قد يكون زكريا تامر وحده من ظلّ وفياً للقصة القصيرة، بعدما زاوج معها الآخرون، أو غادروها إلى الرواية، وآخر من فعل ذلك نيروز مالك الذي أصدر روايته الأولى زهور كافكا - 1999 بعد تسع مجموعات قصصية خلال أكثر من ربع قرن. وقد يكون للمرء أن يتوقع إذاً من نيروز مالك أن يبتدئ مما بلغته الرواية العربية، لكنه آثر سبيلاً مكروراً، حيث يقوم البناء الروائي على قسط محدود من سرد الراوي، وقسط أكبر من مذكرات الشخصية المحورية في الرواية. وربما كانت رواية حنا مينه "المغامرة الأخيرة" آخر ما سلك هذا السبيل من الرواية العربية، منذ سنوات معدودات. هكذا ابتدأت "زهور كافكا" بسرد الطبيب النفسي لالتحاقه بمستشفى للأمراض العقلية، حاملاً وصية سلفه بالمريض رقم 16. وفي هذا القسط من سرد الراوي بضمير المتكلم، يرينا الحالة المزرية للمستشفى: "هذا ليس مستشفى، إنما سجن لمرضى في عقولهم". وحالة جمال الحلبي الذي ستقوم الرواية به ويقوم بها، لأنه المريض رقم 16، المتحدر من أسرة ثرية ومتنفّذة بَنَتْ له في المستشفى قسماً خاصاً، وخصّته بممرضة وخادم. وسينجز هذا المفتتح الروائي حوار جمال الحلبي مع الطبيب، لنطلّ على جبروت وأخطبوطية أسرة الأول، فهي التي تنصّب الوزراء ورؤساء البلديات وقادة الدرك ونواب البرلمان .. وهي التي اختطفت المريض من باريس، وأعادته إلى حظيرتها لأمر ستبيّنه المذكرات التالية، بعد ان يسلم المريض إلى الطبيب أوراقه الخاصة، بسهولة غير مقنعة، كأنما عدمت الرواية حيلة أخرى للإنتقال إلى بنيتها المركزية وقسطها السردي الأكبر. لقد حملت كل فقرة من المذكرات تاريخ اليوم والشهر، وأغفلت السنة، وغطت سنة جمال الحلبي التي أمضاها في باريس بغرض الدراسة، بعدما أبعده أبوه عن مدينة حلب تفريقاً له عن "ن" التي أحبّ، لأنها لا تليق بالمقام الرفيع. بعيد وصول الحلبي إلى باريس يقرئنا أنه يرتب ذاته الخربة، وأنه عازف عن لقاء أي من أبناء الوطن في الغربة، وأنه يعد يوم وصوله يوم ميلاده. لكن الوطن سرعان ما ينقض قراراته ويداهمه في حلم غرائبي يريه أباه يبكيه، وأخوته يتوعدونه وأباه. كان هذا الشاب أثيراً لأبيه، أما هو فكان غير معجب بأبيه جراء ما يسمع عنه: "والدك هو المالك الحقيقي للبلد". وسترى في الأوراق - المذكرات - أن هذا الشاب كتب قصصاً في حلب، وكان مقدماً على كتابة رواية، مدفوعاً بضغط محيطه، ابتداء من أسرته، وهو من قرأ رواية كافكا "التحوّل" سبع عشرة مرة، ووجد نفسه بعد افتضاح حبه ل"ن" محاصراً مثل أبطال كافكا. في يومية 10/1 يتذكر الحلبي حديث صديق له في المرحلة الإعدادية عن كافكا، مما دفعه إلى البحث عن روايات هذا الكاتب، فلم يعثر إلا على "المسخ". وعلى رغم أنه ليس مستحيلاً أن يقرأ طالب في المرحلة الإعدادية في حلب التسعينات - كما هو زمن الرواية - رواية لكافكا ويؤخذ بها، إلا أن الإصطناع يبدو هنا فجاً. وعلى أية حال، سندع ذلك لنتابع شراء الحلبي أعمال كافكا الكاملة فور وصوله إلى باريس، ثم قراءته لسائر ما ترجم من روايات كافكا إلى العربية، وسنصغي بخاصة إلى مخاطبة الحلبي لنفسه بصدد مشروع رواية: "أكتب على طريقة كافكا، صف الحصار الذي ضربوه حولك وأحاطوك به". وقد يكون لنا أن نتساءل من بعد عن الإشارات المحتملة في ذلك إلى رواية "زهور كافكا" نفسها، وليس إلى مشروع رواية جمال الحلبي. فما يلي من المذكرات يقوي ذلك، وصولاً إلى نعت جمال الحلبي لنفسه بكافكا بعد إعادته إلى الوطن، مما أورثه بزعم أسرته والمستشفى مرض الفصام. في اليومية الأطول من بين اليوميات 25/1 يمثل الوالد للولد في باريس، ويحكي له حكاية حبه لابنه أشهر تجار الصوف. ورفض التاجر تزويج ابنته من ابن إسكافي فقير، فاستعان العاشق الخائب برجل أمن، وبدأ طريقه إلى الثروة مردداً: "لا شيء اسمه الحب"، وإنما هي حاجة الذكر للمتعة والإنجاب، لذلك - أيضاً - اعترض سبيل ابنه إلى حبيبته "ن". يعيد الوالد إلى ولده القصص التي كتبها في حلب، محاولاً فيها تقليد كافكا، ومقيماً المحاكم لأسرته. ومن أمام بوابة الليل إلى البيت العتيق في الحي الباريسي العتيق يتبع الولد والده، ليكتشف أن عيون "أبيه" كانت له بالمرصاد في باريس. وإزاء الوالد الكافكاوي يمثل كافكا نفسه في التمثال أمام بوابة الليل، وقد تعلم العربية ليحدث النقاد العرب الذين اتهموه بالصهيونية، ولينفي التهمة. ويستطرد الحوار بين كافكا التمثال وبين جمال الحلبي إلى نشر ماكس برود لمخطوطات كافكا، وإلى ما يكتبانه، ويتتوج - بإسهاب - في التوحيد بينهما، وفي استمرار كافكا اليهودي في كافكا العربي. ولعل تجليات الكافكاوية إذاً في هذه الرواية هي هذا "التوهم" القائم على ما يسكن جمال الحلبي من كافكا كثقافة، ومن كافكا كحالة حصار واضطهاد، تبدأ في الأسرة، وتملأ المستشفى والوطن والغربة أيضاً. أما أمر المستشفى والوطن فهو يرجّع صدى ما سبقت إليه رواية "اختبار الحواس" لعلي عبدالله سعيد، حيث تتفجّر الكافكاوية بجنون القمع في مستشفى الدكتور - الديكتاتور موريس، وحيث المستشفى هو الوطن. وأما أمر الغربة في "زهور كافكا" فيقوم في مصادفة جمال الحلبي لجمع متنافر من المعارضين المنفيين من بلده إلى باريس، وأولهم أبو أحمد. ومنهم محمود الذي أمضى ثلاث سنوات في السجن ثم أخرجوه مريضاً إلى مستشفى، ففرّ إلى باريس. ومنهم أبو زهير الذي رفض الخدمة في الجيش بعدما وقف ضد الشعب، ومنهم شاب من ريف حلب طلبه الأمن كرهينة حتى يسلّم شقيقه نفسه. وهؤلاء الذين يحاولون إعلام لجنة حقوق الإنسان العالمية بأوضاع رفاقهم من السجناء، تتكرر لقاءاتهم بجمال الحلبي الذي يتعاطف معهم ويساعدهم، مع أنه لا يحمل كرهاً للسلطة، ولا علاقة له بها. لقد تخلّف أولاً عن الحفل الهائل الذي أقامه الحلبي في كافتيريا العاصفة الثلجية. وقبيل ذلك فقط في يومية 28/12 يفاجأ أبو أحمد بنسب جمال الحلبي، فهل يعقل أن تسبق اللقاءات والمودة والمساعدة والمكاشفة، وتتأخر هذه المفاجأة؟ وكم هو إذاً ساذج أبو أحمد ورفاقه إذ يسلّمون ذقونهم لمن يجهلون؟ وكيف سيستقيم أن يسجل جمال الحلبي في يومية 31/12 متسائلاً عن تخلّف أبي أحمد وجماعته جراء حديث المفاجأة هذا الصباح، مع أن الحديث تقدم في 18/12؟ هذا الإرتباك في الذاكرة وتنظيم الرواية للمذكرات سيتكرر عندما ينفي جمال الحلبي في يومية 1/1 أن يكون رأى أياً من اعضاء تلك الجماعة اليسارية المنفية سوى ساعة أو أكثر، مع أنه يتحدث في يومية 2/12 عن اجتماع طويل له بها. وسيتكرر هذا الأمر في يومية 15/3 عندما يكتب أنه قد مضى شهران بالتمام على آخر كلمة كتبها في يومياته، مع أن تاريخ اليومية الأخيرة هو 25/1. على أي حال، سيلي قرب نهاية سنة جمال الحلبي الباريسية أن يغتال منفي صديق لأبي أحمد وجماعته وزير الداخلية. وبطلب من أبي أحمد سيُلجئ جمال الحلبي القاتل، ثم ستسعى الأسرة في استعادة ابنها إنقاذاً له من الورطة. ولأنه يمعن في اختياره المناقض لاختيارات الأسرة، يقيمون عليه الحصار، ويكتئب، وينفرد به شقيقه الأكبر عبدالجبار بعد وفاة الوالد، فَيُفرَد كما طلب بمأوى خاص في مستشفى الأمراض العقلية، وتنتهي اليوميات، ليواصل الطبيب الراوي في القسم الأخير من الرواية، سرد اكتشاف عبدالجبار، عبر الخادم الذي يتجسس له على شقيقه، أن الممرضة هي محبوبة جمال الحلبي "ن"، فينقلها بعد أن تروي للطبيب قصة حبها للحلبي الذي ينتحر، وتقيم الأسرة له عزاء فاخراً لتطوي سبب الإنتحار. وإضافة إلى الكافكاوية في أي من تجلياتها، تتوسل "زهور كافكا" أيضاً الشهرزادية. ويأتي ذلك عبر علاقة جمال الحلبي مع الفرنسية ميشلين، والتي ستفتح كوة على ما اعتورت عليه الرواية العربية من وعي الذات والآخر في موطن هذا الآخر، وحيث يكون الجنس حاملاً، كما شخّصه جورج طرابيشي في كتابه "شرق وغرب، رجولة وأنوثة". فميشلين تنظر الى جمال الحلبي كقادم من كوكب مجهول، وتهتف به "أمركم غريب يا أبناء الشرق". وإذ تنصت ميشلين إلى الحلبي يحكي حكاية والده: "بلغني أيتها الحبيبة أن والدي..." تراه يعيد إليها صورة ألف ليلة وليلة. وتخلص ميشلين إلى أنهما "على ما يبدو عالمان متناقضان". يختم كافكا قسم المذكرات في هذه الرواية بمخاطبته جمال الحلبي: "على الإنسان يا صاحبي أن يخلع عن نفسه ثوب الحيوان الذي كانه، ويرتدي جلد الإنسان الذي صار إليه". ويشعر جمال الحلبي وهو يتلقف حكمة كافكا أنه أمام نبي يستشف كارثة تحيق بالبشر. وفيما يحكي الحلبي لميشلين عن أبيه نقرأ: "أنا لا أتحدث عن ملك أو ديكتاتور، أتحدث عن رجل هو الملك والديكتاتور والشعب، هو كل شيء ... إنه واحد من عامة الشعب طبعاً، كان سابقاً. أما اليوم فهو من طبقة لا اسم لها، ولكنها تملك البلاد كلها". من حكمة كافكا إلى حكاية الحلبي، تطلق "زهور كافكا" صرخة هاتكة ونذيراً موجعاً. لكن تجسيد الرواية للحكمة والحكاية والصرخة والنذير والوجع، جاء في إهاب متواضع، وبخاصة أن التعبير اللغوي يلتوي بالأخطاء الإملائية والنحوية وبالصياغة. ولعل أبسط سؤال تختم به القراءة هو السؤال عن اسم جمال الحلبي، ما دام وليد إخلاصي قد سمى قبل سنين طويلة بطل روايته "بيت الخلد" بأكثم الحلبي، وفضاء الروايتين هو مدينة الكاتبين حلب. * روائي وناقد من سورية.