هل يعقل ان يُقرأ كتاب عن السرطان بشغف، فلا يتركه المرء قبل ان ينهيه، متابعاً صفحاته الاربعمئة كما لو كان يتابع رواية؟! هذا ما يحدث حين يبدأ القارئ "رحلات في السرطان" للروائية والشاعرة اللبنانية ايفلين عقاد صدر بالفرنسية عن دار النهار، بيروت 2000. هذا المرض لا يزال الناس عندنا يتحاشون ذكره، فهو "المرض الذي لا يسمى". كأن يُكتب ان فلاناً توفي على اثر "مرض عضال". اما ايفلين عقاد فتضع كتاباً عن رحلاتها هي في عالم سرطان الثدي الذي اصابها. تقول انها كتبته اولاً لنفسها، لكي تتخلص من أساها، ثم انها وضعته للآخرين ايضاً، لهؤلاء النساء والرجال الذي يعانون او قد يعانون العذاب عينه، فتأمل ان تساعدهم على ان يتخلصوا هم ايضاً من أساهم. الكتاب رواية او قصة، قصتها هي في الدرجة الاولى، علاوة على قصص اصدقائها المصابين مثلها، ولو بأنواع مختلفة من السرطان. حين عرفت ايفلين في 2 آذار مارس عام 1994 انها مصابة بسرطان الثدي الذي لم يصب به احد قبلها من عائلتها، طرحت، غير مصدقة ما اصابها، السؤال الذي يطرحه كل انسان: لماذا انا؟ وتجيبها احدى صديقاتها: ولماذا لا اصاب انا ايضاً؟ والمعروف ان امرأة من كل سبع نساء في كنداوالولاياتالمتحدة حيث تقيم الكاتبة استاذة في احدى جامعاتها الكبرى اصيبت او ستصاب بسرطان الثدي في حياتها، بحسب احصاءات سنة 1995. تكتب عقاد: "فالثدي، هذا الجزء الحساس جداً والرقيق جداً، يكون اكثر عرضة لتحوّلات الطبيعة والبيئة. واذ بالثدي الذي هو مصدر الحياة يتحوّل الى مصدر الموت". تبدأ عقاد تدوين مذكرات رحلاتها المؤلمة في عالم المرض والعلاج. مذكرات تتخللها قصص، اشعار، تأملات، ذكريات من ماضي ما قبل السرطان. الهورمونات التي وصفتها لها طبيبتها لتتجنب ترقق العظم، تسبب لها نزيفاً قوياً جداً، تحجراً في الثدي، سرطاناً. فتطلعنا خطوة خطوة على كل تفاصيل العلاج وتطوراته.، ما كان منه لحاجة ولغير ما حاجة سوى تغذية جيوب الاطباء والمختبرات. ويتابع القارئ بدهشة حيناً، وباشمئزاز حيناً، مغامراتها مع الطب والاطباء الذين عالجوها في الولاياتالمتحدة، لا انسانيتهم، والابتزاز المادي الذي كانت ضحيته. تصف الكاتبة بالتفصيل وخطوة خطوة، عذابها، قلقها ومخاوفها اثناء معالجتها بالمواد الكيميائية، آلام المعدة والغثيان، صلعها، العملية الجراحية التي اجريت لها بعد ذلك لاستئصال ثديها الايسر، ثم علاجها بالاشعة، آلام جسدها الثقيل المشوّه الذي اصبح جسداً غريباً عنها. ويرافق عذابها الجسدي عذابها المعنوي للحرب المدمرة التي تصيب وطنها لبنان. فتعقد المقارنة بين هذه الحرب المحرِقة والمحرَقة النازية ومحرقة جسدها. ولا تتجنب الاديبة موضوعاً محرماً في مجتمعاتنا: كيف أثر ذلك كله في حياتها الجنسية، فحرمها متعة الحب. وفي محنتها تصف الكاتبة الاصدقاء الكثيرين الذين آزروها وآسوها وساعدوها، وكان بينهم مصابات ومصابون مثلها. وعلى رأس الاصدقاء تونسيات من مثل امل، لبنانيات مثل منى، فرنسيات مثل الاديبة اندريه شديد، ولا سيما حبيبها "ألبان" الذي رافقها الى كل علاج والى كل فحص وتحمّل معها كل ما تحمّلت وحاول ان يخفف عنها وطأة المرض قدر الامكان وان يشجعها، ويعزيها بحبه المخلص. ويتابع القارئ بكثير من الاعجاب رغبة الكاتبة المريضة وامثالها في متابعة الحياة المهنية واصرار على مكافحة المرض وعدم الاستسلام لليأس. ولكن تتخلل قصص مرضها قصص من حياة معارفها واصدقائها، واحداث من حياتها المهنية ورحلاتها الى فرنسا وتونس ولبنان. من شاهدت هناك وماذا فعلت ورأت واكتشفت. ولا يخلو الكتاب من اخبار طريفة، منها ان هورمون البريمارين يُستحضر من بول الفرس، وكيف يُجمع. او حين ترى المومسات في باريس عارضات صدورهن لإغراء الزبائن، تتساءل: ماذا سيفعلن حين يصيبهن سرطان الثدي فيُستأصل اثداؤهن؟ ولكن في الكتاب ايضاً احداث مؤثرة جداً، مثل عذاب صديقتها المريضة "سيفرين" وقلقها على طفلتها التي ستفقد امها كما فقدت هي امها وكانت لا تزال طفلة. وفي الواقع تموت "سيفرين"، فتكتب ايفلين في رثائها قصيدة من اجمل قصائدها واعمقها تأثيراً. وتؤكد الكاتبة اهمية التجمعات في الولاياتالمتحدةوبيروت حيثما يجتمع المصابون بالسرطان للتحدث عن انفسهم ومشكلاتهم وصعوباتهم التي لا يفهمها غيرهم فيريحهم التعبير عنها. فعذابهم لا ينتهي بعد إجراء العملية الجراحية، بل يستمر مدى الحياة إذ تظل الاوجاع، وينهدّ الجسد، وتظهر حساسيات معينة لم يعرفوها من قبل، وربما سرطانات جديدة تنشأ نتيجة العلاج. وطبعاً، سيف خطر الموت يبقى مصلتاً فوق رؤوسهم. الا ان ايفلين عقاد لا تكتفي بالشكوى والوصف. فقيمة الكتاب في نظر القارئ انها تكمن في المعلومات الكثيرة والمفصّلة التي تعطيها لاسباب السرطان وتكاثره في هذا الشكل المذهل في عصرنا. في بحثها المحموم عن اسباب المرض تطالع مئات الكتب والمقالات العلمية والطبية المتعلقة بالموضوع، كتباً لعلماء وأطباء مشهورين اصيب بعضهم ايضاً بالسرطان. وتقابل اطباء وعلماء نفس، فتستشهد باقوالهم ونتائج ابحاثهم. وتكتشف، ونكتشف معها، ان الوراثة لا تلعب دوراً كبيراً في هذا المرض الخبيث. فحين يعزو الاطباء السرطان الى عوامل وراثية تقول عقاد انهم يفعلون ذلك لانهم يودون ان يخفوا جهلهم، او لرغبتهم في التضليل، اذ يزيحون مسؤولية المرض عن الذين يديرون أو يوجّهون حياتنا اليومية، لينحوا باللائمة على المريض نفسه، على ما ورثه من اهله واجداده. فالمسؤول الاول عن تفشي السرطان اليوم هو المدنية المعاصرة: تلوّث البيئة، المواد الكيميائية التي تفسد الجو والارض والمياه، مبيدات الحشرات التي ترش على الفاكهة والخضار من غير حساب، الهورمونات التي تحقن بها الحيوانات والطيور والآن: الانسان! ومن خلال الشواهد التي توردها عقاد تتبيّن الصلة الوثيقة بين النظام الاقتصادي وتوجيهات العلماء والاطباء المتعلقة بمصالح مصانع الادوية والمبيدات والمواد الكيميائية. فتخلص الى ان النظام الصناعي والتقني والعلمي، والمؤسسات التجارية وحتى القانون، كلها مسؤولة عن اصابة ملايين النساء والرجال بل والاطفال وعن موتهم في ما يشبه ابادة جماعية. لعلّ الكتاب ايضاً كتاب نقد، وصرخة غضب ونقمة: نقد لنمط الحياة في الولاياتالمتحدة، لعنجهية بعض الاميركيين وعنصريتهم. غضب على الاطباء الذين يخفون جهلهم ويخفون تفاصيل المرض عن المريض" وغضب على جشع الاطباء الذين يجبرون المرضى على اجراء فحوصات واحياناً عمليات جراحية لا لزوم لها، طمعاً بالمال. والكتاب نقمة على استهتار الاطباء بمرضاهم، تضليلهم، عدم تنبيههم الى ما ينتظرهم نتيجة العلاج" ونقمة على لا انسانية المستشفيات والمؤسسات المعالجة التي يصبح المريض بين ايديها آلة بلا ارادة ولا حرية خيار" ونقمة على افخاخ شركات التأمين. ويشعر القارئ ان للكاتبة هدفاً واضحاً من وضعها هذا الكتاب، الى جانب رغبتها في التعبير عن نفسها للتخفيف من عذابها. انها تريد ان تنبه الناس، ولا سيما النساء، الى اخطار البيئة الملوّثة واخذ الهورمونات، الى ضرورة النضال من اجل التقليل من اسباب التعرض للسرطان، الى اهمية التصريح بكل ما يتصل بهذا المرض، بدلاً من اخفائه وعدم ذكره. ثم التنبيه الى جهل الاطباء حقيقة هذا المرض، ومن ثم التناقضات في آرائهم حوله وعلاجاتهم له. جرأة الكاتبة وشجاعتها في فضح من يُفترض فيهم الاشراف على صحة المواطنين ليستا بأقل من شجاعتها في وصفها المفصل لهذا المرض "الذي لا يسمى"، لإثباتها كل ما عانته من آلام، وتصويرها كل ما احست به من مشاعر، ومرّ في ذهنها من خواطر وتأملات. وليس اقلها قيمة تلك الدروس الايجابية التي جنتها ايفلين عقاد من "رحلاتها في السرطان": قيمة الحياة والقدرة على الاستفادة من كل لحظاتها حين يهددها الموت. واهمية الاصدقاء ولا سيما الحب في الفترات العصيبة من الحياة. وقد عبّرت عن هذا كله باسلوبها الادبي. واغنته بقصائدها الجميلة المؤثرة، إذ تبقى ايفلين عقاد في الدرجة الاولى اديبة وشاعرة.