في شكل يحمل كل تناقضاته وقدراً كبيراً من اللؤم، يعرف في عالم السياسة عادة أن لحظات السلام والاتفاق الكبرى بين الأمم انما تكون ناتجة عن استشراء التأزم، إما لدى الأمتين المرشحتين للتفاهم، وإما لدى واحدة منهما. وقراءة تاريخ القرن العشرين - على الأقل - تكشف لنا هذه البديهة، لتقول في نهاية الأمر أن ما يجر أمتين - أو أكثر- الى نوع من التفاهم، إنما هو ما يكون عاصفاً بينهما، أو بين إحداهما وأطراف أخرى ما يجعل من الضروري تهدئة الأمور، إما عن طريق تنازلات متبادلة في حال توازن قوى مدمر للدولتين وإما عن طريق تقديم إحدى الأمتين تنازلات للأخرى تسهل التفاهم في حال احساس تلك الأمة بأن الأزمة العاصفة قد تذهب بها وبمكتسباتها. ويقيناً أن شيئاً مثل هذا كان هو الذي حكم ذلك الاتفاق التاريخي الذي عقد في مثل هذا اليوم من العام 1988، بين الدولتين الآسيويتين الكبيرتين والجارتين اللدودتين: الهندوالباكستان. فهاتان الأمتان اللتان كانتا في الحقيقة أمة واحدة عاشت الكثير من التناحرات الدينية والعرقية قبل أن تنشطر أواسط سنوات الأربعين إثر رحيل الاحتلال الإنكليزي، عاشتا طوال العقود التالية على الانشطار صراعات ما هدأت أبداً، ووصلت الى ذروتها اوائل سنوات السبعين حين ساعدت الهند الإقليم الشرقي من الباكستان، على الانشقاق وتشكيل دولة بنغلادش. ومن المعروف أن ذلك فاقم الوضع بين الأمتين، الوضع الذي ما كان في حاجة الى مثل ذلك لكي يتفاقم، خصوصاً وأن الهندوالباكستان لعبتا دوراً كبيراً في شن مراحل الحرب الباردة، أولهما مناصرة الاتحاد السوفياتي، محاربة للصين متحفظة على الغرب - من موقع عدم الانحياز في أحسن الأحوال - والثانية مخالفة مع الصين متصدية للنفوذ السوفياتي في آسيا، داخلة في الأحلاف الغربية كافة. ولقد وصل التناحر بين الأمتين الى سعي كل منهما الى تلك القنبلة النووية، وما إلى ذلك. من هنا، كان الأمر في حاجة الى تغيرات سياسية عميقة وجذرية، والى رحيل الطبقة السياسية القديمة العنيدة والى استرخاء الحرب الباردة على الصعيد العالمي. ولكن أيضاً إلى حال تأزم عنيفة عاشتها الأمتان في الداخل حتى يكون الاتفاق. الاتفاق الذي وقع في مثل هذا اليوم في إسلام أباد عاصمة الباكستان، كان إذاً نتيجة لعوامل كثيرة، أبرزها - كما أشرنا - حال التأزم في كل من البلدين. تلك الحال التي أدت بنيودلهي وإسلام أباد الى توقيع اتفاق سلام حاسم هو الأول بينهما منذ ستة عشر عاماً، والأشمل منذ الانشقاق الكبير. ولقد وقع الاتفاق، عن باكستان بنازير بوتو، ابنة ذو الفقار علي بوتو، التي كانت أول امرأة تحكم أمة إسلامية في العصور الحديثة، وكانت من الحداثة والمعاصرة والانفتاح ما شجعها على تلك الخطوة، أما عن الهند فوقع الاتفاق راجيف غاندي، ابن السيدة الراحلة انديرا غاندي وحفيد جواهر لآل نهرو، الذي كان هو الآخر من الحداثة والمعاصرة أن أدرك ان اتفاقاً مع الباكستان من شأنه أن يخفف من الضغط عليه. الضغط على الهند كان نابعاً من أماكن كثيرة، كثورة التاميل في سريلانكا والتي تورطت الهند في قمعها وكالانفصاليين في كشمير من الذين تشجعهم باكستان، وكانفراط المعسكر الاشتراكي ومعسكر عدم الانحياز، والأزمة الاقتصادية العاصفة، وكوارث الطيران المتلاحقة التي كشفت عن أزمة في التنمية. أما بالنسبة الى الباكستان فكان الضغط، ناتجاً خصوصاً من الصراعات السياسية الداخلية التي كان على بنازير بوتو خوضها، إضافة الى إرث ضياء الحق القاسي، وتورط الباكستان في المعضلة الأفغانية والإحساس بأنه بعد الانسحاب السوفياتي، سوف يكون على إسلام آباد أن تواجه وضعية جديدة في أفغانستان، ستكون أكثر تعقيداً وإرباكاً، ناهيك بإرث حرب بنغلادش نفسها. إذاً، على ضوء هذه الوضعية، فاجأت بوتو وغاندي العالم، في ذلك اليوم من العام 1988 باتفاق سلام وصف بأنه تاريخي، وكان أهم ما فيه استنكاف كل من الطرفين عن مهاجمة المؤسسات النووية لدى الطرف الآخر، إضافة الى بنود مهمة أخرى. أما العلامة الأساسية في ذلك كله فكانت في أن راجيف غاندي الذي زار إسلام أباد للمناسبة، كان أول زعيم هندي يزور الباكستان خلال 30 سنة. الصورة: راجيف غاندي وبنازير بوتو.