"عقولنا ضعيفة لأنها غير منظمة، ومعارفنا ضعيفة لأنها غير منظمة، وأخلاقنا ضعيفة لأنها غير منظمة، وأعمالنا ضعيفة لأنها غير منظمة، وآمالنا ضعيفة لأنها غير منظمة" مصطفى عبدالرازق السفور، العدد 43، 24 آذار مارس 1916 - 1 - ما معنى هذه الكلمة - التنظيم - التي يرددها مصطفى عبدالرازق بهذا العنف وبهذا الإصرار؟ التنظيم هو العقلانية، هو العقل، هو التنوير. غياب التنظيم هو غياب العقلانية، هو غياب العقل، هو غياب التنوير، هو الفوضى: فوضى الفكر وفوضى المعرفة وفوضى الأخلاق وفوضى الممارسة. فوضى حالة ما قبل الحداثة، حالة المجتمع الأبوي. في هذا المنظور، لا تعد "النهضة" مجرد اشكالية فكرية أو مقولة أدبية، بل حركة اجتماعية شاملة تصارع على جبهتين، جبهة داخلية وأخرى خارجية. الصراع الخارجي - الصراع ضد "الآخر" - نستقرئه في المواجهة الحضارية المتعددة الأطراف مع أوروبا أو "الغرب". والصراع الداخلي - الصراع مع "الذات" - هو الصراع بين العلمنة والدين، بين الحداثة والأبوية. ما هي نتيجة هذا الصراع في نهاية القرن العشرين؟ الفشل في كلتا الجبهتين: على الجبهة الخارجية عودة الإمبريالية، وانغراس اسرائيل، وانكسارات الأنظمة المتكررة. وعلى الجبهة الداخلية انهيار الإصلاح، وتراجع العلمانية، وسيطرة الوعي السلفي. في حين يصل العالم الى نهاية عصر الحداثة وبداية عصر ما بعد الحداثة يراوح العالم العربي في مكانه. وفي حين تحقق أوروبا - وأجزاء أخرى من العالم - الوحدة والتعاون الوحدوي، متجاوزة الدولة - الوطن Nation state، يعزّز العالم العربي نظامه القطري، ويعمّق تفسخ وطنه الجغرافي ويرسّخ سيادة الدولة الوطنية. - 2 - "النهضة" التي تتناولها هذه الدراسة هي التسمية البطولية التي اختارها جيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين للتعبير عن محاولة جيلي عصر الانفتاح على أوروبا من بداية الربع الأخير للقرن التاسع عشر الى نهاية الحرب العالمية الأولى في مجابهة الثقافة الأوروبية وإيجاد صيغة متكاملة لتنظيم الفكر والمجتمع لدخول العصر الحديث. وصلت هذه المحاولة الى ذروتها في العشرينات بصدور "الإسلام وأصول الحكم" لمصطفى عبدالرزاق ونقد الأدب الجاهلي لطه حسين، عندما أثير موضوع السلطة في الإسلام وموضوع نقد الأدب ودراسة التاريخ لأول مرة بلغة علمية نقدية حديثة. هذه الذروة شكّلت في الوقت ذاته بداية تعثّر الاتجاه العلماني الإصلاحي وتراجعه، أو على الأقل توقفه، وتحول فكر الإصلاح الديني الى وعي سلفي. "المنار"، رشيد رضا، حسن البنا. وهكذا، بعد أن كاد الفكر النهضوي في مرحلته الإصلاحية النقدية أن ينجح في تجاوز تناقضاته الداخلية بين العلم والدين، بين الحداثة والتراث وربما التوصل الى القطيعة مع الماضي الأسطوري، فشل في تحقيق "اليقظة" التي وصف ملامحها المحببة جورج أنطونيوس في كتابه "يقظة العرب" The Arab Awakening. بلا شك، ان فترة ما بين الحربين التي هيمنت فيها بريطانياوفرنسا على مصر والهلال الخصيب، كان لها أبعد الأثر في تعزيز التناقضات الداخلية، ونهوض الردّة الإسلامية ضد الأجنبي وثقافته الأوروبية، وأيضاً، بشكل غير مباشر، الى إضعاف الاتجاه العلماني الذي بقي على موقفه الفكري الدفاعي، متحولاً شيئاً فشيئاً الى التركيز على التنظيم السياسي والعمل الحزبي لمجابهة الاحتلال الأجنبي. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال والحرب العالمية الثانية، تجسد هذا الاتجاه في حركة التحرر العربي ثم في الحركة الناصرية الوحدوية، التي بلغت ذروتها في الستينات وانهارت في السبعينات. وبعد موت عبدالناصر بدأت المرحلة التي ما زالت قائمة، مرحلة بروز السيادات القطرية وانحسار الأحزاب السياسية وخصوصاً الأحزاب القومية واليسارية وهيمنة المدّ الإسلامي. وهكذا، بعد مرور أكثر من قرن، ما زال الضعف والفوضى مستفحلين في المجتمعات العربية. وما زال البحث يدور حول الإشكاليات ذاتها: الإصلاح والسلف، الإسلام والغرب، الحداثة والتراث الخ.، وما زال المثقفون العلمانيون ينادون بالتنوير والعقلانية متوجهين الى شعوب ما عادت تسمع أو تفهم ما يقولون، والى أنظمة لا تأبه بهم ولا تريد الا استخدامهم، وغرب لا يهمه أمرهم كثيراً. - 3 - منذ مئة سنة، إتُّهم عبدالرحمن الكواكبي، أحد أبرز روّاد النهضة، بالعمالة لدولة أجنبية اتهمته المحكمة العثمانية في حلب بالعمل "لتسليم البلاد الى الإنكليز" وحكمت عليه بالإعدام. فقرر الهرب وحمل أوراقه بينها مخطوطتا أم القرى وطبائع الاستبداد وركب سرّاً باخرة ركاب متوجهة من الاسكندرون الى الإسكندرية، فوصل الى مصر في نهاية 1899. رفض الكواكبي قبول الأمر الواقع ورفض القول اليائس "إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا"، وأصرَّ على أن العرب قادرون على التغلب على "الضعف"، كما فعلت، "الأمم الحديثة"، ك"الإميركان واليابان وغيرها ]من[ الأمم". وعاش في مصر سنتين يصارع من أجل تغيير الأمر الواقع، وأصدر خلالهما كتابيه الشهيرين تحت اسم مستعار وتوفي في 8 حزيران / يونيو 1902 مسموماً، كما قيل، على يد عملاء السلطان عبدالحميد. انطلق الكواكبي من مدرسة الأفغاني وعبده ومن موقفهما الليبرالي الإصلاحي، وتبلور تفكيره في ظل فكر الحداثة الأوروبية ومفاهيمها السياسية والاجتماعية. إلاّ أن صلب تفكيره السياسي والاجتماعي نما وتكامل خارج الثقافة الأوروبية وخطابها النقدي، والأمر لا ينطبق على نظيره المعاصر، المفكر الإسلامي محمد أركون، المقيم في فرنسا، أو على المثقفين العرب المسلمين الذين استوعبوا الخطاب النقدي الغربي مباشرة، مثل محمد عابد الجابري المقيم في المغرب وحسن حنفي المقيم في مصر. ومع ان الإشكالية التي يتناولها أركون والجابري وحنفي هي ذاتها التي عالجها الكواكبي إشكالية العودة الى الإسلام "الصحيح" الخ. فإن مقاربة أركون تختلف اختلافاً كبيراً عن مقاربة الكواكبي الساذجة. فموقف أركون وموقف الجابري وحنفي ينطلق من تفهم عميق للفكر الأوروبي المعاصر ونظرياته النقدية، مع استيعاب متين لمقولة "القطيعة المعرفية" التي يقوم عليها خطاب ما بعد الحداثة، مما مكّنه من تجاوز التضارب الذي وقع فيه الكواكبي وروّاد النهضة الإصلاحية بعامة ومن طرح أسلوب جديد للتوفيق بين النظرة الإسلامية التقليدية وبين النظرة العلمانية المعاصرة التي تقوم على التعددية العقائدية وتساوي التفسيرات المختلفة التي تنشأ ضمن سياقات زمنية وجغرافية متغيرة. من هذا المنظور، لا يعود الخلاف محصوراً بين تفسير تراثي "لا يتفهم لغة العلم الحديث" وآخر "علماني عصري"، بل بين تفاسير مختلفة، منها ما يقدمه الباحث "المتحرر العالِم" ومنها أيضاً ما يقدمه القارىء "المُسلم المقلِّد". ان القطيعة الفكرية التي غرسها نيتشه في القرن التاسع عشر ورعاها هيدغر وفوكو في القرن العشرين والتي يدعو اليها أركون بلطف وحذر، إنما تجري بتحرر العقل واكتشافه لقدراته المستقلة وتمكّنه من التعبير "عن تأولاته... للواقع" بلغة جديدة وإطار فكري حديث. إلاّ أن الواقع العربي، في سلطته القمعية وخطابه الأبوي المهيمن، أبقى الكثيرين من المثقفين العرب الذين قالوا بالنقلة المعرفية والحداثة، في حال من التذبذب والتراجع، فاستمرّ التضارب داخل الخطاب السياسي بين مفهوم الأمة الإسلامية الأفغاني: "لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم" وبين مفهوم الأمة العربية "العرب أمة واحدة" ومفهوم الدولة - الأمة Nation - state القطرية. كيف يتم الخروج من هذا التضارب دون تراجع في الموقف العلماني القومي الناقد سياسياً وثقافياً وفي الوقت ذاته دون الغاء الموقف الديني؟ هناك ثلاث مقاربات ما زالت قائمة لمجابهة هذه الإشكالية الكلاسيكية: المقاربة "العلمية"، بالمعنى الساذج للكلمة، التي نادى بها عدد من المثقفين العلمانيين في مطلع النهضة التي تنفي الفكر الديني كلياً وتستبدل به فكراً يقوم على "العلم الحديث". وهي مقاربة فقدت صدقيتها في معظم أوساط الجيل الحاضر من المثقفين. والمقاربة التفريقية التي تفرق بين المعتقد الشخصي الفلسفي أو الديني وبين الإلتزام الاجتماعي / السياسي وتجعل موضوع الدين والمعتقد الذاتي مسألة نظرية لا دور لها في فسحة النشاط الاجتماعي العام كما عند أنطون سعاده في كتابه الإسلام في رسالتيه المحمدية والمسيحية. والمقاربة العلمانية التي تقوم على القطيعة المعرفية التي ترفض المقاربات "العلمية" و"التوفيقية" وتتجاوز المنظورين الديني والميتافيزيقي للمجتمع والتاريخ وتفتح باب التعدد العقائدي والاختلاف النظري على مصراعيه. وهذا ما فصَّله محمد أركون في إجابته عن أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟. - 4 - إن علاقتنا بالغرب وخصوصاً بأميركا ما زالت علاقة تضاد واختلاف. الغرب اليوم وأكثر من أي وقت سابق ما زال يريد لنا غير ما نريده لأنفسنا. نحن نريد الحداثة، وهو يريد لنا التحديث. نحن نريد السيادة والاستقلال وهو يجبرنا على التبعية. نحن نصبو الى التحرر والوحدة، وهو يدعم الأنظمة الأبوية التي تقف في وجه التحرر والديموقراطية وتمنع الوحدة. هذا هو الغرب الذي يتحدث عنه عربياً سمير أمين في تحديده لعلاقة نظرية التبعية: الغرب المهيمن بنظامه الرأسمالي وثقافته النابعة من هذا النظام، والذي يمنع الأطراف، وعالمنا العربي جزء منها، من الخروج من تبعيتها والدخول في الحداثة. ويصر سمير أمين على تسمية هذه الثقافة السائدة الرأسمالية العالمية لا الثقافة الغربية. فالطابع الغربي للثقافة الرأسمالية هو، على حد قوله، "مجرد مظهر، أو شكل بأبسط معاني الكلمة". إن الثقافة الرأسمالية هي الثقافة الأولى في العالم التي تحررت من الثقافة التقليدية الثقافة الأبوية، ثقافة ما قبل الحداثة وفرضت نفسها على صعيد عالمي. وتوقع ماركس أن تمحو الثقافة الرأسمالية، مع توسعها عالمياً، الثقافات الأبوية التقليدية في آسيا وأفريقيا كما حدث في الغرب، وتستبدل بها الثقافة الحديثة، إلا أن هذا لم يحدث. الحل الذي يدعو اليه سمير أمين يبدأ بإزالة التطريف الرأسمالي والقيام بثورة ثقافية. "للخروج من المأزق ينبغي إزالة النتائج الاجتماعية... التطريف الرأسمالي، والقيام بثورة ثقافية تتيح الفصل بين العقل والإيمان". لكن في الغرب، في نهاية القرن العشرين، هناك مشروع ثقافي آخر، يقف في وجه مشروعه الرأسمالي، مشروع تفكيكي ينقد المشروع الاستعماري وينقضه ويحدد معالم جديدة للنضال ضد الاستعمار الثقافي الجديد نفسه. انه المشروع المنبثق من مفهوم ما بعد الحداثة. أولاً، وقبل تحديد ماهية هذا المشروع، لنسأل مع علي حرب في كتابه نقد الحقيقة: ما هو الموقف الذي يتوجب اتخاذه إزاء هذا المشروع، هل نرفضه لأنه مشروع غربي، أو نختار العكس، فنختار "الاقتباس منه والإفادة منه فكراً وعلماً وثقافة" ونثير أيضاً في هذا السياق، السؤال الذي يطرحه محمد عابد الجابري: "هل للعرب مستقبل لا يدخل فيه الغرب". هل هذه الإشكالية مجرد اشكالية خيار؟ فكما يقول مطاع صفدي، ان المثقفين العرب بأكثريتهم لا يعرفون المشروع الثقافي الغربي - وهم ان عرفوه لا يقرأونه وإن قرأوا بعضه لا يفهمونه كله. ونحن نتساءل كيف لهؤلاء المثقفين أن يفهموه الفهم الصحيح ان لم يمتلكوا اللغة وناصية النقد الحضاري والحد الأدنى من الفكر الفلسفي الذي يؤطّرهما؟ لقد حدد موقف المثقفين العلمانيين العرب إزاء مشروع الحداثة وما بعد الحداثة ممارسات فكرية مختلفة. فالقادرون منهم على القراءة، أي المتمكنون من اللغات الأجنبية ومن المنهجية النقدية التفكيكية، وبخاصة الأكاديميين والباحثين في المعاهد الغربية، يحاولون بمعظمهم محاكاة النقّاد والكتّاب الغربيين فيخضعون في كتاباتهم لإشكالات تقع خارج اشكالاتهم الصحيحة إشكاليات مجتمعهم وثقافتهم الأولى. ومن يتفوق منهم في حقل ما يُكافأ على منجزاته العلمية والفكرية فيزيد انتماؤه الى النظام الثقافي الذي يعيشه ويتفاقم بُعده عن حضارته الأصلية. إن المطلب الأول في هذا السياق هو إخراج هؤلاء المثقفين عن مسارهم الأكاديمي التجريدي. والمطلب الثاني هو تغيير أسلوبهم في الكتابة عندما يتوجهون الى قرائهم العرب. نحن بحاجة الى ابتداع المقولات العربية الخاصة للمعنى الذي نرمي اليه ونريد صُنعه. ونحن بحاجة في الوقت نفسه الى تبسيط المعنى وتوضيح الفكر وتجنّب التعقيدات اللغوية والغموض الذي تتسم به لغة الكثيرين من المفكرين الغربيين، وبخاصة الفرنسيين الذين كان لهم أثر سيء في نشوء "لغة" عربية نقدية في غاية الغموض والتعقيد. لذلك، فإن لم نجد مخرجاً من النزعة الأكاديمية ومن التعقيدات اللغوية ستبقى كتابات المثقفين العرب، حتى الطليعيين والملتزمين منهم، حوارات مغلقة، تنبثق من سياقات غربية، محصورة في نطاق ضيق بين اختصاصيين وأكاديميين محترفين يعملون خارج الواقع المعيوش. ... ومن هنا دعوة مطاع صفدي في كتابه "نقد العقل الغربي" الى قراءة العقل الغربي قراءة دقيقة ترمي الى تفهم ما هو العقل الغربي في وجهيه الحديث وما بعد الحديث. "لماذا هو كذلك، وكيف يحيا العمل وراء عدوانيته"، فنقرأه كما يقرأ نفسه أي "كما عرف هو خصائصه واعترف بشطحاته وسقطاته. أن نقرأ نقده هو لأنظمته المعرفية ونتاجاته المتتابعة، ثم تحولاتها عنها، وانزياحاته الانعطافية. أن نقرأ نقده لنقده، وحداثة المتناهي... وصولاً الى ساعة العقل الأخيرة". وكيف يقرأ العقل الغربي ذاته؟ وكيف نقرأ قراءاته لذاته؟ لقد قدم لنا مصطفى حجازي نموذجاً رائعاً لمثل هذه القراءة في مجلة "مواقف" 1993 من خلال تحليله أسطورة فرويد الرمزية حول "قتل الأب". في هذه الأسطورة يقتل الأبناء أب الرهط البدائي الذي استحوذ لنفسه على نساء الرهط وقمع أبناءه وكبتهم. بعد قتل الأب يصيب الأبناء شعور بالذنب يدفعهم الى عقد اتفاق فيما بينهم يحرم القتل في الرهط ويحرم الزواج بنساء الرهط ويؤدي تالياً الى تأسيس القانون والديانة الأولى في التاريخ الإنساني. بهذا المعنى يشكل قتل الأب تحرر الأبناء وبداية حياة تقوم على القانون والمساواة لا على إرادة الأب وشريعة الغاب، ما يشكل نقلة تاريخية من جمود المجتمع البدائي الى فعل الحركة والتغيير فيه. "فعل تحول التاريخ الآسن الى التاريخ المتحرك، يطلق قوة الحياة المتجددة". عملية قتل الأب الرمزية تتم في حياة كل جيل بشكل أو بآخر، فتنجح أحياناً وتفشل أحياناً أخرى. لكنها في الغرب، كما كتب حجازي، حققت النقلة الفاصلة في نهاية القرن الثامن عشر بنجاحها في إحداث القطيعة مع "الواحد الثيولوجي" التي أطلقت عصر الحداثة. إذ بهذه القطيعة تم تجاوز النظام الأبوي وخطابه التراثي وتحقق العبور الى النظام العلماني والوعي العقلاني الذي حدد معالم حضارة الحداثة في الغرب وميزها عن كل الحضارات الأخرى التي عرفها التاريخ. وفي حين دخل الغرب عصر الحداثة والتنوير بقيت الحضارات الأخرى تحت الهيمنة الأبوية وبقي الآباء يستوعبون ثورة الأبناء وقتلهم في كل جيل، ومن خلال موتهم القضاء على "مشاريع وجودية مستقلة"، كما يحدث اليوم بأشكال مختلفة في مجتمعات العالم الثالث. - 5 - إننا اليوم على مفترق طرق: طريق يسير باتجاه سلفي يؤدي الى اقامة نظام ديني ثيوقراطي موحد وطريق يسير نحو الحداثة ونظام علماني ديموقراطي متعدد. وكما قال سمير أمين، أعطيت الحركة الماركسية العربية في أواسط هذا القرن الفرصة لإحداث تغيير جذري في اتجاه الحداثة العلمانية وفشلت في تحقيق أهدافها، كما فشل بعدها المشروع الناصري الوحدوي الذي أنتجته الفئات الوسطى ذاتها التي ارتكزت عليها الماركسية، وتقاسمت معها أهدافه اللاجذرية وفلسفته البراغماتية المحدودة، التي لم تجابه حقيقة الأسئلة الأساسية طبيعة الرأسمالية، طبيعة الهدف الاشتراكي، مسائل الدين والثقافة، وانصاع معها للماركسية السوفياتية. وقد أدى فشل الماركسية العربية والحركة القومية الوحدوية الى تصاعد هيمنة الإيديولوجية الدينية، بدءاً من الثمانينات، وعودة الى ما كانت عليه قبل انطلاق المشروع التحديثي في مطلع العصر النهضوي الليبرالي. كذلك فشلت التوفيقية السياسية البراغماتية المنحدرة من الليبرالية البرجوازية القديمة في مجابهة الحركة الإسلامية، ما أدى في بعض الدول العربية الى انفجار العنف القمعي الداخلي على نطاق واسع، فانقلبت المواجهة من صعيد التعامل السياسي الى ما يشبه الحرب الأهلية. وقد أصبح واضحاً بعد هذه التجارب أن عنف الدولة لن يحقق الحل المطلوب، بل قد يزيد من حدة المواجهة ويقوي يد الأقلية التي ترى في العنف والعنف المضاد طريقها الأقصر الى السلطة. أما الإصلاحية الإسلامية المعتدلة التي ما زالت تحاول لجم الأصولية والعودة الى مواقف محمد عبده وجمال الدين الأفغاني الكلاسيكية أن لا تناقض بين الحداثة والإسلام، وأن في الإسلام كل مقومات الفكر والنظم العصرية الخ. فقد فشلت هي أيضاً في إيقاف المد الإسلاموي. ان المثقفين المسلمين الإصلاحيين، في تجاهلهم للتناقض الواضح بين ما يدعى بالحداثة الإنسانية Humanism وبين التراثية الدينية التي يريدون الحفاظ عليها، وفي إصرارهم في الوقت نفسه على التسوية الفكرية مع الإسلاميين الأصوليين باعتماد المراجع والنصوص الدينية القديمة، إنما يدعون الى بعض ما يدعو اليه سمير أمين في نظرية الثورة الثقافية: الى الفصل بين العقل والإيمان، الى اعادة تفسير الدين، الى حركة تصحيحية في الإسلام على غرار الحركة البروتستانتية في الغرب. لكن هل الإشكالية حقاً مجرد تضارب بين العقل والإيمان، أم هي في جوهرها صراع سياسي يتناول السلطة والمجتمع ونظام الدولة والقانون؟ إن ما يرمي اليه صفدي وحجازي وعدد متزايد من الكتَّاب والناقدين العرب، ب"قراءة" العقل الغربي، هو تفهم الخطاب الغربي التفكيكي الناقد لإيديولوجية النظام الاقتصادي السياسي الغربي، قراءة تقدم مفاهيم وأدوات تفكيكية مستقاة من الخطاب الغربي الناقد ذاته. وقراءة الغرب لذاته التي يشير اليها صفدي وحجازي، هي ربما القراءة التي ينبغي أن يصبو اليها المثقفون والناقدون العرب. وهذه القراءة لا تهدف الى حقيقة معينة تكمن في قلب الثقافة الغربية كما كان يدعي شارل مالك وألبرت حوراني بل تهدف الى تفهم تجربة العقل الغربي الفريدة بكونها تجربة "التخلي والمعارضة"، تجربة "النقد والنقض"، وقصة عقل "يثور على أصنامه ويرفض الخضوع لها". في هذا الإطار لا يعود الفكر الغربي مصدر عقلانية متفوقة أو نموذج حضارة عليا، بل يكون سياقاً يمكن بواسطته استكمال صنع الخطاب العلماني النقدي العربي وتحقيق القطيعة مع "الإرادة الأبوية" و"السلطة العليا" و"العقل الكلي الشامل"، ووضع أسس وعي جديد يقوم على الاختلاف والتعددية والمساواة. عندما نتفهم هذا الغرب في هذا الإطار ونتعرف عليه بالتجربة والمعاناة المباشرتين، كما تفهمه وتعرف اليه الكثير من المثقفين العرب في هذا الجيل، لا نعود نهابه ولا يعود يطغى علينا، فيصبح بإمكاننا فك الارتباط به والاستقلال عنه دون عزله أو إلغائه. وفي نهاية المطاف لا مهرب لنا من الغرب إلا بمواجهته والتصدي له. إننا ما زلنا الطرف المهمّش في "نظامه الجديد"، لكننا قادرون على النضال ضده والثبات في وجهه الى أن نتحرر من تبعيتنا له والى أن نقيم نظامنا العربي الحر المستقل. واشنطن - ربيع 1999 سيصدر الكتاب في طبعته الجديدة عن "دار نلسن".