Marie Gaille. Le Citoyen. المواطن. Flammarion, Paris. 1999. 240 Pages. لا شك في أن نحت مفهوم "المواطن" كان واحداً من الانجازات الكبيرة لعصر النهضة العربي. فنحن عندما نقول: "مواطن" بالانكلزية cityzen أو بالفرنسية citoyen، فإنما تكون الاحالة إلى المدينة city أو citژ، وليس إلى الوطن. ذلك ان كلمة "مواطن" رأت النور في المدن/ الدول، وليس في الممالك والدول الامبراطورية التي كان المواطنون فيها يسمون ب"الرعايا" في إحالة مجازية إلى علاقة الراعي بقطيعه. ورغم ان الشهرة في اختراع كلمة المواطن تعود إلى المدن اليونانية، ولا سيما أثينا في عصر بيركليس، يبدو ان "المواطن" قد وُجد، أول ما وجد، في المدن الفينيقية. وباعتراف ارسطو نفسه، فإن النظام السياسي للمدن الفينيقية - أو دستورها كما بتنا نقول اليوم - كان يقوم على "إرادة الشعب". وذلك كان واقع الحال في مدينة قرطاجة التي كان دستورها في نظر ارسطو مثالياً ومتفوقاً حتى على دستور أثينا أو اسبارطة. والواقع ان العلاقة بين مقولة "المواطن" ومقولة "إرادة الشعب" عضوية. فوحدها الدول التي تقر دساتيرها بأن الحكام فيها يستمدون مشروعيتهم من إرادة الشعب - لا من امتياز إلهي أو سلالي - يمكن ان تكون دول مواطنين. فأصوات المواطنين هي الفيصل في تنصيب الحكام أو خلعهم، وفي بقائهم أو رحيلهم. ولكن هذا لا يعني، بصورة آلية، ان نظام المواطنة ديموقراطي تام. ففي قرطاجة، كما في اسبارطة وحتى في أثينا، كان نظام الحكم في الواقع ارستقراطياً. فحق المواطنة ما كان يشمل جميع سكان المدينة، وإنما فقط أقلية من أبناء الأسر المتنفذة والغنية ومن الأحرار الأقحاح، لا من الغرباء المقيمين والارقاء الذين كان لا يقل تعدادهم عن عشرة أضعاف تعداد الأحرار. ومع سقوط الدول/ المدن وقيام الدول الامبراطورية، ممثلة بالامبراطورية المقدونية وبوريثتها الامبراطورية الرومانية، سجلت مقولة المواطنة تراجعاً كبيراً. ورغم ان تعبير "المواطن الروماني" بقي دارجاً في الاستعمال، فقد غدت دلالته لفظية خالصة، ولا تترتب عليها حقوق سياسية أساسية في ما يتعلق باختيار الحكام وإقالتهم. وفي العصور الوسطى، العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية، اختفى مفهوم "المواطن" تماماً من القاموس السياسي، ولم يعاود انبعاثه بصورة جزئية إلا مع تجدد ظاهرة الدول/ المدن في ايطاليا في مطالع عصر النهضة، وكذلك في الكانتونات السويسرية. وباستثناء هذا الاستثناء، فإن مخاض مفهوم المواطنة، بوصفه مفهوماً مركزياً في الحداثة السياسية، كان مخاضاً سالباً بالأحرى، وقد صاحبته آلام ولادة هائلة. فقد كان على أوروبا العربية، صانعة الحداثة، أن تدفع ثمناً باهظاً للغاية حتى تضطر اضطراراً إلى معاودة اكتشاف فضيلة المواطنة. فعلى مدى ثلاثين عاماً، بين 1618 و1648، فتكت الحروب الدينية فتكاً ذريعاً بالدول والمدن من الضحايا وتسببت في هجرات جماعية غيّرت الطبيعة السكانية لبعض الدول بصورة نهائية. وقد كان محور هذه الحروب الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، المتعاضد مع الصراع بين السلالات الوراثية كما بين الإمارات الاقطاعية والدول القومية المركزية الناشئة. وكان لا بد أن تسفك دماء كثيرة حتى يتكشف للوعي الأوروبي أن ما يختبئ تحت جلد المؤمن الكاثوليكي أو البروتستانتي هو المواطن الذي تتعين حقوقه لا بقناعته الدينية، بل بانتمائه إلى "الوطن" من حيث أنه إطار مشترك للوجود دونما اعتبار لأية خصوصيات أخرى من شأنها التفرقة، لا الجمع، بين المواطنين. وبهذا المعنى، فإن مقولة المواطنة تقوم، في مبدأها الأول، على التجريد. فالمواطن لا تحضر حقوقه إلا من حيث أنه محض مواطن، بصرف النظر عن موقعه الطبقي وهويته الجنسية وعقيدته الدينية. وهذا التجريد هو نقطة الانطلاق لجميع مواثيق حقوق المواطن - ومن ثم دساتير الدول الديموقراطية - التي وجدت نموذجها الأول والأتم في "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي أصدرته الجمعية الوطنية التأسيسية الفرنسية في 26 آب اغسطس 1789. فالبند الأول من هذا الاعلان نص على أن "البشر يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق" بصرف النظر عن الفوارق الاجتماعية التي ما هي بمشروعة أصلاً إلا بقدر ما تتأسس على الصالح العام. والبند العاشر أكد على أن المواطن لا يمكن أن يُضايَق بسبب معتقداته الدينية شرط ألا يتعارض التعبير عن هذه المعتقدات مع النظام العام. ولئن ألغت الثورة الفرنسية الألقاب وعممت على الجميع لقب"المواطن" أو "المواطنة" بلا استثناء، فإنما للتأكيد على التساوي المطلق بين المواطنين بالتجريد عن مرتبتهم الاجتماعية ومعتقدهم الديني. ومبدأ التجريد هذا ليس ملزماً للدولة وحدها تجاه المواطنين، بل هو ملزم أيضاً للمواطنين تجاه الدولة. فكما أن الدولة لا تستحضرهم إلا بصفتهم مواطنين، كذلك فإن الهوية الوحيدة التي يحضرون بها في الدولة هي هويتهم كمواطنين. وذلك هو المنحى العام للمناقشة التي دارت داخل الجمعية الوطنية المنبثقة من الثورة الفرنسية عندما أثيرت في 1791 مسألة الانعتاق السياسي لليهود: فقد منح اليهود الفرنسيون في حينه حق المواطنة التامة - بعد أن كانت منكورة عليهم - ولكن بشرط حضورهم هم أنفسهم في المجتمع السياسي كمواطنين لا كيهود. وبديهي ان مبدأ التجريد هذا لم ينتصر على أرض الواقع التاريخي بمثل السهولة التي انتصر بها على ورق إعلانات حقوق المواطن ودساتير الدول. فالولايات المتحدة، التي كانت من أسبق دول العالم إلى إقرار حق المواطن من خلال إعلان الاستقلال الأميركي لعام 1776، بقيت تحرم السود - بسبب لونهم - من العديد من حقوق المواطن الأبيض، هذا إلى زمن متأخر من القرن العشرين. كذلك فإن فرنسا، التي ألغت في 1789 نظام الرق، بقيت تطبقه في مستعمراتها إلى 1854. أما المرأة فلم تحظ بكامل حقوقها كمواطنة إلا في 1952. ومبدأ التجريد لا يسري على المواطنين وحدهم. ففي دولة المواطنة لا بد ان تكون السلطة السياسية قد أضحت بدورها محلاً للتجريد. فكما ان المواطن مواطن سواء أكان مسيحياً أم يهودياً، كاثوليكياً أم بروتستانتياً، أبيض أم "ملوناً"، غنياً أم فقيراً. كذلك فإن الحاكم في دولة المواطنة يأتي إلى السلطة ويمارس وظيفة الحكم متجرداً من موقعه الطبقي وقناعته الدينية الشخصية. وهذا التجريد لم يتحقق إلا في دولة المواطنة الحديثة، حيث لا يستمد الحاكم مشروعيته إلا من أصوات المواطنين الناخبين، لا من انتمائه السلالي أو من ثروته الشخصية أو أي شكل آخر من أشكال العصبية الدينية، أو الاثنية. وبديهي أنه في هذا المجال أيضاً يندر ان يكون التجريد تاماً. فليست العقلانية هي العامل الوحيد الذي يتدخل في العملية الانتخابية التي تتأدى في نهاية المطاف إلى تنصيب الحاكم. ولكن التداول الدوري لمواقع السلطة، مقروناً بشرط الغفلية، يبقى ضامناً لحد أدنى من التجريد العقلاني. وفي ما يتعلق بالعالم العربي، فإنه لا يصعب أن نلاحظ أن فكرة المواطنة لا تعيش فيه أحلى أيامها. فصحيح أن معظم دساتير الدول العربية تكرس بلا تحفظ مقولة المواطنة. وهذا كسب مهم قياساً إلى فتوة الدول العربية وموروثها الثقيل الوطأة من الحقبة العثمانية التي قام فقهها السياسي على نظام الملة لا على مبدأ المواطنة. ولكن ذلك التكريس الدستوري يبقى في أحوال كثيرة لفظياً أكثر منه فعلياً. ذلك ان مبدأ التجريد الذي تقتضيه فكرة المواطنة، بوصفها محور الحداثة السياسية، اصطدم ولا يزال بالبنية العشائرية والطائفية لأجنحة بكاملها من المجتمعات العربية. ولهذا فإنه لا يمكن الحديث عن مواطنة عربية إلا بالمعنى الجزئي، لا التام. فليست جميع المناصب السياسية في الدول العربية مفتوحة أمام جميع المواطنين بلا استثناء. كذلك فإنه نادراً ما يحضر المواطنون في المجتمعات السياسية العربية متجردين من انتماءاتهم الطائفية والعشائرية تمام التجرد. وخلافاً لما هو شائع في الاعتقاد لدى بعض المنظّرين "الشعبويين"، فإن الدولة العربية الحديثة لا تعكس في محصلة الحساب سوى واقع المجتمعات العربية. وصحيح ان هناك أنظمة سياسية عربية قابلة للوصف بأنها قامعة لتقدم مجتمعاتها، ولكن هناك أيضاً أنظمة أخرى تبدو متقدمة قياساً إلى تخلف مجتمعاتها. وما يصدق على المواطنين يصدق على الحاكمين: فهؤلاء نادراً ما يحكمون بقوة التجريد العددي لصناديق الاقتراع. وسواء أكان وصولهم إلى الحكم بطرق شرعية أم انقلابية، فإنهم غالباً ما يثبّتون مواقعهم فيه عن طريق تواطؤات قبلية أو جهوية أو طائفية. بل يلاحظ هنا - وهذا من مؤشرات التطور الانتكاسي في الوضعية السياسية العربية - ان تلك العصبيات التحتية، التي يفترض في الأحوال جميعاً ان تبقى غير مجهور بها، ما عادت تخجل في بعض الحالات القصوى من أن تتظاهر وتخرج إلى سطح العلن. وفي مثل هذه الأحوال فإن فكرة المواطنة تغدو هي الضحية، لا العتلة الرافعة للحداثة السياسية.