الوثيقة التي أصدرها الفاتيكان،تحت عنوان "لنتذكر: تأمل في المحرقة"، تمثل دون شك تحولاً تاريخياً بارزاً هو الاول من نوعه منذ نحو ألفي سنة، في علاقة المسيحية والكاثوليكية منها خاصة، باليهود. فالوثيقة استعادت، ودحضت جملة من التعاليم التي قامت عليها نظرة الكنيسة الى اليهود طوال قرون مديدة، ان على الصعيد اللاهوتي الرسمي، أو على صعيد المعتقدات والاقترافات الشعبية بحقهم، وهي النظرة التي سوغت ضروباً من الاقصاء والاضطهاد ما كان يردعها رادع من قانون أو أخلاق. وكل ذلك معلوم تاريخه، معروفة تفاصيله، بما يغني عن الاسهاب فيها. وأهمية الوثيقة الفاتيكانية الاخيرة انما تكمن في انها الاولى من نوعها، منذ خمسين سنة، اي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تتصدى الى ذلك الفصل المأسوي والمخزي في التاريخ الاوروبي الحديث، ذلك المتمثل في المحرقة. وهو الامر الذي طويلاً ما تلكأت الكنيسة وترددت في اتخاذ موقف واضح محدد منه، ما أثار الكثير من الريبة والشبهات حولها، مساهماً في استدامة تلك الأزمة المزمنة بين المسيحية واليهودية. وهي أزمة ساهم في تغذيتها امتناع الفاتيكان عن الاعتراف بدولة اسرائيل حتى توقيع هذه الاخيرة على اتفاقات اوسلو، والجدل الذي ثار قبل سنوات حول معتقل اوشفيتز عندما أرادت مجموعة من الراهبات الكرمليات اقامة دير لهن عليه، وهو ما استنكره يهود العالم على اعتبار انه كان محاولة لاحتواء الألم اليهودي، و"تنصيره"، والطعن، تبعاً لذلك، في فرادته. وللحقيقة، فالكنيسة لم تنتظر الوثيقة الاخيرة لتقول استنكارها لما لحق باليهود من أذى خلال الحرب الثانية، بل فعلت ذلك مراراً ومنذ أمد، وما كان لها إلا ان تفعل طالما ان الموقف من المحرقة يُعد واحداً من الاجماعات الاساسية التي تتأسس عليها منظومة القيم الحديثة، فيما جريمة كتلك لا يمكنها الا ان تصطدم بتلك الرؤية الانسانية التي ما فتئت المسيحية الكاثوليكية تزعم انها ترفع لواءها. كما ان موقف الكنيسة من اليهود ما انفك يتطور ايجابياً باتجاه المصالحة، خلال العقود الماضية، خصوصاً منذ فاتيكان - 2 أواسط الستينات، الذي كان فاتحة تحديث وانفتاح عموماً، وبداية حوار مع الديانة اليهودية تخصيصاً. ثم ان الكنيسة سبق لها ان اقدمت، قطاعياً ومحلياً، على مثل هذه الخطوة بشأن المحرقة، أسفاً وإقراراً بالذنب، سواء على صعيد الكنيسة الالمانية، أو على صعيد صنوتها الفرنسية قبل اشهر قليلة. وبما ان الكنيسة الكاثوليكية تنظيم، وان كان اممياً، إلا انه بالغ المركزية، فقد اعتُبرت كل تلك الخطوات المحلية بمثابة التمهيد لمبادرة، ستتخذ عاجلاً أم آجلاً، على مستوى حاضرة الفاتيكان ورأسها البابا يوحنا بولس الثاني. وهو توقع جاءت الوثيقة الفاتيكانية الأخيرة لتؤكده. وهكذا، واذا كان أمر ادانة المحرقة محسوماً، فان الجدل بقي قائماً حول تحديد مسؤولية الكنيسة في تلك الكارثة من ناحية، وحول المكانة التي يجب ايلاؤها الى المحرقة، وحول ما اذا كانت تحتل موقع الفرادة المطلقة، والتي لا تضاهى، في تاريخ الألم الانساني. والأمران شائكان الى أبعد الحدود. فان تقر الكنيسة بأية مسؤولية، وان جزئية، في فعل الابادة الذي لحق باليهود، امر في غاية الخطورة بالنسبة اليها، هي التي ترى نفسها حاملة بشارة موجهة الى البشرية جمعاء، وتجعل من المحبة ركناً أساسياً من أركان تعاليمها. هذا ناهيك عن ان ادانتها بمثل ذلك الضرب من التواطؤ مع النازيين والفاشيين، من شأنه ان يزج بها في ما هو ليس أقل من موقع الاجرام في حق الانسانية. اما الاقرار بفرادة المحرقة، فانه يطرح بدوره على الكنيسة الكاثوليكية تحدياً كبيراً، يطول اساس معتقداتها. فالمسيحية تقوم وتتأسس على تجربة ألم فريد، ومحنة في نظرها لا تضاهى، هما ما كابده السيد المسيح فداء البشرية. وإحلال اية تجربة من تجارب الألم الانساني الاخرى منزلة الفرادة من شأنه ان يمثل الغاء الركن الأساسي في المعتقدات المسيحية، أو على الاقل ضرباً من ضروب "الشرك". والنقطتان تمثلان هاجساً مشروعاً، بقطع النظر عن أي رأي في الكنيسة أو المحرقة. وهما لا شك حاضرتان بقوة في اعتبارات الكنيسة لدى اقبالها على موضوع المحرقة، وان تجنبت، في حدود ما نعلم، تقديم الامر وصياغته على هذا النحو وبهذا الوضوح. وقد تكون تلك الاعتبارات من بين العوامل التي قد تفسر كل ذلك البطء وكل ذلك التردد الذي ابدته الكنيسة، حيث استغرق منها اصدار الوثيقة بهذا الخصوص ما يزيد على النصف قرن، علماً بأن مثل هذه المدة قد تعد وجيزة في تاريخ كنيسة عمرها ألفا عام، وقد طلبت منها اعادة الاعتبار لغاليليو، مثلاً، ثلاثة قرون! وللسببين أعلاه، جاءت الوثيقة الفاتيكانية الأخيرة حول المحرقة خالية من الاعتراف الصريح بأية مسؤولية مباشرة، أو فاعلة وإن بشكل جزئي، في ما اقترفه النازيون بحق يهود اوروبا. وهي ان أقرت بالذنب، وتقدمت من اليهود بالاعتذار، طالبة منهم الصفح والغفران، فذلك ليس لأن الجهاز الكنسي، وبصفته الرسمية هذه، أو لأن المركزية الكاثوليكية، في حد ذاتها، قد ضلعت في تلك الجريمة، بل لأن بعضاً من أبناء الكنيسة من رجال الدين أو من المدنيين، قد تورط في تلك الاعمال. واذا كان الفاتيكان قد أقر بذلك والتمس الغفران، فليس من باب مسؤوليته المباشرة عن ذلك، بل من باب المسؤولية المعنوية للكنيسة وهي الجسد الجامع للمسيحيين، على ما يفعله هؤلاء، سلباً كان ام ايجاباً، خيراً كان ام شراً. بل ان الكنيسة ذهبت ابعد من ذلك قليلا، مقرة بأن العداء التقليدي لليهود، كشعب متهم بقتل السيد المسيح، وهو العداء الذي غذته الكاثوليكية الرسمية على مر القرون والأجيال، كان من بين العوامل التي زينت للبعض، وسوغت له، ارتكاب ما ارتكبه ابان الحرب العالمية الثانية. اما في ما عدا ذلك فقد ذكّرت الوثيقة الفاتيكانية، وأسهبت، بمواقف عدد من رجال الكنيسة، في المانيا وفرنسا وسواهما، ممن اعترضوا على السياسة العنصرية النازية، وجهروا باعتراضهم ذلك، وممن لم يترددوا في المخاطرة من اجل حماية اليهود أو انقاذهم. وحتى البابا بيوس الثاني عشر، ذلك الذي كان على رأس الكنيسة ابان الحرب العالمية الثانية، والذي توجه اليه تهم التواطؤ، وان بالصمت، حيال ما كان يجري، والذي يطالب العديدون الفاتيكان بفتح الأرشيف المتعلق بعهده من اجل الوقوف على حقيقة موقفه، فحاولت الوثيقة الفاتيكانية ان تبرئ ساحته، مشيرة الى انه ما كان راضياً عن وجهة الاحداث، وانه كان يردد ان المسيحية لا يمكنها ان تعادي السامية، "فنحن ساميون روحياً". وهذا من بين الحجج الرئيسية التي قامت عليها الوثيقة الفاتيكانية. فهذه الاخيرة أقامت تمييزاً واضحاً بين المعاداة المسيحية التقليدية لليهودية، وبين معاداة السامية، قائلة انه اذا ما كانت الأولى تعود الى مقدمات لاهوتية معلومة ضاربة في القدم، فان الثانية تعود الى عوامل جاءت بها الحداثة، من العبادة الوثنية التي احاطت بالدول الامم، الى بعض الملابسات الاخرى، الايديولوجية والسوسيولوجية والاقتصادية، وهذه هي التي كانت القوة الدافعة وراء عملية الابادة، وان امكن لهذه الاخيرة ان تتغذى من ذلك الارث التقليدي في معاداة اليهودية. أي ان الكنيسة قد رفضت الاقرار بوجود علاقة سببية بين المعاداة التقليدية لليهودية، وبين معاداة السامية، بوصفها من بين ما انتجته بعض ايديولوجيات الحداثة. وذلك ما جعل البعض، خصوصاً من اليهود، يقابل الوثيقة الفاتيكانية الاخيرة بالانتقاد، قائلا انها كانت دون ما كان متوقعا، أو مأمولا منها. وهو انتقاد، وان كان يحمل بعض الوجاهة، الا انه قد لا يخلو، من وجه آخر، من اجحاف. فالوثيقة على علاتها، مثلت اعادة نظر، والغاء لتراث مسيحي من العداء التقليدي لليهودية طويل ومديد. وحتى لو كانت مثل تلك الافكار قد اصبحت لاغية الى حد بعيد في الواقع، يبقى لتلك الوثيقة الفاتيكانية مزية الاجهاز النهائي عليها بشكل رسمي، تسنده أعلى سلطات الكنسية. وذلك ما لا يستهان به. اذ هو يمثل اعترافاً باليهود من قبل اكبر قوة ناصبتهم العداء في التاريخ. وهو ما يُعدّ خطوة اساسية في احلالهم شعباً عادياً بين شعوب الأرض. ويبقى ان يعي اولئك حجم مثل هذه التطورات وأهميتها فيؤبوا الى شيء من الاطمئنان في علاقتهم بالعالم الخارجي، ويستجيبوا برغبة مماثلة للانخطراط تلك العادية. بعض من اليهود كثير، خصوصاً في ذلك الاغلبية الحاكمة حاليا في اسرائيل، ما يزال ابعد ما يكون عن ذلك فهو ما يزال ينظر الى العالم، والى الجوار، من باب ميزان القوى العسكرية البحت، وما يزال ينظر الى كل من يذكّره بالقانون الدولي، كعدو يعد لمحرقة جديدة أو يكاد. والحادثة المزرية التي تعرض لها وزير خارجية بريطانيا، روبن كوك، لدى زيارته الاخيرة الى اسرائيل، عندما ألغى بنيامين نتانياهو بفظاظة، مأدبة عشاء كان سيقيمها على شرفه، لمجرد كون الضيف المذكور قد زار حي جبل أبو غنيم، تقدم آخر الادلة على هذه العقلية. وهي لن تكون، مع الاسف، الدليل الأخير.