هل يكون الراوي أو «بطل» رواية «الحالة الحرجة للمدعو ك» للكاتب السعودي الشاب عزيز محمد هو نفسه «بطل» القصة القصيرة التي يكتبها الراوي نفسه والذي يحمل الاسم ك؟ قراءة الرواية قد توحي بأن الراوي وبطل قصته التي لم يكملها هما في الوقت ذاته، شخص واحد وشخصان منفصلان بعضهما عن بعض، ولو أن العنوان يشي بوحدتهما. فالمدعو ك هو مبدئياً صاحب الحالة الحرجة أي البطل- الراوي المصاب بمرض السرطان الذي جعله يعيش حالة شديدة الحرج. لكنه لم يعلن بتاتاً أن هذا اسمه، مكتفياً بتسمية بطل قصته الناقصة به. وإذا كان الراوي موظفاً في شركة بتروكيماويات سعودية فبطله ك موظف أيضاً. وقد تخيل الراوي أنه يكتب قصة هذا «القرين» أو شبه القرين خلال دوامه الوظيفي هرباً من ملل العمل اليومي داخل المكتب. ويعترف أنه راح يكتب القصة بذهنه وليس على شاشة الكومبيوتر أمامه، عازماً على كتابتها لاحقاً في البيت. «لعلي اسمي ذاك الموظف ك وليغفر لي كافكا»، يقول، وفكر أيضاً بتسمية القصة التي تدور داخل اجتماع عمل «قاعة المؤامرات» وهو تحريف لقصة كتبها كافكا عنوانها «قاعة المؤتمرات». لكنّ الراوي يسخر من القصة التي يكتبها كما يسخر من نفسه، فالأوكسجين الذي ينقص في الاجتماع يسبب الغثيان لبطل القصة والإرهاق وضيق التنفس، وهذا ما يعانيه أصلاً الراوي، بحسب مستهل الرواية. ويظن، بعد ما انفض الاجتماع الممل، إنه سيهمل القصة التي سلى نفسه بها ولن يكتبها: «لطالما وجدت الكتابة الجادة عملاً عسيراً ولعلها أصعب مهنة في العالم كما يقول همنغواي». ولئن استعار الكاتب والراوي لاحقاً اسم ك من رواية كافكا «المحاكمة»، فبطل كافكا مختلف تماماً عن الراوي- البطل ولو جمعتهما صفة «الموظف». لا علاقة بين ك كافكا وك بطل القصة أو الراوي أيضاً، الذي خلقه الكاتب عزيز محمد. وهنا تكتسب الرواية طرافتها مبتعدة عن التقليد أو الاستعارة والتناص. والراوي أصلاً الذي هو كاتب وقارئ لم يذكر من أعمال كافكا سوى «اليوميات» كمرجع. ولعله يؤكد أنه يكتب يوميات أو مذكرات أكثر مما يكتب رواية، لكنها المذكرات التي تؤول إلى اكتساب مواصفات الرواية. فحيلة السرد هنا جعلت مما يسميه الراوي علناً «مذكرات» عملاً روائياً. كأن يقول في الختام بعدما استعاد عافيته وشفي مبدئياً من السرطان: «تسعة أشهر مضت منذ أن بدأت هذه المذكرات». ولعله في كتابتها استطاع أن يحقق حلمه هو الذي يعاني أزمة في الكتابة حتى ليعترف أنه عندما يعاود الكتابة كانت الحصيلة تبدو «هزيلة وركيكة» مقارنة بما يقرأ. وكانت الكتابة تسلس له في أحيان فيسترسل فيها. ولا بد من الإشارة هنا أنه لا يجوز له هو ابن السادسة والعشرين كما يوحي بعمره، أن يقارن بين ما يكتب وما يقرأ لا سيما أن ما يقرأه يرجع إلى كتّاب كبار مثل كافكا في «اليوميات» وأرنست همنغواي في «الشيخ والبحر» أو توماس مان الذي تطلّب منه إنهاء قراءة روايته «الجبل السحري» وقتاً طويلاً، وكان بدأ قراءتها منذ أن علم بمرضه ورافقته خلال أشهر العلاج في المستشفى. ناهيك عن الياباني تانيزاكي وروايته «في مديح الظل» وكنوت هامسون في «الجوع» وموراكامي... وتكمن هفوة أخرى تدل على هيمنة الراوي العليم في كلامه عن قراءاته وهو في الصف الثانوي ومنها قراءة «ما وراء الخير والشر» للفيلسوف الألماني نيتشه الذي يصفه ب «المعتوه» تودداً طبعاً، أو «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي أو أعمال هامسون وبعض «مدارس الفكر الغربي». ولم يعدد مثل هذه المراجع إلا ليؤكد انصرافه عن الدين باكراً مقتفياً خطى أهله كما يعبر. وبالتالي يبدو مستهجناً أن يقرأ طالب في الصف الثانوي خصوصاً في الثانويات الخليجية أو العربية، مثل هذه الكتب التي تتطلب ثقافة ومعرفة. سيرة ذاتية متقطعة يكتب الراوي ما يشبه السيرة الذاتية المتقطعة من خلال تدوين مذكراته في المكتب أو الوظيفة وفي البيت أو داخل الأسرة وفي المستشفى، عندما يخضع للعلاج الكيماوي وسواه. ووزع المذكرات على ثلاثة فصول وأربعين أسبوعاً، تداخلت فيها الوقائع والذكريات والمرويات والانطباعات والتداعيات. ومن خلال هذا السرد الكرونيكي نسج خيط الرواية التي ظلت نهايتها شبه مفتوحة بصفتها رواية مذكرات لا رواية أحداث وشخصيات. فالشخصيات لا تقدم نفسها إلا عبر ارتباطها بمرويات البطل- الراوي، مهما بدت واقعية ومؤثرة أحياناً. إنها تظل أسيرة خطاب الراوي وذكرياته وليست مستقلة بذاتها وأفعالها. وكذلك الأحداث والوقائع لا تحصل إلا من خلال عين الراوي الذي يمكن أن يُعد الشخصية الوحيدة الفاعلة في الرواية. يستهل الراوي المذكرات بحال «الغثيان» لكنها ليست هنا فكرة سارترية وفق ما دلت عليه روايته الوجودية «الغثيان». هذا غثيان مرضي، فيزيقي غالباً. يرافقه نزيف دم يسمى الرعاف وقد خضع لجلسات كيّ عدة لم تكن حاسمة: «استيقظُ متعرقاً. غثيان، صداع، دم على المخدة،الآم في المفاصل». يعاني الراوي أيضاً الأرق أو قلة النوم مثل الأبطال السلبيين عادة، وينعكس على مساره الوظيفي في الشركة البتروكيماوية، فيصبح الدوام مملاً ومرهقاً، خصوصاً وسط موظفين آخرين يعملون مثل الآلات الروبوتية. وكم يوفق في سخريته من مرضه الذي يصاب به مقارناً بين فيروس السرطان والفيروس الذي يصيب عادة الكومبيوترات التي يعتمدونها، وبين المادة الكيماوية التي هي من اختصاص الشركة والعلاج الكيماوي الذي يتلقاه بغية مكافحة السرطان الذي في جسده. والسخرية أصلاً أحد مرتكزات الرواية وحيلة سردية لهتك مقولات عدة ومفاهيم وتقاليد هي من صميم الحياة الجماعية. فالراوي لا يتمالك عن هتك فكرة الوظيفة التي هي صورة مصغرة عن مجتمع أو واقع عام، محكوم بآلياته القاسية واللاإنسانية، وكلك فكرة البيت أو الأسرة، فكرة المستشفى، وحتى فكرة مرض السرطان في بعده الفيزيكي والاجتماعي، يسعى عزيز محمد من خلال بطله المريض إلى فضحها وهتكها، جاعلاً من الحال المأسوية التي يعانيها بطله، منطلقاً للمواجهة العبثية والساخرة. ولم توفر السخرية المرة لديه أحداً وشملت كل البيئات التي تدور فيها الوقائع. فهذا الشخص «الضيق الخلق والمثانة» بحسب عبارة القاص المصري الكبير يوسف الشاروني، لا يفارقه هاجس التبول ويصف نفسه بلا حرج بأنه «ذو طبيعة بهيمية» ويكرر كلمة «خراء» كثيراً، بل إنه يصف نفسه هو المريض عندما يجلس بالقرب من جده الكهل على سرير الاحتضار ب «الخصيتين المتهدلتين» وإذا هما كما يقول: «عجوزان في آخر العمر، يجلسان معاً، وكلاً منهما وحده، على حافة الموت». يكشف الراوي مساوئ هذا الجد، رأس العائلة، ولا مبالاة الأعمام، ويُبرز الوجه التقليدي لأمه على رغم حبه لها، ويلقي الضوء على سلوكها الاجتماعي والعائلي والأمومي النافر وأخذها الدائم عليه هواية القراءة. حتى شقيقه المأخوذ بعروسه والعرس الذي يصر على إقامته في لحظات مرضه الشديد، لا ينجو من نقده. أما شقيقته التي لم يكن على اتفاق معها منذ الفتوة، فلا يتورع عن انتقادها بشدة، خصوصاً أنها تهوى حياة الثراء والمظاهر الخادعة. وهي التي تدبرت عروساً ثرية لأخيها وأصرت على العرس على رغم حال شقيقها المريض. وفي الليلة التي أجبروه فيها على تلبية الدعوة إلى العشاء لدى أهل العروس الأثرياء، يقع في الغيبوبة في حمام دارتهم فيضطرون إلى خلع باب الحمام لينقذوه ناقلين إياه إلى المستشفى. وهنا يوجه الراوي سهام سخريته الجارحة إلى أهل العروس التقليديين والمتبرجزين. يبدو عزيز كمال منحازاً إلى مقولة سارتر عن الأسرة التي تتألف بنظره من أفراد متكارهين ومتشاجرين. ومثلما يهتك الراوي مفهوم الأسرة ينقض أيضاً على مفهوم الوظيفة والشركة البتروكيميائية التي يعمل فيها كموظف ويكرهها ويمقت المديرين فيها ومعظم زملائه الخاضعين للنظام وكأنهم روبوتات وليسوا بشراً. هؤلاء الموظفون لم يطوعوا نفوسهم وسلوكهم فقط لمشيئة رب العمل القادر على مراقبتهم خفية، بل طوعوا أجسادهم أيضاً وحاجاتهم الجسدية أيضاً، فهم لا يقصدون الحمام ولا يجوعون ولا يخرجون من المكتب للتدخين أو الاستراحة. إنها الوظيفة التي تجعل البشر بلا أحاسيس ولا حواس ولا روح. عالم المستشفى أما عالم المرض والمستشفى أو الاستشفاء والمعاينات والعلاج الكيماوي وسواه، فنجح عزيز محمد بل برع في تصوير هذا العالم تصويراً واقعياً ولكن على الطريقة الواقعية الجديدة إن أمكن القول، التي تجعل من الواقع ذريعة للبحث عما وراءه وما يعتريه من جوانب قاتمة. شاء الكاتب رؤيته إلى عالم المستشفى شبه بانورامي، حافلاً بالتفاصيل الكثيرة والوجوه، مثل الأطباء والممرضات والمرضى وبينهم مريضة شابة تنصحه بقراءة كتاب للروائية الأميركية سوزان سونتاغ ألّفته بعد نجاتها من السرطان... عطفاً على الأدوية وحبوب النوم والاكتئاب والحقن وأكياس الدم والروائح الحادة، وكذلك العزل الصحي والفحص الإلكتروني الذي يتم في «جهاز يشبه القبر»... ناهيك عن الاستشفاء المنزلي والضجر والضيق والإنهاك الذي يسببه الزوار. ولم يتوان في البيت عن استخدام الحشيشة بالسر للتخفف من العذاب، وعندما تكتشف أمه أمر الحشيشة تكاد تجن لعجزها عن إدراك حاجة المصاب إلى مثل هذا المخدر الخفيف. ولا غرابة أن تدور معظم وقائع الرواية داخل المستشفى ومن حوله، فهو يختصر مكان الرواية وزمنها الواقعي والنفسي. وبدا الكاتب ملماً كل الإلمام بما يسمى تجربة السرطان طبياً ونفسياً وفيزيقياً وتقنياً و «مناخياً» على رغم انزياح السرد لديه نحو الهتك والسخرية. ومعروف أن عزيز محمد ليس أول من تطرق لمرض السرطان روائياً. الكاتب السويسري فريتز زورن كتب روايته أو مذكراته البديعة عندما خاض بنفسه تجربة المرض الذي أودى بحياته. وكتابه «مارس» من أجمل الكتب وأقساها في هذا القبيل وقد وزعه على يوميات أيضاً. في هذا الكتاب يقول زورن الراوي: «لا أريد أن أنادي الممرضة. لا أستطيع أن أتحمل شفقتها أو تقززها. إنني أضمحل بصورة ضئيلة ومزرية. تناءى الآن المزاج التهكمي وحلت سوداوية بائسة ومظلمة. أكاد انفجر، ولا أتماسك إلا بشق النفس». لا أدري إن كان كتاب «مارس» المعروف عالمياً قد نقل إلى العربية، ولا أدري إن كان عزيز محمد قد قرأه أصلاً. وفي هذا الميدان أيضاً ألّفت الكاتبة اللبنانية الفرنكوفونية إيفلين عقاد رواية رهيبة بالفرنسية عن مرض السرطان الذي عانته سمتها «رحلات في السرطان». قبل هذه الرواية لم يكن اسم عزيز محمد معروفاً. حتى الناشر حسن ياغي صاحب دار التنوير، لم يكن يعرفه عندما تلقى مخطوطته عبر الإيميل وقرر نشرها للفور من دون التعرف إلى صاحبها. ولم يكن مستغرباً إدراجها في اللائحة الطويلة ثم القصيرة لجائزة البوكر العربية. قد لا تكون صفة «روائي موهوب» تكفي لوصف هذا الكاتب السعودي الشاب الذي يطل برواية أولى، فهو نجح في إنجاز عمل فريد ورهيب وجريْ، في تقنياته وأجوائه وسخريته وقوته التعبيرية.