لم تكن الكنيسة الكاثوليكية في حاجة الى الوقوف مع القضية الفلسطينية، والى التعاطف مع مآسي الشعب الفلسطيني حتى تعيش حال عداء وخصومة مع اليهودية. فالتناحر بين اصحاب هذين الدينين السماويين طفا على السطح دائماً، لأسباب عقائدية وتاريخية ولأسباب سياسية ليس تعامل الكنيسة الكاثوليكية مع يهود اسبانيا ايام محاكم التفتيش، اقلها. من هنا كان من الطبيعي الا يكون هناك اعتراف متبادل بين الدولة العبرية حين تأسست اواخر سنوات الاربعين على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وبين الفاتيكان. وكان الحديث عن مثل ذلك الاعتراف اقرب الى "التابو" خصوصاً ان اليهود اعتبروا مواقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية مواقف عدائية. ومع هذا ما ان حل يوم 29 كانون الاول ديسمبر من العام 1993، حتى وقع نائبا وزيري الخارجية في كل من الفاتيكان واسرائىل، المونسنيور كلاوديو تشيلي، ويوسي بيلين اتفاقاً ينص على اعتراف الكرسي الرسولي، اخيراً، بدولة اسرائىل. يذكر هنا للفاتيكان ان هذا الاعتراف لم يتم على رغم ان التفاوض في شأنه تواصل عقوداً من السنين، الا بعدما اعلن رئىس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، اعتراف الفلسطينيين بالقرار الرقم 242. لكن الغريب في هذا كله هو ان التقارب بين تل ابيب والفاتيكان، تم - وتجسد في ذلك الاعتراف المتبادل - في وقت كان الاسرائيليون يعانون من تصلب الكنيسة الكاثوليكية البولندية في موقفها من مطالبتهم باقفال دير الكرمليات الذي كانت الراهبات الكاثوليكيات في بولندا قد اقمنه على انقاض معسكر اوشفيتز الذي يعتبره اليهود رمزاً لمعاناتهم خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت الشكوى الاسرائيلية تمتد لتشمل مواقف البابا يوحنا - بولس الثاني البولندي الاصل والمعتبر الأب الروحي للكنيسة في بلاده، اذ ان اليهود - والاسرائىليين عامة - كانو يرون ان مواقف البابا شديدة الالتباس تجاههم. فإذا اضفنا الى ذلك ان البابا نفسه كان استقبل ياسر عرفات في الفاتيكان استقبالاً عاطفياً وصاخباً، وسط احتجاجات اسرائىل وقوى مؤيدة لها في اوروبا الغربية، يمكننا ان نفهم كيف ان الاوضاع كان من شأنها ان تتدهور بين الطرفين، بدلاً من ان تتحسن. وكان تحسن قد سبق ان تحقق بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود في نهاية سنوات الخمسين وبداية الستينات حين عمد الفاتيكان الى "تبرئة اليهود من دم المسيح"، وهو قرار كنسي اثار يومها لغطاً، لكنه ادى الى وضع حد لسجال فقهي طال مئات السنين وكان الذين وراءه يتهمون اليهود دائماً بخيانة السيد المسيح وتسليمه الى جلاديه الرومانيين. لكن الاحوال لم تتحسن الى حد يمكن اسرائىل من الحصول على اعتراف الفاتيكان، اذ ظلت هناك اوساط في مقر الكرسي الرسولي تفصل بين تبرئة اليهود من دم المسيح، والاعتراف بقيام دولة اسرائىل، ناهيك بأنه كان ثمة على الدوام اطراف مرتبطة بمسيحيي البلدان العربية وبالكنائس الشرقية يهمها الا يعتبر العرب والمسلمون اعتراف الفاتيكان باسرائىل استفزازاً لهم. وهكذا ظلت الامور على تلك الشاكلة وان كان ذلك لم يمنع تل ابيب من محاولة التقرب من الفاتيكان ومحاولة الضغط على البلدان الاوروبية اللاتينية لكي تضغط بدورها على الفاتيكان، لكن هذا بقي عند مواقفه، كان مسؤولو الخارجية الفاتيكانية يقولون دائماً ان اي اعتراف باسرائىل يرتبط بموقف الفلسطينيين منها. وهكذا ما ان اعترفت منظمة التحرير بالدولة العبرية عبر التوقيع على "اتفاق اوسلو"، حتى عبرت الكنيسة الكاثوليكية اخيراً "الخط الاحمر" وفاوضت تل ابيب طوال عام ونصف العام، حتى اسفر الامر عن ذلك الاعتراف الذي وقع في مثل هذا اليوم، وفيه - بين امور عدة - اكد الفاتيكان موقفه "المضاد لأي شكل من اشكال معاداة السامية"، وفي الوقت نفسه تعهدت اسرائىل باحترام وضعية الاراضي المقدسة وحرية الحج للمسيحيين والمسلمين جميعاً. ولقد فتح هذا الامر ابواب حوار متواصل، سياسي وديني ولاهوتي لم يتوقع حتى الآن، وان كان لم يمنع الفاتيكان من التعبير عن غضبه في كل مرة يعتدي فيها الصهاينة على الفلسطينيين الصورة: البابا يوحنا - بولس الثاني، اعتراف الفاتيكان بالدولة العبرية.