ممسك بالعصا العسكرية، وأن الوقت حان للسياسيين للقيام بدورهم. وشكل حزب الأمة مشكلة أخرى لقرنق داخل غطائه السياسي الشمالي الذي مكنه من فتح جبهة عسكرية في الشرق، بسبب فروق جوهرية بين المجموعتين في التوجه والاهداف والوسائل. وإذا كان قرنق اضطر الى التحالف مع "الأمة" و"الاتحادي" بعدما ظل يقول لوقت طويل انه يريد تحرير السودان مما يمثلانه، فإنه لقي صعوبة أكبر من خلال التحالف مع "الأمة" في تحقيق أهدافه المرحلية. ومن هنا اتخذ الخلاف الأخير طابع المواجهة بين قرنق والمهدي، على رغم أن الاخير يطرح مشروعاً مخالفاً لبقية قوى "التجمع" مثلما هو مخالف لتطلعات قرنق. ويلاحظ المراقبون أن زعيم الحزب الاتحادي رئيس "التجمع" السيد محمد عثمان الميرغني احتفظ بخطوط اتصال مع المهدي ولم يخض معه في أي مواجهات علنية. والتقي الزعيمان في أسمرا عقب انفضاض اجتماع "التجمع" الذي أعلن فيه خروج حزب "الأمة". واذا كانت انتقادات قرنق للمهدي بدأت بتحفظات واعتراضات في اجتماع قادة المعارضة في كمبالا غداة صراع البشير والترابي، فإنها انتهت اليوم الى تحذيرات من مواجهة عسكرية محتملة بين الاثنين. ويرى محللون للشأن السوداني أن المواجهات العسكرية المستمرة منذ أربعة أيام بين قرنق والحكومة قرب الحدود الاريترية، لا تعدو كونها تسخيناً سياسياً جاء نتيجة مباشرة لخروج حزب الامة من التجمع وبهدف إظهار قوة "التجمع" وقدرته على البقاء. ويقول هؤلاء إن المواجهة تتم في ظرف سياسي وإقليمي غير مواتٍ، مما سيعجل بنهايتها وعودة قرنق الى أرضه الطبيعية في الجنوب لخوض هجوم أكبر. ويعتقد هؤلاء أن اتصالات سريعة بين الخرطوم وأسمرا كفيلة بوقف هذا الهجوم