حين يتسلم الرئيس الاميركي المنتخب جورج بوش الحكم في 20 كانون الثاني يناير المقبل، عليه ان يواجه واقعاً فرضته طبيعة انتخابات عام 2000 ونتائجها التي نجم عنها انقسام يعد سابقة في الولاياتالمتحدة طاول كل مؤسسات الدولة الفيديرالية. واضافة الى الانقسام في مجلسي النواب والشيوخ، هناك المرارة لدى الديموقراطيين لشعورهم بأن الحزب الجمهوري "سلب" منهم البيت الابيض نتيجة قرار المحكمة الفيديرالية، وليس من خلال اللعبة الانتخابية. هذا الواقع سيفرض على الإدارة الجديدة أن تخوض معركة مع الحزب الديموقراطي على معظم القضايا التي وعد بوش بحلول لها أثناء الحملة الانتخابية، وتعتبر من أولويات برنامج الحزب الجمهوري، الذي عليه ان يخوض انتخابات الكونغرس عام 2002 في ضوء ما يحققه في السنتين المقبلتين، اللتين يتمتع خلالهما بالسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ ولو بفارق بسيط. وهناك من يتوقع مواجهات بين الادارة والديموقراطيين في الكونغرس، حول معظم الأمور الداخلية بدءاً بمشروع خفض الضرائب وصولاً الى مشاريع الاصلاحات في قطاعات التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. ويترك هذا الواقع موضوع السياسة الخارجية للولايات المتحدة كشأن وحيد لن يشهد خلافات جذرية، لأنه يرتبط بالمصالح القومية، ولا يخضع لتغييرات اساسية في الاهداف، مع تغيير الإدارة والأشخاص. والمتابع لحملة انتخابات عام ألفين والمؤتمرات الحزبية، لا يجد اختلافات كبيرة بين الحزبين في شأن تحديد السياسة الخارجية، الا لجهة طريقة التطبيق وأسلوب التعاطي مع القضايا الاساسية. فأثناء المناظرات التلفزيونية بين المرشحين الديموقراطي والجمهوري، كان معظم انتقادات بوش للادارة الديموقراطية معنوياً لا يتحدث عن تغيير في السياسة، بل يدعو الى اعادة الاعتبار لهيبة الولاياتالمتحدة من خلال تعزيز قدراتها العسكرية، واتباع سياسة تخدم فقط مصالحها "الحيوية" ولا تسعى الى "مشاريع بناء الامم". وهذا يعني استمرارية في الديبلوماسية الحالية حيال الملفات الاساسية، وتعديلها في مناطق لم يعد بالامكان فيها التمسك بالأسلوب ذاته نتيجة التغيرات. فبالنسبة الى منطقة الشرق الأوسط سترث الادارة الجديدة عملية سلام متعثرة أو غير مكتملة، وموضوع الحصار على العراق وملف الارهاب والقلق من ارتفاع اسعار النفط. مآزق اسرائيل لن تستطيع الادارة الجديدة ان تدير ظهرها لملف الصراع العربي - الاسرائيلي، لما لذلك من انعكاسات خطرة على دور الولاياتالمتحدة في المنطقة، بالإضافة الى نفوذ اللوبي الصهيوني في الكونغرس وقدرته على اقحام الادارة، ديموقراطية كانت أم جمهورية، في انقاذ اسرائيل من المآزق، واستعمال نفوذ اميركا لخدمة مصالحها. مع ذلك يتوقع ان يبرز اسلوب متطور للسياسة الاميركية في هذا الملف، وتغير ولو ظاهري في لهجة المسؤولين الاميركيين يهدف الى استعادة صدقية الولاياتالمتحدة لدى الطرف العربي، في شكل يسمح لواشنطن بالظهور بمظهر الراعي النزيه لعملية السلام. هذا الدور، وخلال ثماني سنوات من عهد الرئيس بيل كلينتون تضررت صدقيته نتيجة انحياز فريق السلام الاميركي انحيازاً كاملاً الى اسرائيل، وفشله في امتحان النزاهة، في كل مرة واجهت عملية السلام مع أي طرف عربي نكسة أو تراجعاً. ويصعب تخيّل ان يلعب الرئيس الاميركي الجديد دور كلينتون، ويتابع العملية السلمية بكل تفاصيلها لأسباب ابرزها: أولاً فقدان بوش الخبرة الكافية في السياسة الخارجية، وثانياً تعيينه وزيراً للخارجية كولن باول الذي يتمتع باحترام الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ما يرشحه ليكون اللاعب الأساسي في تطبيق السياسة الخارجية والتعبير عن أهدافها. تصدع الحصار ستواجه الإدارة الجديدة في أيامها الأولى تصدع الحصار على العراق، وصعوبة اقناع المجتمع الدولي بالالتزام بتطبيق الحظر وتلبية رغبات واشنطن. وتقول مصادر اميركية ان خيارات واشنطن في هذا الملف محدودة، ما يستدعي ان تأخذ في الاعتبار الواقع العربي والدولي والتعاطي معه بطريقة واقعية. وتتوقع هذه المصادر ان تشهد الفترة الأولى من عهد ادارة بوش تصعيداً كلامياً ولهجة قاسية تجاه العراق، قد تبدأ بالسعي الى محاكمة الرئيس صدام حسين بجرائم الحرب، والبحث في امكان اطاحة نظامه. ولكن، تضيف المصادر، سرعان ما سيتحول هذا التصعيد الى "صفقة" مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ينجم عنها تعريف جديد للحصار يركز على احتواء صدام وردعه عن اقتناء أسلحة دمار شامل، وتضييق الحصار عليه في هذا المجال، بالإضافة الى العمل لتحصين الحلف المعادي لبغداد من خلال تقديم سياسة واضحة المعالم والأسلوب. وقد يستتبع ذلك جهوداً اميركية تحيي تكتيكات قديمة وحوافز تقليدية لدول المنطقة. ويرجح ان تلتفت الادارة الجديدة الى سورية لضمان احترامها الحظر على العراق، والتزام قرارات مجلس الأمن من خلال احياء المسار السوري - الاسرائيلي، والتغاضي عن الوجود السوري في لبنان، وهو الأسلوب ذاته الذي اتبع عام 1990 وضمن مشاركة سورية في حرب تحرير الكويت. أما التقارب مع ايران الذي بدأ أواخر عهد كلينتون، فمن المنطقي ان يستمر لأسباب تتعلق بملف العراق، اضافة الى الضغوط التي تتعرض لها الادارة من شركات النفط لتطبيع العلاقات مع طهران. وسيكون لافتاً الدور الذي سيلعبه نائب الرئيس ريتشارد تشيني في هذا المجال، الذي كان يرأس شركة نفطية ضخمة. الارهاب وهناك اتجاه جديد في التعاطي مع الدول التي تعتبرها الولاياتالمتحدة "مساندة للارهاب" بدأ يتبلور أخيراً، والمرشح الاستمرار في اتباعه، وجوهره اعطاء "حوافز" لهذه الدول للابتعاد عن سياستها "الارهابية"، والانفتاح عليها كلما خطت خطوات ايجابية، ويندرج في هذا المجال امكان تطوير العلاقات مع ليبيا وايران والسودان. وبعيداً عن الشرق الأوسط، اعتمد هذا الاسلوب مع كوريا الشمالية وكوبا، المرشحة لتخفيف العقوبات الاميركية عليها بعد ان تتخلص الادارة من تشدد رئيس لجنة العلاقات الخارجية جيسي هيلمز مع هافانا. لكن التحدي الأكبر للادارة الجديدة على المستوى العالمي يبقى الحفاظ على دور اميركا بوصفها الدولة العظمى الوحيدة، وكيفية استيعاب العودة البطيئة لروسيا الى الساحة الدولية والاستمرار في تطبيع العلاقات مع الصين تجارياً، في ظل رفض بكين الاستماع لانتقادات واشنطن الخاصة بسجلها في حقوق الانسان، وتصدير الأسلحة الى دول لا تقع في الفلك الاميركي. وتبقى ايضاً علاقات "الصداقة اللدودة" مع الدول الأوروبية الغربية التي بدأت تعبر عن تململها من عدم اكتراث الولاياتالمتحدة لمصالحها، وهذه تتعارض مع السياسة الاميركية في أكثر من منطقة في العالم. وهناك من يخشى ان يكون لافتقار باول الخبرة في شؤون السياسة الخارجية وعدم شهرته كمفكر استراتيجي، تأثير سلبي على تعاطي الولاياتالمتحدة مع هذه الملفات. وفي كل الاحوال، واضح ان تلك السياسة في عهد ادارة بوش ستكون امتداداً لسياسة ادارة كلينتون وتجديداً لسياسات قديمة، ولكن بأساليب ضغط جديدة، وبلهجة تحتمها طبيعة المرحلة. ويبقى استثمار التفوق العسكري و"الحوافز" أو العقوبات الاقتصادية بين الأساليب المفضلة لواشنطن لدعم سياستها، ولا يوجد أي مؤشر يفيد ان بوش سيعدّل هذه الأساليب التي كانت مفضلة لدى الادارات الجمهورية السابقة.