عبّرت عدة مصطلحات عن التوحيد في الدين الاسلامي خلال القرون الماضية وكان اولها "الفقه الاكبر" الذي ورد عنواناً لكتاب في الفقه عند ابي حنيفة في مقابل "الفقه الاصغر" الذي يتناول العبادات والمعاملات والاحوال الشخصية الخ… ثم ورد مصطلح "اصل الدين"، و"اصول الدين" وعبّر عن ذلك كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري، ثم شاع مصطلح "العقيدة" ومن ذلك "شرح العقائد النسفية" وغيرها من كتب العقائد. وكانت المعتزلة اول من جعل مصطلح "العقيدة" اشارة الى اهم ما يجب ان يعتقد به المسلم عقلاً، لذلك ارتبط الاعتقاد بعدة مقدمات عقلية منقولة من مذاهب فلسفية كمذهب الذرة وغيره، ومن هذه المقدمات العقلية: اثبات الجوهر الفرد، والعَرََض، والملاء، والخلاء، وان العَرََض لا يقوم بالعَرََض، وانه لا يبقى زمانين الخ… ومنها ايضاً: الوجود والعدم، واقسام الحكم العقلي: الواجب والجائز والمستحيل الخ… وجعلوا هذه القواعد تبعاً للعقائد في وجوب الايمان بها، وان بطلان الدليل مؤذن ببطلان المدلول، وان النظر واجب على المكلف الخ…، ومما يؤكد ذلك تعريف الباجوري لعلم التوحيد كما جاء في كتابه "شرح جوهر التوحيد" حين قال: "بأنه - أي التوحيد - علم يقتدر به على اثبات العقائد الدينية من ادلتها اليقينية، وموضوعه ذات الله تعالى من حيث ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه، وذات الرسل وكذلك، والممكنات من حيث انه يتوصل به الى صانعها، والسمعيات من حيث اعتقادها، وثمرته معرفة الله بالبراهين العقلية والفوز بالسعادة الابدية" شرح جوهرة التوحيد، ص 21. وترتبت عدة نتائج على ارتباط مصطلح العقيدة بتلك المقدمات العقلية اولها: اعتبار وجود الله يحتاج الى اثبات وحشد ادلة مختلفة، وهذا مخالف للتوجه القرآني الذي يعتبر وجود الله امراً فطرياً ويدلّ على ذلك اقرار المشركين بتلك الحقيقة. قال سبحانه وتعالى: "ولئن سألتهم مَنْ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ ليقُولُنَّ الله" لقمان 25، ويدل على ذلك ايضاً لجوء العبد الى الله في حال الضيق والازمات. قال سبحانه وتعالى: "قُلْ مَنْ يُنجيكُم من ظُلُماتِ البرّ والبحرِ تدعونَهَ تضرُّعاً وخفية لَئِنْ انجانا مِنْ هذه لنكوننَّ من الشاكرينَ. قُلِ اللهُ يُنجيكُم منها ومِنْ كُل كَربٍ ثم أنتم تُشْرِكُونَ" الأنعام، 63 - 64. وقد اكدت بعض الآيات والأحاديث فطرية معرفة النفس البشرية للرب، وليس وجوده فحسب فقال سبحانه وتعالى: "واذْ أَخَذَ ربُّكَ مِنْ بَني آدمَ مِنْ ظُهورِهمْ ذُريّتهم وأشهَدَهم على أنفُسِهم أَلَستُ بِربِّكُم قالوا بَلَى شَهِدْنا أنْ تقولوا يومَ القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلينَ. او تقولوا إنّما أشْرَكَ آباؤنا مِن قَبْلُ وكنّا ذُرّيةً مِن بعدِهِم أَفَتُهْلِكُنا بما فَعَلَ المُبْطِلون". الأعراف، 172 - 173. فسّر العلماء الآية السابقة بأنّ الله أخذ البشر وهم في عالم الذر من ظهر آدم وأشهدهم ان الله ربّهم فشهدوا بذلك، وأكد الرسول صلى الله عليه وسلّم هذا المعنى في حديث له فقال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهَوِّدانه او يمجّسانه او ينصّرانه" والمقصود انّ كل مولود يولد على معرفة الله سبحانه وتعالى وانه لو تُرك وشأنه لنشأ على التوحيد ولكن المجتمع هو الذي يوجهه. ومن النتائج الاخرى لتغلب مصطلح "العقيدة" على المصطلحات الاخرى الحيف على الجوانب الاخرى في التوحيد وهي الجوانب المعنوية والاجتماعية والسياسية، فالمتأمل في اركان الايمان وهي: الايمان بالله، والملائكة، والكتب، والرُسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، يجد ان كتب العقائد المتأخرة ك"شرح جوهرة التوحيد" للباجوري ركّزت على اثبات التصديق بهذه الاركان والايمان العقلي بها فقط، وكانت النتيجة اهمال الجوانب المعنوية والاجتماعية والسياسية بالمقارنة مع غنى هذه الجوانب في المنظور الاسلامي عند الحديث عن هذه الاركان في القرآن الكريم والحديث الشريف، فالركن الاول منها وهو الايمان بالله في المنظور الاسلامي لا يعني الاعتقاد العقلي بوحدانية الله وصفاته فحسب بل يعني بالاضافة الى الاعتقاد العقلي امتلاء القلب بتعظيم الله والخضوع له وحبّه سبحانه وتعالى والخوف من ناره ورجاء جنّته. وقال الشيء نفسه عن بقية الاركان وهي الايمان بالملائكة والكُتب والرُسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، فالايمان بها لا يعني الاعتقاد العقلي بها فقط، بل يعني أيضاً امتلاء امتلاء القلب بتعظيم الملائكة وحبهم، ويعني امتلاء القلب بتعظيم رُسله سبحانه وتعالى وحبهم، ويعني امتلاء القلب والخوف من ناره سبحانه وتعالى ورجاء جنّته وكذلك يعني خضوع القلب لقضائه سبحانه وتعالى والرضا بمقدوره تعالى، ونحن سنوضح ذلك من خلال بعض النصوص القرآنية التي تعرضت لأركان الايمان، وسنتحدث عن الحيف الذي لحق بالجوانب المعنوية في هذه الاركان من دون الجوانب الاخرى وهي الجوانب الاجتماعية والسياسية فلها مقام آخر. قال سبحانه وتعالى: "ألم نجعل الأرض مهادا. والجبال أوتادا. وخلقناكم أزواجا. وجعلنا نومكم سباتا. وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا. وبنينا فوقكم سبعا شدادا. وجعلنا سراجا وهاجا. وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا. لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا". النبأ، 166 لا توجهنا الآيات السابقة الى الايمان بالله ايماناً عقلياً فقط، بل توجهنا تلك الآيات ايضاً الى تعظيم الله سبحانه وتعالى لأنه خلق مخلوقات عظيمة: كالارض والجبال والليل والنهار والسموات السبع والشمس والسحب والماء والنباتات الخ… فالخلق دليل قوة وقدرة وعلم وخبرة وحكمة الخ. وتوجهنا الآيات السابقة ايضاً الى حبّ الله سبحانه وتعالى لأنه انعم علينا بالأرض الممهدة، والليل الساكن، والنهار المضيء، والشمس الملتهبة، والسحب الممطرة، والنباتات المفيدة الخ…، وتوجهنا الآيات السابقة ايضاً الى رجاء الله سبحانه وتعالى ان تستمر علينا تلك النعم، وتوجهنا الآيات السابقة الى ان نثق بالله سبحانه وتعالى لأنه خلق آيات عظيمة وأخضعها لناموس دقيق ومنهج محكم في دوراتها وابتدائها وانتهائها وانتقالها، لذلك فهو سبحانه وتعالى جدير بأن نتوجه اليه بالدعاء والسؤال والطلب. وفي مجال ركن آخر من اركان الايمان هو الايمان بالملائكة نجد ان الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة أخبرتنا ان الملائكة مخلوقات نورانية تسبّح الله ولا تفتر، وتفعل ما تؤمر، وان الله سخّر بعضها لحفظ الانسان. قال سبحانه وتعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" الرعد، 11 وقال سبحانه وتعالى: "إن كلّ نفس لما عليها حافظ" الطارق، 4، وسخّر بعضها للصلاة على المسلم ولإخراجه من الظلمات الى النور، قال سبحانه وتعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظُلمات الى النور" الأحزاب، 43، وسخهر بعضها الآخر للاستغفار للمؤمنين فقال سبحانه وتعالى: "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم" غافر، 7 فعندما يعلم المسلم ان خلق مخلوقات عظيمة من نور تحيط به وتسمعه وتراه وتحفظه من الشرور والمكاره، وتُخرجه من الظُلمات الى النور، وتصلّي عليه، وتستغفر له لا يؤمن بالملائكة ايماناً عقلياً فقط بل يُعظّم هذه الملائكة لأنها مخلوقات عظيمة تقوم بأفعال عظيمة، ويحبها لأنها تحفظه وتهديه وتصلي عليه وتستغفر له، كما يعظم الله سبحانه وتعالى لقدرته على هذا الخلق، ويحبه ويحمده على هذه النعمة الجليلة. أما الركن الثالث فهو الإيمان بالكتب. أخبرنا القرآن الكريم ان الله أنزل كتباً متعددة على رسل مختلفين في الزمان مختلفة، منها: الصحف على ابراهيم عليه السلام، والزبور على داوود عليه السلام، والتوراة على موسى عليه السلام، والانجيل على عيسى عليه السلام، وكان آخرها القران على محمد صلى الله عليه وسلم. فوصف الله سبحانه وتعالى التوراة التي أنزلها على موسى وهارون بأنها فرقان وضياء، فقال سبحانه وتعالى: "ولقد آتينا موسى وهارون الفُرقان وضياءً وذكراً للمتقين" الأنبياء، 48، ووصف الانجيل بأن فيه هدى ونوراً، فقال سبحانه وتعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مُصَدِّقاً لما بينَ يَدَيْهِ مِنَ التوراةِ وهُدى وموعِظةً للمتقين" المائدة، 46، ووصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بصفات متعددة، منها: أنه مجيد، وعزيز، وكريم، وشفاء، وهدى، ونور الخ... ومن المؤكد أن حديث القرآن التفصيلي عن الكتب السماوية وتمجيدها ليس المقصود منه ترسيخ الإيمان العقلي بها، وترسيخ التصديق بوجودها فقط، لكن هناك هدف آخر هو بناء تعظيم هذه الكتب في قلب المسلم، وتعميق حبها لدورها الكبير في هداية البشرية، وتوسيع دائرة احترامها لأنها من نور الله. وفي مجال ركن آخر من أركان الإيمان هو الإيمان بالرسل نجد أن القرآن الكريم والحديث الشريف احتوى على تفاصيل عن نشأة هؤلاء الرسل والأنبياء: نوح وهود وصالح وابراهيم وموسى وعيسى وزكريا ويحيى وداوود عليهم السلام الخ... وعن دعوتهم أقوامهم الى التوحيد، وعن صراعهم مع الباطل، وعن هجرتهم، وعن صبرهم على الإيذاء الذي لحق بهم، وعن إهلاك مخالفيهم وإنجاء مناصريهم الخ. اذن ليس الاعتقاد العقلي بوجود الرسل هي الثمرة الوحيدة لهذا الركن بل المقصود من الإيمان بالرسل هو امتلاء القلب بتعظيم هؤلاء الرسل لأنهم جسّدوا العقيدة في أبهى صورها، وامتلاء القلب بحبهم لأنهم كانوا نموذجاً متميزاً في الصبر والتضحية والعطاء، وامتلاء القلب بتقدير جهودهم في إرساء الحق والخير في الأرض. وفي مجال ركن خامس من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر نجد أن حديث القرآن الكريم والحديث الشريف تركز على ثلاث قضايا هي: اختلال نظام الكون في اليوم الآخر، والنعيم الذي سيلقاه المؤمن في الجنة، والعذاب الذي سيلقاه الكافر في النار. ووردت آيات كثيرة عن كل قضية من القضايا الثلاث، ففي مجال القضية الأولى نجد أن الآيات تحدثت عن زلزلة الأرض، وانفطار السماء، وتبعثر الكواكب، وانفجار البحار، ونسف الجبال، فقال سبحانه وتعالى: "إذا السماءُ انفَطَرَتْ. وإذا الكواكب انتَثَرَتْ. وإذا البحارُ فُجِّرَتْ. وإذا القُبورُ بُعْثِرَتْ" الانفطار، 1-4، وقال سبحانه وتعالى: "إذا الشمسُ كُوِّرَتْ. وإذا النجومُ انكَدَرَتْ. وإذا الجبالُ سُيِّرَتْ. وإذا النُّفوسُ زُوِّجَتْ. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بأي ذنبٍ قُتِلَتْ. وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وإذا السماءُ كُشِطَتْ. وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ. وإذا الجنَّةُ أُزْلِفَتْ" الشمس، 1-13. فعندما يؤمن المسلم أن هذا الكون العظيم الكبير سيختل بكل ما فيه من شمس وقمر ونجوم وكواكب وجبال وبحار... الخ. وأنه سيخضع لصيرورة أخرى يوجه تعظيمه الى الله الذي سيفعل ذلك. وعندما يعلم المسلم أن هناك نعيماً ينتظره يوم القيامة، وأن هذا النعيم لا يمكن أن يقارن بأي نعيم في الدنيا، فإنه يرجو هذا النعيم، قال سبحانه وتعالى: "وأصحابُ اليمينِ ما أصحابُ اليمينِ. في سِدْرٍ مَخْضوضٍ. وطَلْحٍ مَمْدودٍ. وظِلٍ مَمْدودٍ. وماءٍ مسكوبٍ. وفاكهةٍ كثيرةٍ. لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ. وفُرُشٍ مرفوعةٍ. إنَّا أنْشَأْناهُنَّ إنشاءً. فجعلناهُنَّ أبْكاراً. عُرُباً أتْراباً. لأصحابِ اليمينِ. ثُلّةٌ مِنَ الاَّولينَ. وثُلّةٌ مِنَ الآخرينَ" الواقعة، 27-40. وعندما يعلم المسلم كذلك أن هناك عذاباً ينتظر العاصين والمذنبين لا يمكن أن يقارن بأي عذاب في الدنيا فإنه يرجو هذا النعيم، قال سبحانه وتعالى: "وأصحابُ اليمينِ ما أصحابُ اليمينِ. في سِدر مَخضوضِ. وطلْح مَمدود. وظِل مَمْدود. وماء مسكوبِ. وفاكهةٍ كثيرةٍ. لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ. وفُرض مرفوعةٍ. إنّا انشأناهن إلشاء. فجعلناهُن أبكاراً. عُرباً أتراباً. لأصحاب اليمينِ. ثُلة مِنَ الأولينَ. وثُلة مِنَ الآخرينَ" الواقعة، 37-40. وعندما يعلم المسلم كذلك أنّ هناك عذاباً ينتظر العاصين والمذنبين لا يمكن ان يقارن بأي عذاب في الدنيا فإنه ويخاف هذا العذاب، قال سبحانه وتعالى: "وأصحابُ الشمالِ ما أصحابُ الشمالِ. في سمومٍ وحميمٍ. وظِلٍّ مِن يَحْمومِ. لا باردٍ ولا كريمِ" الواقعة، 41-44، وقال سبحانه وتعالى: "إنَّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً. للطاغينَ مآباً. لابثينَ فيها أحقاباً. لا يذوقونَ فيها بَرْداً ولا شراباً. إلا حميماً وغَسَّاقاً. جزاء وفاقاً" النبأ، 21-26. إذن ليس الإيمان العقلي بوجود اليوم الآخر فقط هو المطلوب من المسلم بل المطلوب منه بالاضافة الى ذلك توجيه القلب الى تعظيم الله لأنه سيغيّر أحوال هذا الكون، والمطلوب أيضاً توجيه القلب الى الخوف من نار الله والى رجاء جنة الله لما فيهما من عذاب ونعيم. بينا سابقاً تغلب مصطلح "العقيدة" على المصطلحات الأخرى وهو المصطلح المعتزلي، وبينا بعض آثار ذلك، وتجسدت هذه الاثار في حشد المقدمات المنقولة من المذاهب الفلسفية من أجل إثبات وجود الله وهي قضية فطرية في المنظور الاسلامي، وتجسدت هذه الآثار أيضاً في الحيف على الجوانب المعنوية في التوحيد ومثلنا على ذلك بأركان الإيمان. * كاتب فلسطيني.