الهجرة الثقافية العراقية موضوع يقبل النقاش باستمرار لأسباب كثيرة، من بينها خصوصية الوضع العراقي الراهن، وامتداد الزمن بالمثقفين العراقيين الذين واجهوا المنفى تحت ظروف متبدلة، تجعل الكثير من المسلمات عن فكرة الثقافة والمنفى يجدر النظر فيها على نحو جديد. وعلى تشابه التجارب العالمية لثقافة المنفى في اتجاهاتها العامة، غير أن لكل حالة امتداداتها التي تتواشج مع موروثها الروحي في موطنها الأول. ولكل مهاجر أيضاً تصوره الخاص عن مكانه الجديد وهو تصور متغير حسب طبيعة العلاقة المتشاكلة مع ثقافة المكان الجديد. من بين الظاهرات التي تشهدها التجربة العراقية، حالة المثقف المعذب بذنب وجوده في مكان غربي - أجنبي، المكان الذي كان في موروثه - وهو في العادة موروث يساري - مكاناً معادياً، استعمارياً، أو هو في المحصلة كما تسميه سلطته التي هرب من بطشها - موائد الأجنبي أو فتات موائده - ولا غرو ان نقرأ لسعدي يوسف بعد ثلاثة أشهر من تقديمه اللجوء السياسي، قصيدة حماسية هي أقرب الى البيان السياسي الذي يضج بالاستنكار والاستنكاف من المثقفين العراقيين المقيمين في لندن وغيرها من العواصم الغربية، مخاطباً اياهم بجماع قلبه المفجوع: "يا اخوتي: أنتم هنا الغرباء/ والبؤساء، أيتام بمأدبة مسخمة، وكيس قمامة في أسفل البرميل". وهو تعبير راود الشاعر دون شك، قبل أن يقصد لندن، لأنه يصله بتراث الالتزام الطهراني الذي يفترضه بنفسه، وعبر تصورين: الأول: تصور القدرة على السبر عند المناضل المدرك للحقيقة الأخلاقية التي يغفل عنها الضالعون في لجوئهم الى مائدة الأجنبي المسخمة، والثاني: احساس بالعذاب من ازدواجية الذات في تعبيرها عن نقائها من التلوث واضطرارها الى قيادة النضال من مكان معاد لعقيدته، فسعدي يوسف عندما كتب هذه القصيدة كان ايضاً يكتب بيان الملتقى الثقافي العراقي الذي أعد له في الوقت نفسه. ولكي يزيح عن صدره عبء القبول بتضحية القدوم الى هذا المكان، عليه ان يجد وسيلة ناجحة لتفعيل دعوته، أي الخطاب العنيف الذي يهز وجدان جماهيره الضالة من زمر المثقفين، ويحيلهم الى مسوخ أمام جبروت الأخلاق التي كانوا غافلين عنها لكي يسيروا معه نحو درب الهداية. والحال ان الباحث العراقي هادي العلوي قبل أن يتوفاه الله، طالب بالعودة الى المشاعية الشيوعية، ولأن رفاقه أعرضوا كمنفيين عن الضيافة العربية الكريمة! الى الضيافة الأجنبية التي يتلوث فيها المرء بالتنازل عن مبادئه، اضطر في النهاية الى شتم اولئك الرفاق باعتبارهم عملاء أو مشاريع عملاء، ولكي يتطابق مع مبادئه عمد الى ارتداء الملابس العربية كي لا يتلوث بعارض غربي وهو يتنفس الهواء العربي النقي. ويمكننا أن نتفهم ببساطة طبيعة هذا التطرف، فالغرب ليس جنة الأرض، وفيه من العيوب ما يحرض شعوب العالم الثالث على النفور من سياساته، وعلى وجه الخصوص في منطقتنا. لكن قوانينه ودساتيره توفر الحماية والأمان لمن لا يجدها في بلاده، وان كنا منصفين، توفر ضيافة نخجل أن نقول اننا حرمنا منها في أوطاننا، في حين يصعب على بلد عربي ان يقدمها الى مهاجر من دون ثمن. اذن نحن أمام حالة من حالات الوعي الشقي، وهو مصطلح هيغلي في الأصل، لا ينطبق تماماً على ما يمكن أن يكون موضع نقاشنا، غير أنه يتشابه مع طبيعة تبدل وعي الذات وهي تنفصل عن جوهرها لتحل في حالة جديدة، وهذه الصيرورة تشترط احساساً عالياً بالشقاء. ولأن المثقف الشيوعي المؤمن بطهرانيته وتمسكه بالفكرة على أنها أخلاق تستوجب النجاة من كل حيز للتلوث، فإن أول ما يخطر له أن يقطع على سيرورة وعيه مسافة الارتقاء به نحو صيرورة أخرى، أي انه يبقى أسير تلك المنطقة العازلة التي نسميها منطقة العذاب التي لا يقوى على تجاوزها، أو يطيب له أن يذكر عنه انه أسيرها، أسير طهرانيته المعذبة. وسنجد فصام الوعي هذه ينطبق أيضاً على الأصوليين من ممثلي الحركات الاسلامية الراديكالية الذين يبشرون من مكان لجؤهم في الغرب بمحق بلد الفساد والجريمة الذي يطلبون منه الحماية من أنظمتهم. وسنجده أيضاً عند القوميين الذين يرفضون مغادرة الغرب ويعربون في كل يوم عن كراهيتهم له. هذا النوع من الوجدان الممزق الذي يعرف أنه يخادع نفسه، يعمد في العادة الى جعل ذاته في حال استنفار عالية حول فكرة المكان الفاسد واناسه الفاسدين، هذا المكان الذي يصبح غير مكان القرى الأولى التي يسكنها المناضلون، وهكذا يجد سعدي يوسف نفسه يردد في قصيدته ذاتها الخامسة!: "هل أقول لهم: كذبتم؟/ لم تعودوا، مثل ما كنتم عماليق/ القرى". وخيار الشاعر اللاواعي للقرية مكاناً تحل فيه جنته المفقودة التي كان فيها ورفاقه عماليق يهابهم الناس! يتطابق بمحض الصدفة مع الفكرة الريفية حول مفهوم النقاء والثياب الملوثة بمفاسد الآخر الأجنبي. والأجنبي في القرية العراقية هو القادم من قرية أخرى فقط، فكيف اذا كان من دين وحضارة الاستعمار. ولن تفيدنا هنا العقيدة الشيوعية التي توحد البشر تحت رايتها، ولا التجارب التي خاض غمارها ماركس ولينين في المنفى الملوث اياه، منفى لندن، عندما كانت الرأسمالية تعني الاستغلال في تجليه اليومي، وليس المجازي، في الشارع البريطاني. سيطرة المفهوم التبسيطي عن مكان المنفى، يتطلب جمع الأفكار المتباعدة في سلة واحدة لكي يوحدها وجدان اسبارطي يتلبس دون أن يدري فكرة الجلاد عن معارضيه. وشخصية المبشر أو المناضل تتطلب قدراً من القوة والقدرة على العنف والمباغتة عند المواقف الحاسمة في النضال. ولكي يعزّي نفسه بكونه قام بفعل يعادل العقاب الذي يستشعره من عار هزيمة وعيه أمام اغراء المنفى الجديد، المنفى الغربي الذي اختاره بدل الوطن أو المكان العربي، فلا بد أن يعاقب من ينتمي اليهم لأنهم ما زالوا يناطحون صخرة عدوه الثانوي "وهل صدام صخرتنا التي سنظل ننطحها؟" كما يقول سعدي يوسف، فالعدو الرئيسي هنا كامن على مقربة منا، انه الغرب الذي طلب منه سعدي يوسف ضيافة تثير التقزز والاشمئزاز لدى المتصوف اللابد تحت ثيابه. هذا الغرب الذي أفسد رفاقه الذين كانوا عماليق القرى فتحولوا الى حشرات ضائعة على موائد الأجنبي المسخمة!. انها لمفارقة تبعث على الضحك مثلما تثير الكمد، لكن الفائدة منها تكمن في ما يعلمنا النتاج الأدبي العراقي من طرق الاعراب عن ضيقه بنفسه بعد أن طال به فراق الوطن.