مفهوم المواطن المأخوذ من المدينة/الدولة اليونانية, والذي يأخذ وضعه القانوني والحقوقي اليوم من نسبته إلى ما تعنيه الكلمة الفرنسية (citoyen) والكلمة الإنجليزية (citizen), هو نفسه الذي صاغت الثورة الفرنسية, اعتماداً على مدلوله, مبادئ (حقوق الإنسان والمواطن) كنت قد تساءلتُ في مقال الأسبوع الماضي عن تأثير الغياب التراثي المعجمي للمعاني الحديثة لمصطلح (الوطن) وما يمت إليه بنسب, خاصة مصطلحا: المُواطِن والمواطنة, على وعي الفرد العربي والإسلامي تجاه هذه المصطلحات من جهة, وعلى الأوطان العربية والإسلامية نفسها من جهة أخرى. ويتعمق هذا السؤال, وتعظم أهمية الإجابة عنه, ومن ثم ضرورة الدفع باتجاه تدشين وعي جديد تجاه تلك المصطلحات, إذا تذكرنا أن الغياب المعجمي التراثي لمعاني تلك المصطلحات, وهو أمر متوقع, تعضده سلبية أخرى أشرنا إليها في المقال الفائت, وهي أن اللغة العربية بقيت عصية على التطور, نظراً لأنه لم يتم (التأريخ) لها، لا قديماً ولا حديثا. وغياب (التأريخ) للغة من اللغات, كما يقول الجابري, يؤدي إلى غياب الوعي بالتطور لدى أصحابها, وهذا ما حصل للغة العربية التي بقيت وفية للغة المعجمية التي فاه بها الأعرابي: صانع التاريخ العربي الإسلامي. لكني أرى أن من المناسب استعراضَ المعاني الحديثة لمصطلحات: الوطن والمواطن والمواطنة, قبل الحديث عن تأثير غياب معانيها (معجميا) على الوعي العربي الإسلامي المعاصر. لنبدأ بمصطلح (الوطن), وهو الأصل الذي اشتقت منه المصطلحات الأخرى. ما هو الوطن بالمفهوم الحديث؟ أهو مجرد تلك القطعة من الأرض المحددة بحدود جغرافية معينة, والتي يسكن فيها أناس يُعرفون بأنهم (أهل البلد), وقد يقيم معهم غيرهم ممن يفدون من خارجها, ممن يشار إليهم ب (الأجانب)؟ الحقيقة أن الوطن بالتعريف الحديث, وإن كان يشمل ذلك, إلا أنه أعمق من ذلك بكثير. ذلك أن الوطن بمفهومه الحديث يمت بنسب إلى لفظة (city), أي المدينة اليونانية. وهذا اللفظ مشتق بدوره من اللفظ اللاتيني (civitas) ومعناه باليونانية: السياسة, أو المدينة بمعنى الدولة (polis). ولعل الشيء الذي قد يكون غائبا عن أذهان وتصورات ومعارف الكثيرين, بمن فيهم كثير من النخب, أن المدينة/الدولة عند اليونان لا تكتسب معناها السياسي (polis), أي كونها (وطنا) يضم (مواطنين), بصفتها مجرد بلد أو مدينة أو مساحة يقيم فيها جمع من البشر, بل تكتسبه بصفتها ذات (شخصية اعتبارية) اكتسبتْها من المواطن نفسه, كيف ذلك؟ الجواب في الأسطر التالية. إن مصطلح (المواطن) الذي تزامن شاع استخدامه مع تدشين العصور الحديثة, يرجع في أصله ونشأته وتأصيله فلسفيا إلى اليونان أيضا, فلقد فرق اليونانيون (الأثينيون تحديدا) بين المواطن الذي له حق المشاركة في الإدارة السياسية للمدينة/الدولة (=أثينا), وبين كل من الساكن (غير المواطن), والأجنبي المقيم فيها, والذين ليس لهم حق المشاركة السياسية. والسؤال هنا: ما هي الصفات المميزِة ل "المواطِن" اليوناني, والتي أهَّلته لأن يكون شريكا في إدارة شؤون المدينة/الدولة؟ إن "المواطن" اليوناني المؤهل للمشاركة السياسية في إدارة شؤون المدينة/الدولة لا بد وأن يتصف بصفتين ضروريتين: أولاهما: أنه فرد (ذكر) حر, ينتسب إلى المدينة اليونانية (أثينا تحديدا). ثانيتهما: أن هذا الفرد (يحصر) ولاءه بالمدينة/الدولة فقط, فلا يدين بالولاء,لا لقبيلة, ولا لطائفة, ولا لمذهب, ولا لعرق. هذا الفرد المتصف بهاتين الصفتين هو وحده الذي يستحق أن يُطلق عليه لقب: (مواطن citizen), ومن ثم, فهو الذي سيكون له حق "المواطنة السياسية"، أي حق المساهمة في تدبير شؤون المدينة/الدولة. وأي ولاء يدين به ذلك الفرد لغير المدينة/الدولة "polis" سيترتب عليه تلقائيا فقدانه لحق "المواطنة السياسية" فيها. هنا سنجد أن المصطلحين: (الوطن والمواطن), يؤثران ويتأثران ببعضهما, فالوطن يكتسب شخصيته الاعتبارية من ولاء المواطن له, والمواطن يكتسب صفته كمواطن من ولائه المطلق للوطن. هذا المفهوم اليوناني ل (الوطن والمواطن والمواطنة), استعادتْه الحضارة الغربية المعاصرة, كثمرة من ثمار عصر التنوير الأوروبي, غير أنها استبدلت "المدينة/الدولة" ب "الدولة/الأمة", كما أنها لم تحصر حق المواطنة (=المشاركة السياسية) في الرجال الأحرار (=نقيض العبيد), إذ أعطت النساء حقهن في المواطنة, بعد أن غدا الرق شيئا من الماضي. وبتلك الاستعادة, أحلت الحضارة الغربية الولاء للأمة/ الدولة, محل الولاء للإمبراطور, أو للبابا, أو للمذهب الكاثوليكي, أو للمذهب البروتستانتي! فأصبح (المواطن) الأوروبي هو ذلك الشخص الذي يدين بالولاء للدولة/ الأمة لوحدها. أما الهويات الضيقة الأخرى, العرق والمذهب الديني, فقد حُصِرتْ في دائرة الحقوق الشخصية البحتة التي لا علاقة لها باكتسابه صفة (المواطن), ولا بالحصول على(حق المواطنة). إن هذا المفهوم, أعني مفهوم المواطن المأخوذ من المدينة/الدولة اليونانية, والذي يأخذ وضعه القانوني والحقوقي اليوم من نسبته إلى ما تعنيه الكلمة الفرنسية (citoyen) والكلمة الإنجليزية (citizen), هو نفسه الذي صاغت الثورة الفرنسية, اعتماداً على مدلوله, مبادئ (حقوق الإنسان والمواطن), التي أصبحت العلامة المميزة لانبثاق العصور الحديثة على أنقاض العصور القديمة. إن هذا التحديد لمصطلحي المواطن والمواطنة بالمفهوم الحديث ليقودنا إلى نتيجة مؤداها أن جميع العرب والمسلمين اليوم "مواطنون" بالمعنى العربي المعجمي, بصفتهم ينتسبون إلى "الوطن: المنزل تقيم به, وهو موطن الإنسان ومحله, والجمْع أوطان. وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها", ولكنهم ليسوا مواطنين بالمعنى الحديث, إذ إنهم, أو جلهم على الأقل, يدينون بولائهم لقبائل ومذاهب وأعراق مختلفة, تعادي, بل تكفر بعضها بعضا. بل ربما أدى بها الولاء الضيق إلى أن توالي دولا أخرى, تتخذ من المذهب الذي يدينون به, أو العرق الذي ينتمون إليه, على حساب وطنهم نفسه ومواطنيهم. لكن هذا الاستنتاج لا يعني أن هذه الوضعية للعرب والمسلمين حتمية جبرية لا إمكان لحلحلتها. ذلك أن المعنى المعجمي ل "المُواطن", والمعنى الديني ل "المَواطِن=جمع موطن", ليسا إلا مفهومين سياسيين محسوبين على التطور التاريخي للفكر السياسي الذي جاء الإسلام بعمومياته (العدل, والشورى), وترك تفاصيله الجزئية للتطور الاجتماعي اللاحق, كما هي حال كثير من نصوص المعاملات, انطلاقاً من مبدأ: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم", بما يعنيه ذلك من إمكانية إعادة تشكيل الوعي الجمعي نحو وطن ومواطنة حقيقيين, تُدَشَّنان على أنقاض "الوطن" بالمعنى القديم الذي لا يورث إلا تمزيق الأوطان, وجعلها حِمى مستباحا للطائفية والعرقية والمذهبية التي لا تحل بدار قوم إلا أورثتهم الذل والهوان والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وللحديث بقية.