«التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    "البرلمان العربي" يرحب بإصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال ووزير دفاعه السابق    جلسة تكشف الوجه الإنساني لعمليات فصل "التوائم الملتصقة"    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    " هيئة الإحصاء " ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8% في سبتمبر من 2024    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    القِبلة    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    المدى السعودي بلا مدى    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون العرب والهند : انتظروا قنابل باكستان ل "رفع رايات النصر والتفوق"
نشر في الحياة يوم 02 - 06 - 1998

لم يجد بعض المثقفين العرب أملاً يتشبثون به سوى التستر وراء عباءة الآخر المسلم وانتظار قنبلته النووية لكي ينسبوا إلى أنفسهم نصراً وتفوقاً لا يملكون أدوات تحقيقه. وهم في مسلكهم هذا وكتبرير مغلف لم يترددوا في التركيز على ما يسمى بالتعاون النووي ما بين الهند وعدوهم الإسرائيلي، مقللين من شأن البند العلمي وقافزين على كل الحقائق المعروفة.
أما كيف ستخدم قنبلة باكستان النووية الإسلامية قضايا العرب ومعضلاتهم وتنتشلهم من حال التقهقر التي يعيشونها، فلم يتكرم أي من هؤلاء المثقفين بتناوله، كأنما الأمر مفروغ منه، بمعنى ان إسلام آباد ستضع القنبلة تطوعاً تحت تصرفهم انطلاقاً من الرؤية الدينية المشتركة، وهي التي لم تفعل شيئاً لقضاياهم المصيرية وغير المصيرية طيلة العقود المنصرمة، اللهم سوى التأييد الكلامي لها والاستنكار والشجب والتنديد والإدانة لممارسة العدو الإسرائيلي، فيما كان الثمن الذي حصلت عليه من جراء تلك المواقف المعنوية كبيراً يفوق الوصف في صورة قروض وهبات وتسهيلات وعقود تفضيلية. ويكفي هنا من باب التذكير السريع ليس إلا، بأنه عندما كانت باكستان تحتل مقعدها بثبات في الخمسينات والستينات في الأحلاف الغربية كحلف بغداد والسينتو الموجه أساساً لضرب أحلام العرب في الاستقلال والوحدة والحرية وتنشط فيها غير آبهة بمكانتها الإسلامية وروابطها الأزلية مع العرب، كانت الهند العلمانية و"الهندوسية" تقود الجهود الديبلوماسية في المحافل الدولية لدعم حركات الاستقلال في تونس والمغرب والجزائر، وتقدم الدعم المادي والمعنوي لمصر في تصديها لقوى العدوان الثلاثي وتنشط لترسيخ مبادئ عدم الانحياز والحياد الايجابي وتقاوم الأحلاف بأشكالها وأنواعها.
وحينما كانت الهند تحتضن منظمة التحرير إعلامياً وتمدها بالدعم وتأخذ بيدها لاختراق المحافل الدولية، كانت باكستان تشارك في إبادة المقاومة الفلسطينية، أمل العرب وقتذاك لتجاوز هزيمتهم الحزيرانية، عبر مشاركة جنرالاتها المعارين للجيش الأردني في أحداث أيلول سبتمبر الأوسد، وعلى رأسهم الجنرال ضياء الحق الذي قفز إلى السلطة في بلاده لاحقاً وظل يكابر في حرصه على المقاومة والقضية الفلسطينيين. انظر مذكرات رئيس الديوان الملكي الأردني في السبعينات أحمد الطراونة المنشورة في صحيفة "الشرق الأوسط" على حلقات.
ولا حاجة هنا للتأكيد على أن سياسات الهند الصريحة تجاه الحقوق العربية في فلسطين وغيرها لم تملها مواقف مصلحية أو اعتبارات ظرفية على خلاف مواقف الآخرين، وإنما كانت نابعة من جذور تجاربها وتراثها وفلسفاتها القديمة والمتمشية مع مبادئ المهاتما غاندي ورؤى الجواهر لال نهرو في الدفاع عن الحرية والحق والعدالة ونصرة الشعوب المستضعفة والمقهورة. ولعل أكبر دليل على مبدئية هذه السياسات أنها ظلت مستمرة وبالزخم نفسه ولم تتأثر قيد أنملة بمواقف العرب المنحازة علناً إلى جانب أعداء الهند التقليديين باكستان والصين، على الرغم من صيحات البعض داخل الهند من جدوى تأييد دول وشعوب عربية لا تقيم وزناً للهند ومواقفها ولا تتخذ حتى موقف الحياد - وهو أبسط الايمان - بل تنجرف إلى تأييد أعدائها من دون تحفظ في المحافل الدولية. وعلى رغم شعور الهند بالمرارة والقلق حينما رضخت الحكومات العربية لضغوط باكستان في اقصائها من المشاركة في القمة الإسلامية الأولى المؤسسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والتي حرص المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز على أن يحجز للهند مقعداً فيها اعترافاً بثقلها البشري الإسلامي الذي كان يعادل وقتذاك نصف سكان العالم العربي، فإنها لم تغيّر سياساتها العربية وظلت وفية لمبادئها.
وحينما نأتي لتناول موضوع العلاقات الهندية - الإسرائيلية التي يحلو للبعض التركيز عليها والمبالغة في تصويرها كسبب مبرر لوقوفه في خندق الآخر المعادي للهند، إلى درجة وصف الأخيرة بأنها صنو للكيان الإسرائيلي في عدوانيته وعنصريته وتوسعيته وشره، لا يملك المرء إلا أن يرفع حاجبيه إلى قمة رأسه مندهشاً من مثل هذا الإغراق في العواطف والابتعاد عن الحقائق. وفي اعتقادي أنه لمن الظلم الذي لا يليق أن نقارن الهند بإسرائيل، ومن المسيئ لعقولنا أن ننجرف في خضم هذه المقارنة وتحت ضغط العاطفة والقواسم الدينية المشتركة التي تربطنا مع باكستان المسلمة إلى تشبيه قضية كشمير بقضية الشرق الأوسط أو تشبيه حروبنا مع الكيان الصهيوني بحروب الهند والباكستان. فالهند لم تحتل أرضاً ولم تشرد شعباً ولم تكن يوماً عامل ايذاء في محيطها، تشن الغارات وتلقي القنابل الحارقة وتكسر عظام الأطفال وتصد أبواب السلام وتخرق قوانين وقرارات المجتمع الدولي بعنجهية، بل كانت هي نفسها ضحية مخططات استعمارية أدت إلى تقسيمها وتشتيت شعبها الواحد وتفتيت جيشها ومواردها وكل امكاناتها. أما حروبها مع باكستان فلا يمكن الجزم بأنها هي التي اطلقت شرارتها الأولى، والدراسات التي ظهرت أخيراً وبينها ما كتب بأقلام باكستانية مسؤولة تشير إلى أن حرب البنغال، مثلاً، ما كانت لتقع لولا تهور نظام الجنرال يحيى خان وبحثه عن تثبيت دعائمه عبر القيام بمغامرة عسكرية ضد العدو التقليدي. وأما ما يقال عن نزعة الهند التوسعية فتنفيها حقيقة أنها هي التي تشكو من توسع الآخرين في أراضيها، بدليل وجود أكثر من أربعين ألف كيلومتر مربع من ترابها في أيدي الجارة الصينية. كما تنفيها حقيقة عدم قيامها بضم الجناح الشرقي من باكستان في العام 1971، وقد كانت قادرة على ذلك، وتفضيلها تسليمه إلى أبنائه ليعلنوا قيام دولتهم الحلم تحت اسم بنغلاديش، وهي الدولة التي اسقط قيامها نظرية أن باكستان هي دولة كل مسلمي شبه القارة الهندية والمتحدثة الوحيدة باسمهم، وانقذ الشعب البنغالي من الاستغلال والتهميش والعنصرية التي كانت ترتكب على أيدي اخوتهم في الدين من ابناء الجناح الغربي.
وهكذا، فلا الهند تماثل إسرائيل ككيان غريب زرعته قوى الاستعمار في غير محيطه لتحقيق بعض أهدافها، فقام ضمن سياسته التوسعية باستقطاع أجزاء من أراضي جيرانه في حرب خاطفة، ولا كشمير تماثل الضفة الغربية أو الجولان المحتل كأراضٍ مغتصبة من دول مجاورة ويفرض عليها المحتل الغريب كل صنوف القهر والعدوان والابادة ويحرم شعبها من إدارة نفسه وشؤونه في مناخ ديموقراطي تعددي.
وتبقى قضية اعتراف الهند بإسرائيل في وقت مبكر، وهي القضية التي تثير حنق البعض وتجعلهم ينسون أشياء أخرى كثيرة في الملف أهم من الاعتراف. نعم، اعترفت الهند بإسرائيل في عام 1950 وأقامت معها روابط ديبلوماسية، تماماً كما فعلت دول إسلامية كتركيا وإيران كان يفترض ألا تقوم بذلك بسبب من قاسم الدين والجوار والتاريخ المشترك. إلا أن هذه الروابط ظلت ناقصة وباردة ومنحصرة في الشؤون القنصلية بصفة عامة. وحرصاً من الهند على روابطها الأزلية مع العرب وانطلاقاً من مبادئ سياستها الخارجية، لم تقم بأية خطوة للارتقاء بعلاقاتها مع إسرائيل إلا بعدما بدأ العرب أنفسهم بتدشين عملية التطبيع مع هذه الدولة الأخيرة. وحتى في هذا الجانب انتظرت الهند سنوات طويلة بعد كامب ديفيد ولم تتحرك رغم كل الضغوط الداخلية والخارجية في اتجاه إسرائيل - أو لم تسمح لإسرائيل بالتحرك في اتجاهها بتعبير أصح - إلا بعد الاتفاق على مؤتمر مدريد وبعدما تأكد لها أن أصحاب القضية الفلسطينية أنفسهم والمعنيين الأوائل بها قد بدأوا عملية التطبيع السياسي والتجاري والاقتصادي وتبادل الزيارات وفتح السفارات والمكاتب التمثيلية.
وبطبيعة الحال، فقد ثارت ثائرة الكثيرين من العرب ضد الهند لاتيانها هذا المحرم الذي سبقتها فيه منظمة التحرير الفلسطينية وحكومات عربية عدة وكأنما كان المطلوب من الهنود أن يكونوا عرباً أكثر من العرب أنفسهم.
ولعلني لا أضيف جديداً بالقول إن العلاقات الإسرائيلية - الهندية إن تطورت - مثلما صار يتردد في الأعوام الثلاثة الأخيرة - فإن اللوم يقع على العرب أنفسهم لا على الهند لتهميشهم عملية الارتقاء بروابطهم مع هذا البلد الكبير والمهم، في استراتيجياتهم الخارجية نتيجة حساسيتهم المفرطة من العامل الباكستاني، ولعدم مبادرتهم إلى تحصين هذه الروابط ضد دسائس أعدائهم المعروفة. على أنني لا أتوقع أن يدفع الهنود بعلاقاتهم مع إسرائيل إلى مستوى التحالف والشراكة الاستراتيجية كتلك التي بلغتها علاقات أنقرة بتل أبيب في الفترة الأخيرة لأسباب كثيرة لا مجال لشرحها هنا. وحتى لو صدقنا ما خرجت به علينا صحيفة "جيروزاليم بوست" أخيراً فإن فاجبايي وحزبه ليسا مطلقي اليدين في الأمر، كما وأن بقاءهما في السلطة طويلاً لتنفيذ هذه السياسة أمر مشكوك فيه.
ولعل من المفيد هنا أن نفتح ملف المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة طيلة العقود السابقة لاستمالة الهند إلى جانبها، أو على الأقل تحييدها في الصراع العربي - الإسرائيلي، لنتبين كم كانت هذه المحاولات مستعرة ومتواصلة ومصحوبة باغراءات وضغوط وتبريرات، وكم كانت ردود الهند سالبة إلى أن بدا لساسة نيودلهي مع مطلع عام 1992 أن أصحاب الحق العربي انفسهم يفعلون ما يحرمونه على الآخرين. وكي لا تأخذنا التفاصيل إلى الاستغراب والتطويل المملين، فإننا نكتفي باستعراض بعض المحطات السريعة في هذا الملف:
جاء أول اتصال ما بين إسرائيل والهند في أعقاب قيام الأولى كدولة وقبولها عضواً في الأمم المتحدة، وهما الحدثان اللذان صوتت الهند ضدهما في المنظمة الدولية. حيث طلبت تل أبيب من نيودلهي الاعتراف بها، إلا أن الأخيرة تهربت بحجة أن الوضع في فلسطين لا يزال غامضاً وان احتمالات استمرارية الدولة العبرية نفسها مشكوك فيها.
في عام 1950 اعترفت الحكومة الهندية بإسرائيل كأمر واقع بعدما اتضح أن الأخيرة نجحت في ترسيخ أقدامها على الأرض المغتصبة وفي إقامة مؤسساتها ونيل اعتراف الدول الكبرى. إلا أن حكومة المؤتمر بزعامة نهرو رفضت في الوقت نفسه أن تتبادل التمثيل الديبلوماسي معها، حرصاً على علاقاتها التاريخية مع الشعوب والحكومات العربية، ومراعاة لمشاعر مسلمي الهند. وبطبيعة الحال لم يعجب هذا الموقف تل أبيب وسارعت بشن حملة من أجل إقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع الدولة الهندية، مدعية أن تحقيق هذا المطلب سيساعد الهند على لعب دور الوسيط النزيه بينها وبين أعدائها العرب وترجمة ما تدعيه في سياستها الخارجية من حرص على السلام والتعاون. وكان مما قامت به في هذا الوقت المبكر ارسال مدير عام خارجيتها وولتر ايتان إلى نيودلهي في أوائل عام 1952 لاقناع نهرو، إلا أن الأخير ردّ بأنه سيبحث الأمر مع حكومته من دون أن يعطي وعداً قاطعاً بأي شيء.
في عام 1953 وكرد على المحاولات الإسرائيلية المكثفة للنيل من سياسات الهند الخارجية ووصفها بأنها عنصرية وتمييزية، سمحت نيودلهي لتل أبيب بإقامة قنصلية لها في بومباي، لكنها ربطت سماحها برفض إقامة قنصلية هندية موازية في إسرائيل. ونتيجة للضغوط الصهيونية عليه لتفسير هذا الموقف "الغريب"، قال نهرو في مؤتمر صحافي في عام 1958 إن الاعتراف بالدول الأخرى هو من أعمال السيادة التي "لا يمكن لأحد أن يناقشنا فيها" أما تبادل التمثيل الديبلوماسي فيعتمد على اعتبارات كثيرة تمليها المصلحة الوطنية، "ولا نعتقد ان هناك مصلحة للهند في أن تتبادل السفارات مع إسرائيل".
في بداية الخمسينات، حاول زعماء الماباي والهستدروت الاشتراكيون تأسيس روابط مع نظرائهم في آسيا. وتكللت مساعيهم بدعوتهم لحضور أول مؤتمر للأحزاب الاشتراكية الآسيوية الذي انعقد في رانغون في عام 1953. وفي هذا المؤتمر كان تركيز الإسرائيليين على استمالة الزعيمين الهندي والبورمي نهرو وأونو على اعتبار أنهما من الزعامات الآسيوية المؤثرة التي لا تدين بالإسلام وبالتالي يمكن كسب تعاطفهما ومن ثم تأييدهما لانخراط إسرائيل في حركة عدم الانحياز التي كان الحديث يدور حول انشائها وقتذاك كمهرب من حالة الحصار المفروضة حول كيانهم في آسيا وافريقيا بفضل جهود الدول العربية والإسلامية. إلا ان تجاوب نهرو كان سلبياً كالعادة، الأمر الذي اغضب الإسرائيليين ودفعهم إلى اتهام الهند صراحة بالازدواجية، مشيرين إلى أن الأخيرة لم تعترف رسمياً بحكومة الصين الشيوعية وعلى رغم ذلك تتعاون معها فيما تتهرب من التعاون مع الدولة اليهودية التي اعترفت بها رسمياً.
لتخفيف موجة الاستنكار والغضب العارم ضدها في أوساط الشعب الهندي وقيادته، بعد مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، ارسلت إسرائيل وزير خارجيتها موشيه شاريت إلى نيودلهي لاقناع الهند مجدداً بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة معها كمدخل لقيام الهند بدور الوسيط في الصراع العربي - الإسرائيلي. إلا أنها اصطدمت بموقف هندي أكثر صلابة خلاصته: إذا كان هناك أمل في الماضي بقيام مثل هذه العلاقات، فإنه بعد العدوان على مصر لا أمل نهائياً. وكان من نتائج هذا الموقف الهندي أن هاجم رئيس الحكومة الإسرائيلية ديفيد بن غوريون، نظيره الهندي نهرو علناً واصفاً اياه بالزعيم المخادع الذي يتمسك بالحياد فيما هو غير محايد البتة بين العرب وإسرائيل.
للخروج من القيود المفروضة عليها ولاضفاء طابع على مهامها ووضعها يتجاوز المتفق عليه، سعت القنصلية الإسرائيلية في بومباي في نيسان ابريل 1964 إلى إقامة حفلة استقبال لمناسبة اليوم الوطني الإسرائيلي في العاصمة الهندية، إلا أن الحكومة الهندية رفضت منحها ترخيصاً بذلك، معتبرة أن في مطلبها هذا تجاوزاً للوظائف المنوطة بها.
في أيار مايو 1966 حاولت تل أبيب أن تتقرب من نيودلهي عبر اهدائها مساعدات زراعية في صورة أطنان من الأسمدة. لكن الحكومة الهندية رفضت قبول هذه المساعدات وأعلنت ذلك علناً أمام البرلمان مبررة تصرفها بوجود اعتبارات سياسية وراء القرار.
في عام 1966 تعمد الرئيس الإسرائيلي زالمان شازار أن يتوقف في الهند ليلة واحدة وهو في طريقه إلى نيبال، عله يتمكن من مقابلة مسؤول هندي رفيع ويقنعه بكسر حال الجمود في علاقات البلدين. فكانت المفاجأة ان نيودلهي رفضت السماح له بمغادرة طائرته ولم تبعث بأي مسؤول رسمي لاستقباله، مكتفية بتزويد طائرته بالوقود. وفي إشارة أقوى على عدم ترحيبها بوجود شازار على أرضها، سمحت الحكومة الهندية لعدد من المتظاهرين العرب واليهود بالاقتراب من ساحة المطار للتنديد بالسياسات الإسرائيلية.
بعد اقصاء الهند من المشاركة في قمة الرباط الإسلامية عام 1969، اعتقدت إسرائيل أن الوقت قد صار ملائماً لاستثمار أجواء المرارة التي ولدها الموقفان العربي والإسلامي في أوساط الحكومة الهندية، فطلب وزير الخارجية الإسرائيلي أبا ايبان أن يجتمع بنظيره الهندي في نيويورك، واستجاب الأخير للطلب وعقد لقاء بينهما في الثالث من تشرين الأول اكتوبر 1969. إلا أن أبا ايبان خرج من الاجتماع صفر اليدين، رغم حديثه المطول عن فوائد إقامة علاقات وتعاون متينة ما بين بلاده والهند، وتشديده على مخاطر التحالف العربي - الباكستاني على كلا البلدين.
اثناء الحرب البنغالية، عام 1971، عاودت إسرائيل عملية الاصطياد في الماء العكر، فأرسلت مدير عام خارجيتها دوف شامروك إلى نيودلهي كي يبرهن للهند أنه في الوقت الذي يقف فيه سائر العرب إلى جانب باكستان وينددون بالحكومة الهندية لقيامها بنصرة الشعب البنغالي، فإن إسرائيل تتعاطف مع قضية هذا الشعب وتقف منه نفس الموقف الهندي، بل أنها بصدد ارسال مساعدات إنسانية عاجلة إلى كلكتا ودكا كدليل على ذلك. ولم ينس المبعوث الإسرائيلي ان يذكر الهنود مجدداً بأنه قد حان الوقت لكي يردوا على مواقف العرب المؤيدة لأعدائهم بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع تل أبيب. وجاء الرد على لسان وزير الخارجية الهندي ساواران سينغ أمام برلمان بلاده، حيث قال في معرض حديثه عن زيارة المسؤول الإسرائيلي إن مواقف العرب من الحرب البنغالية "لا يمكن أن تؤثر على مواقفنا من الحقوق العربية في فلسطين، لأنها مواقف تستند إلى مبادئ هندية ثابتة"، نافياً ما تردد عن قرب إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل كرد فعل.
غمرت السعادة ساسة إسرائيل في عام 1977 لخروج حزب المؤتمر الهندي لأول مرة من السلطة ومجيء حزب جاناتا بقيادة موراجي ديساي الذي كان يقف على الدوام معارضاً لتوجهات وسياسات حزب المؤتمر العربية والفلسطينية. وسرعان ما طار وزير الخارجية الإسرائيلي موشي دايان إلى نيودلهي في زيارة سرية كشف عنها النقاب لاحقاً، وهو يمني النفس بتحقيق انتصار كاسح على الديبلوماسية العربية، لكنه فوجئ بنظيره الهندي أتال بيهاتري فاجبايي رئيس الحكومة الهندية الحالية يخبره بأن سياسة الهند الشرق أوسطية سياسة تقليدية ثابتة لا تتغير بتغير الحكومات الهندية، وأن على إسرائيل أن تنسحب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967 وتوافق على إقامة الدولة الفلسطينية بزعامة منظمة التحرير.
وحينما جاء وقت الحديث عن انشاء علاقات ديبلوماسية كاملة، لم يتردد فاجبايي في مصارحة نظيره بأنه طالما لم يتحقق ذلك بُعيد الاعتراف الهندي بإسرائيل، فإنه من الصعب تحقيقه اليوم، مضيفاً أنه لو اتخذ قراراً في هذا الشأن أو أفصح عن الزيارة السرية للوزير الإسرائيلي فسوف يجد نفسه وحزبه غداً خارج السلطة. وقد انعكس احباط دايان وفشله في تعليقاته بعد ذلك حينما قال: "جئنا اليوم نطلب علاقات ديبلوماسية كاملة مع الهند كي يتاح لها لعب دور في عملية السلام بيينا وبين العرب فلم نلق تجاوباً، وعندما يتحقق السلام قريباً وتسعى الهند إلينا لإقامة مثل هذه العلاقات، لن نكون في حاجة إليها".
في عام 1982 أطلق القنصل الإسرائيلي العام في بومباي تصريحات تطالب الهند برفع مستوى التمثيل الديبلوماسي مع بلاده بدعوى أن هذا مطلب شعبي هندي تتجاهله الحكومة الهندية ارضاء للعرب، فما كان من الأخيرة إلا أن خفضت مستوى التمثيل أكثر بدلاً من رفعه، متهمة القنصل بتجاوز صلاحياته والتدخل في السياسة الخارجية الهندية. ولم يعد التمثيل الديبلوماسي الإسرائيلي إلى مستواه المنخفض السابق إلا في عام 1986 وبعدما انتهز اللوبي الصهيوني في نيويورك وجود رئيس الحكومة الهندية راجيف غاندي فيها لمفاتحته في الموضوع والضغط عليه.
عاودت إسرائيل بعد عودة السيدة أنديرا غاندي إلى السلطة في بلادها في عام 1980 محاولاتها المستميتة لإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع الهند، لكنها اصطدمت مرة أخرى برد هندي سلبي، بل وبقرار نيودلهي منح منظمة التحرير وضعاً ديبلوماسياً فوق أراضيها والسماح بفتح ممثلية لها ابتداء من العام 1984.
حاولت إسرائيل بعد ذلك فتح الأبواب الهندية الموصدة أمامها عن طريق الرياضة تمثلاً بما فعلته واشنطن مع بكين. وكانت الفرصة التي حاولت استثمارها هو لقاء الفريقين الهندي والإسرائيلي في ربع نهائي كأس ديفيس لكرة المضرب في تموز 1987. بيد أن الحكومة الهندية رفضت السماح لفريقها بالسفر إلى رامات هاشارون لحضور اللقاء المرتقب.
في عام 1988، زار راجيف غاندي واشنطن، فحرصت إسرائيل على أن تحرك اللوبي الصهيوني المؤيد لها في الولايات المتحدة للضغط مجدداً على الرجل للارتقاء بعلاقات بلاده بتل أبيب.
ولهذا الغرض اجتمع موريس ابراهام بغاندي ممثلاً لأربعين منظمة صهيونية أميركية، إلا أن الأخير تمسك بمواقف جده ووالدته من القضية العربية ولم يعد اليهود بشيء.
في أعقاب قرار منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1991 إدانة الهند لتصرفاتها في كشمير نزولاً عند رغبة باكستان، رأى الإسرائيليون عدم إضاعة هذه الفرصة لاقناع الهند بأنه من المطلوب والوضع هذا أن ترد نيودلهي بالتقرب منهم، إلا أن الهند فاجأتهم في هذه الأثناء بدعوة السيد ياسر عرفات لزيارتها زيارة رسمية. وقد قيل وقتذاك ان الهند تريد أن تأخذ موافقة الزعيم الفلسطيني أولاً قبل الإقدام على رفع مستوى علاقاتها بتل أبيب كي لا يُساء تفسير عملها عربياً. ويمكن القول إن عرفات اعطى الضوء الأخضر للهند ضمنياً حينما قال إن رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي وتبادل السفراء عمل من أعمال السيادة التي "لا يمكننا الاعتراض عليها".
في زيارته إلى الصين في كانون الثاني يناير 1992 التي اتفق فيها مع حكومته على تأسيس علاقات ديبلوماسية كاملة، كرر وزير الخارجية الإسرائيلي ديفيد ليفي ضرورة أن تقتفي نيودلهي أثر بكين كي تعوض ما فات، مضيفاً ان الهند بذلك لا تتفضل على إسرائيل وإنما تقوم بعمل يعكس مسؤولياتها ويثبت بعدها عن التمييز ويحقق لها فوائد كثيرة، ومؤكداً ان إسرائيل لن ترضى بشيء أقل من التمثيل الديبلوماسي الكامل على أرفع مستوى. فكان الرد الهندي هذه المرة أقل حدة ويعكس حجم المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية وعلى رأسها اندفاع العرب أنفسهم نحو إسرائيل، وجاء فيه أن الهند سوف تبت في المسائل التي أثارها ليفي في وقت قريب مناسب. وهكذا لم يكد شهر كانون الثاني يلفظ أنفاسه حتى كانت نيودلهي تحقق لتل أبيب حلماً راودها طيلة أربعة عقود. ففي التاسع والعشرين من هذا الشهر، وبعد أسبوع واحد من زيارة عرفات للهند، أعلنت الهند وإسرائيل عن رفع مستوى التمثيل بينهما إلى أعلى المراتب وتبادل السفراء.
وبعد، فإن هذه ليست دعوة إلى الانحياز إلى الهند على حساب الجارة الباكستانية المسلمة أو حججاً للتصفيق لتجاربها النووية الأخيرة على رغم ما فيها من مظاهر القدرة على اتخاذ القرار باستقلالية والاعتماد على النفس، بعيداً عن استجداء الآخر والتصدي لاستراتيجيات الهيمنة الأميركية على العالم، بقدر ما هي تذكير بمجموعة من الحقائق.
وإذا كان من واجبنا نحن العرب أن نقلق من هذا السلاح الهندي المدمر الذي سنكون من بين ضحاياه لو حصلت مواجهة هندية - باكستانية نووية بفعل وضع الخليج الجغرافي المحشور على أطراف شبه القارة الهندية، فإن الواجب يستدعي أيضاً عدم التصفيق والتحمس لقدرات باكستان النووية بالقدر نفسه، خصوصاً ان باكستان غير المستقرة منذ تأسيسها والمتأرجحة ما بين الديكتاتوريات العسكرية والأنظمة المدنية المهلهلة لم تتبلور فيها بعد أسس المجتمع المدني السلمي ولم تترسخ بها بعد مظاهر ديموقراطية وتعددية ثابتة تتيح لقرارات الحرب والسلام ان تأخذ دورتها كاملة ضمن المؤسسات الدستورية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.