سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من ترك الأمر بقتل سلمان رشدي إلى المناورة على الحدود الأفغانية ... وبينهما محاكمات الصحافة والموظفين في الداخل . استحالة الخروج من التباس "الدولة الأهلية" من غير مقاضاة تاريخية للخمينية وخصوصيتها
حين يقول السيد كمال خرازي، وزير خارجية "الدولة" الإيرانية، إن "دولته" في حل من الفتوى الخمينية بهدر دم الروائي البريطاني، سلمان رشدي، وقتله، تسارع الدولة البريطانية، المملكة المتحدة، إلى إبطال الحظر الديبلوماسي على إيران، الخمينية، وتنظر في تعيين سفير بطهران. ولا يحملها على التمهل والإبطاء شرح السيد خرازي، ومساعده السيد محمدي، سفير طهران المرجح بلندن، معنى "الفتوى" الديبلوماسية. فخرازي ومحمدي وشامخاني، وغيرهم، شرحوا، إذا جازت تسمية مثل هذا الكلام شرحاً، القرار الإيراني الجديد بالقول إن إيران التي تأتمر بأمر رئيس الجمهورية، السيد محمد خاتمي، لن تعمل على تعقب الروائي، ولن تأمر بقتله أو إيذائه أحداً من مرؤوسيها أو مواليها أو رعيتها. لكن ترك إيران، الخاتمية، إيجابَ التعقب أو الأمر بالقتل لا يلغي الفتوى الخمينية ولا يبطلها. فهذه الفتوى قائمة قيام "السب" المنسوب إلى الروائي والمحمول عليه" فهي فتوى "كينونية"، على ما كان المرشد الأول والفقيه قال، وعلى ما يعني بعض مريديه من المجتهدين والمجددين. والحق أن رأس "الدولة" الإيرانية الأول، روح الله خميني، أوكل إنفاذ الرأي بالقتل، وفي هذا الموقف الرأي أمر، إلى هيئة أهلية، هي "هيئة 15 خورداد"، تتولى رعاية وقف أوقفت موارده وما يدرُّ على إنفاذ الفتوى ومكافأة من "ينتقم" للرسول من المتطاول عليه، على زعم صاحب الفتوى. ولعل مصدر الإلتباس هذا هو التباس أول يلازم "الدولة" الإيرانية الخمينية نفسها، ويلازم من ينتسب إليها وما يصدر عنها. فالرأي بالقتل ملزم إيماناً وسياسةً، على حسب مصطلح خميني وحزب اللهي شائع. وعليه يلزم "الدولة" السياسة العمل بهذا الإلزام، على نحو ما يلزم الإعتقادَ وأصحابه، وهؤلاء يسمونه "إيمان" من غير تحوط ولا حذر. وذلك لأن الأصل ينص على: "إيماننا هو عين سياستنا، وسياستنا هي عين إيماننا". ولما كان صاحب السلطان الإيراني هو المتربع في سدة الإرشاد وولاية الفقاهة كان على "المواطنين" والمقلدين جميعاً أن يسعوا في قتل "المرتد"، بحسب الرأي، إذا وجدوا إليه سبيلاً. ف"الدولة"، وهذا شأنها وشأن رأسها، هي آلة إنفاذ الرأي والأمر المستوفيين شروط "العدالة". وإذا أوكل مرشد الثورة ووليها إلى وقف بعينه، وإلى ناظر هذا الوقف أو وليه، اليوم، السيد حسن صانعي "آية الله"، تسديد أجر القاتل العتيد على قتله، ولم يوكل الأمر إلى وزارة الخارجية أو إلى وزارة الحرس الثوري أو الداخلية، فليس ذلك لأن وكالة أحد أجهزة "الدولة" مستحيلة أو ممتنعة على المرشد. بل إن السبب في تقديم الحوزة، والوقف، على "الدولة" أو الإدارة، هو إجزاء فعل القتل من أكثر المال حلالاً وأضعفه ريبة، من مال الخمس. وهو تقديم جزئي أو نسبي. ففي المذهب السياسي والديني الذي يصدر عنه الخمينيون ينبغي ألا يكون الفرق بين الهيئات الأهلية، مثل "مؤسسة الشهيد" أو أوقاف بعض الأضرحة أو موارد بعض كبار المدرسين المجتهدين، وبين مرافق الحكم والإدارة والسلطة، كبيراً. فالنوعان من الهيئات يسري عليهما شرع واحد، وقانون واحد" وصوغ الأحكام في كلا النوعين يجري على أصول مشتركة" وغاياتهما ينبغي ألا تختلف. ولعل تولية "علماء" الدين المعممين المناصب التي يتولونها بإيران الخمينية، السياسية والتمثيلية والإدارية والعسكرية فالمرشد الفقيه هو القائد الأعلى والآمر الناهي في شؤون الحرب، وينوب عنه في القيادة من يندبهم إلى النيابة، قرينة على الوحدة هذه أو على إرادتها. ومثل هذه "الدولة" أهلية، أي تحمل الهيئات الخاصةَ المنعقدةَ من جماعاتها، وعلى جماعاتها، تحملها على العموم، وتجيز لهذه الهيئات ما تجيزه للعموم وتخوله له. فتصوغ الحوزات، وهيئات "العلماء"، إرادة "الشعب" الإيراني، على صفته المذهبية وأياً كانت آراؤه الفعلية والعينية، قوانين وأحكاماً نافذة. وإذا تصورت هيئات هذه "الدولة" في صورة سلطات منفصلة، على مثال بورجوازي وأوروبي سائر، فما هذا الإنفصال إلا من قبيل المراعاة الصورية لقوة المثال وذيوعه. وأما إذا عدا الأمر الصورة الظاهرة لم يحل بين الأميرال علي شمخاني وبين تعليل ترك الفتوى في رشدي، من غير إبطالها، حائل ولا حاجز. ولم يقيد قاضي المحكمة التي قاضت السيد كرباستشي رئيس بلدية طهران السابق ورأيه السياسي في الرجل قيد" وكان المدعي على السيدة فائزة رفسنجاني بتهمة التحريض على "الجمهورية الإسلامية" وتهديد "أمنها الثقافي" مدير الاستخبارات في وزارة الداخلية... وهذا بعيد من كونه فرعاً، أو تفريعاً، على أصل فصل السلطات الدستوري بُعدَ الدولة الأهلية من مثال الدولة الدستورية. وهو ملتبس التباس الدولة الأهلية، والتباس الهيئات الأهلية التي تنازع الدولة على سلطاتها ومبادئ الحق والقانون التي تسوس الدولة بها بالمبادئ مواطنيها المتساوين. وليس سلمان رشدي وحده ضحية مثل هذا الالتباس. فعبدالله نوري، وزير الداخلية السابق، وعطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة اليوم، والسيدة رفسنجاني رئيسة تحرير الأسبوعية النسائية "زان"، والسيد محمود شمس الواعظين رئيس تحرير صحيفة "طوس" وقبلها "جامعه" ، وكرباستشي، ومدير تحرير "جامعه سالم"، وغيرهم من قبل ومن بعد من سعيدي، الذي قضى في السجن، إلى سركوحي الخائف من مصير شبيه - كلهم ضحايا التباس ولاية الفقيه و"دولتها". فهم ليسوا مواطنين في دولة حق وقانون عامَّين ومستقلين عن مصالح الحاكمين وسلكهم ورأيهم وهواهم" وهم ليسوا "مؤمنين"، ولا أهلاً، يقضي في حركاتهم وسكناتهم، وفي جوارحهم ونفوسهم، قضاةٌ "علماء" يشاركونهم الإعتقاد والتأويل، أو يقضي في هذه وتلك رؤساءُ عشائر وشيوخ هم بمنزلة الآباء والوالدين، ودالَّتهم على أبنائهم هي دالة هؤلاء. فيترتب على هذه الحال ترجح القضاء الإيراني بين التفتيش الديني والخلقي، وتهمته النوايا والعزائم والأفكار، وبين القضاء "الوضعي" المنضبط على أصول عامة ومتماسكة، والنازل على تعريفات للأفعال غير مشتبهة ولا حمَّالة أوجه. ويصيب الإشتباه والإلتباس علاقات إيران الخمينية الخارجية على قدر ما يصيبان إدارتها الداخلية. فالحركة الأفغانية المستولية على حكم أفغانستان في نهاية مطاف مؤقتة؟ لحرب أهلية متطاولة، "طالبان"، تستعدي إيرانَ جرَّاء قتلها "ديبلوماسيين" إيرانيين مزعومين، يقيمون في بلاد أفغانية لا ديبلوماسية فيها وهذا لا يسوغ قتلهم ولا قتل غيرهم، بديهة، أم يستعدي إيرانَ الخمينية إسلامُ "طالبان" الأهلي، المخالف إسلام الشيعة الإيرانيين، وإسلام الهزارة الشيعة المقيمين بين هراة وباميان ومزار الشريف؟ وهل تنتقم إيران الخمينية من انتهاك الأعراف الديبلوماسية العامة والمشتركة، والمستقلة عن مصالح الحاكمين ورأيهم وهواهم، أم تثأر لأهلها وإخوتها في الإعتقاد الإمامي ومواليها سياسةً وعصبية؟ ويصدق السؤال نفسه على "حزب الله" اللبناني، وعلى علاقات إيران المالية والأمنية والعسكرية والسياسية به وبمناضليه وناشطيه" ويصدق على "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" العراقي، وعلى المنظمة السياسية والعسكرية الباكستانية التي تتبادل الإغتيالات مع "أنصار السنّة" في كشمير... ولا مناص من تناول السؤال، بل المسألة، كلَّ بنية سياسية لم تجرِّد معيارها السياسي من روابطها الأهلية، ولم تفك قوانينها وحقَّها من دواعي الأهل وعصبيتهم وخصوصهم. و"الدولة" الإيرانية، الخمينية ولو على رأس أجهزتها الإدارية السيد محمد خاتمي، إذ تقصر مراجعتها فتوى القتل على الوجه السالب، أي على الإحجام عن الأمر به وإنفاذه، ولا تصادر "هيئة خرداد 15" على المليوني دولار ونصف المليون، وهي المكافأة على القتل، ولا تعوض أهل القتيل مترجم رواية رشدي ولا الجريح المقعد ناشرها - إذ لا تفعل هذا، وتقف عند تنصلها من الأمر بالقتل، لا تعدو التستر على التباسها ومزاجها المختلط. وأدى الإلتباس والمزاج المختلط، في الداخل، إلى ما أديا إليه من محاكمات، وعدوان على حقوق الأشخاص، ومصادرة صحف، وتشكيكٍ وتهمة، وحملا ربما السيد علي خامنئي على التزام الحذر الذي يلتزمه إلى اليوم. أما في الخارج فأدى الأمران إلى محاذاة الأزمة مع أفغانستان، وفضح العلاقة المزدوجة بالجماعات الموالية لإيران الخمينية، وإلى الكشف عن اضطراب مقومات الدور الإقليمي الذي تطمع فيه إيران وتعمل لأجل الإعتراف به. فالباعث الدائم والمستمر على القلق من سياسات إيران هو خلط هذه السياسات، في الداخل والخارج، بين اعتبارات عامة وعقلانية، تدرجها في عداد الدول "العادية"، وبين اعتبارات خاصة، أهلية ومذهبية، تبعثها على انتهاك قواعد العلاقات السياسية وأعرافها. ولا شك في أن الإرث الذي خلفته الثورة الخمينية قيد ثقيل على عقول حكام إيران وأعمالهم. فمزاعم الطاقم الخميني في الخصوصية "الثقافية" دعته، وتدعو بعضه، إلى تمجيد العزلة والقطيعة مع الخارج. فكانت الفتوى بقتل رشدي، واحتجاز الرهائن الأجنبية بواسطة الجماعات الخمينية في لبنان، والإغتيالات الكثيرة الوسائل والأصناف في الخارج والداخل، وسياسة التسلح المحمومة والباهظة، واتخاذ الجماعات المذهبية في الجوار الإقليمي عملاء "أمنيين" يقدمون "العمليات" على السياسة - كانت هذه الأمور كلها وغيرها مثلها وسائل ناجعة إلى استعداء الخارج، وتصنيف الداخل وشقه حزبين متعاديين ولجمه، وتحويل الخلافات إلى معركة حياة أو موت. وحين يحاول اليوم طاقم خاتمي، وهو فريق من أفرقاء الحكم وجماعاته وشلله وليس روحاً هائمة فوق المصالح والمنافع والمنازعات، حين يحاول معالجة مشكلة متخلفة عن الإرث الخميني، مثل مشكلة رشدي أو الحروب الأفغانية أو استعمال المال العام أو سطوة الذريعة الشرق أوسطية أو احتلال الجزر العربية الثلاث، تتعثر معالجته بانبعاث الروابط والمصالح والذرائع الأهلية والخصوصية، وبقوة أصحابها في السلطة. فتجيء المعالجة مبتورة وملتبسة، تجمع بين علل لا تجتمع. ولا يرفع الإلتباس إلا محاكمة الخمينية محاكمة تاريخية ومقاضاتها باسم دولة دستورية لها ما للدول وعليها ما على الدول، سواء بسواء. وهذا يقتضي، فيما يقتضي، إلغاء "هيئة خورداد 15"، والرقابة المالية والضريبية على الأوقاف وعلى عوائد المدرسين ومواردهم ووكالاتهم، وبناء إدارة ومرافق منها العسكرية والأمنية بمعايير مدنية ووطنية عامة، وإلغاء امتياز "العلماء" الثقافي والسياسي، وتتويج الإجراءات الإنتقالية هذه بالدعوة إلى انتخابات مجلس تشريعي تأسيسي يبت في دستور "الجمهورية"...