كي يكون في وسع القيادات والشعوب العربية والمسلمة الاستفادة من زخم النبرة الجديدة في العلاقة الأميركية - الإسرائيلية، لا بد من التمعن في عمق ومعنى المسافة التي قطعها الرئيس باراك أوباما في رسم اطار جديد لهذه العلاقة وفي تسويق هذا الاطار أمام الرأي العام الأميركي. ولكي تنجح جهود أوباما التي تتمتع بدعم غير مسبوق من كبار شخصيات الكونغرس الأميركي ومن قيادات يهودية ذات أهمية، من الضروري للعرب والمسلمين التوقف عن أنماط «المطالبة» للتفكير استراتيجياً في كيفية تقديم «المساعدة» حتى وإن قامت اسرائيل بإفشال جهوده. فليكن إفشال الرئيس الأميركي اسرائيلياً وليس عربياً. وليكن الانجاح انجازاً عربياً تكن له الولاياتالمتحدة كل التقدير. انما بالقدر نفسه من الأهمية، يجب على الشعوب العربية وقياداتها أن تتذكر أن إثمار جهود السلام هو في مصلحة الأجيال الشابة في منطقة الشرق الأوسط. يجب عليها أن تجعل من الانتصار في معركة صنع السلام نصراً عربياً نظراً لأن اسرائيل هي التي تقاوم السلام وهي التي انزلقت في عقلية الحصار لفترة 42 سنة منذ أن احتلت الأراضي العربية عام 1967 وتربت أجيال عربية عديدة على تسميته «هزيمة» 5 حزيران (يونيو) في اشارة الى الهزيمة العربية. من المصلحة العربية ومصلحة المسلمين في العالم التفكير من منطلق بناء الشراكات مع الولاياتالمتحدة والرئيس باراك أوباما بدلاً من الاستنقاع في ثقافة «التخوين» ورمي المسؤولية دوماً على الآخرين. فالعرب والمسلمون ليسوا دائماً «الضحية» على رغم أنهم هم ايضاً ضحية التطرف والأعمال الارهابية التي يقوم بها عرب ومسلمون ليس ضد الولاياتالمتحدة والغرب فحسب وانما أيضاً ضد مسلمين، كما يحدث في افغانستانوباكستان مثلاً. فلتكن مبادرة باراك أوباما المؤلفة من فصل تلو الآخر نحو مسلمي العالم والدول العربية حافزاً لفكر ورؤيوية وذهن منفتح على التفكير بتجددية واستراتيجية تنقل تقويم النفس من زاوية «النكبة» و «الهزيمة» الى التفكير بالذات من منطلق الثقة بالنفس والقدرة على التأثير والتغيير. ما قام به باراك أوباما قبل مغادرته الولاياتالمتحدة متوجهاً الى المملكة العربية السعودية ثم مصر لإلقاء خطابه مهم للغاية. فلقد عرض المسألة الفلسطينية - الاسرائيلية من منطلق المصلحة الوطنية الأميركية أمام الرأي العام الأميركي. عرض أمامه بكل بساطة أمراً بديهياً مثل مطالبة اسرائيل تجميد الاستيطان (وهو غير شرعي أساساً يتناقض مع التزامات خريطة الطريق الى قيام الدولتين التي أقرتها الأسرة الدولية بالاجماع في قرارات مجلس الأمن) وترك للرأي العام الأميركي أن يطلع بنفسه على ردود الفعل الاسرائيلية الرافضة وقف الاستيطان. تحدث بكل عزم لمحطة اذاعية اميركية NPR مخاطباً عبرها الشعب الأميركي ليقول له إنه لن يتراجع عن المطالبة بتجميد الاستيطان وعن الدفع الى الأمام بحل الدولتين - فلسطين بجانب اسرائيل - لأن صنع السلام على أساس هذا الحل ضروري ويدخل في اطار المصلحة القومية للولايات المتحدة والأمن القومي الأميركي. أوباما لم يلعب لعبة «اللوم» كما سبق وفعل قبله كل من سلفه الديموقراطي بيل كلينتون عندما وجه اللوم الى الرئيس الراحل ياسر عرفات، أو كما فعل الرئيس الجمهوري جورج بوش الذي «اشترى» المقولة الاسرائيلية بأن الموضوع الفلسطيني يقع تحت عنوان «الارهاب» وأن لا شريك فلسطيني لاسرائيل في المفاوضات. فعل العكس تماماً. طرح ما لديه ولم يرفع اصبع اتهام أو اصبع لوم. ردود الفعل الاسرائيلية هي التي تحدثت عن نفسها وأوضحت أن الشريك المفقود لصنع السلام هو اسرائيل في الواقع، وأن الطرف الرافض للعمل على أساس مقتضيات صنع السلام وتنفيذ الالتزامات هو اسرائيل. ترك أوباما الأمور تتحدث عن نفسها فتوضحت الصورة في ذهن الرأي العام الأميركي والدولي. نسّق مع قيادات يهودية في الكونغرس وخارجه كي لا يبدو أنه يمد يداً دافئة الى المسلمين والعرب وأخرى باردة الى اسرائيل. خاطب المسؤولين في حكومة بنيامين نتانياهو بلغة الجدية والصرامة فيما أوضح أقطاب ادارته الى أقطاب الحكومة الاسرائيلية أن هذه الادارة ستتحدث بلغة العقوبات إذا استمرت اسرائيل في خروقاتها وإضاعة فرصة السلام. هذه اللغة الجديدة تناولت امكانية عزل اسرائيل من دون إسراع الولاياتالمتحدة الى حمايتها كما جرت العادة. تضمنت ابلاغ المسؤولين الاسرائيليين أن هذه الادارة لن تحمي اسرائيل من الادانة في الأممالمتحدة إذا استمرت في خروقاتها. فالفيتو المعهود ضد أي ضغوط عليها مهما فعلت مسالة مر عليها الزمن. وإذا لم يكن ذلك كافياً وثابرت اسرائيل على ضرب الجهود الاميركية بعرض الحائط. لمحت ادارة أوباما الى واقع جديد آخر يجب أن تأخذه اسرائيل بجدية، وهو، الاستعداد للنظر في وقف تدفق أموال الضرائب الاميركية اليها فيما تهدد السياسات الاسرائيلية الأمن القومي الأميركي. كل هذا جديد في العلاقة الاميركية - الاسرائيلية وهذا الجديد يجب أن يبقى مسألة اميركية - اسرائيلية فلا حاجة للعرب والمسلمين أن يتدخلوا في هذه العلاقة بشكل أو بآخر. الأجدى بهم أن ينصرفوا الى صنع شراكات ايجابية متعددة مع الولاياتالمتحدة الأميركية بموازاة من دون تقاطع مع ما يجد على العلاقة الاميركية - الاسرائيلية. ومن هذا المنطلق، لربما من المفيد التجاوب مع مطالب قد يتقدم بها الرئيس الاميركي أو التقدم ببدائل عنها إذا كانت مرفوضة جوهرياً - كي لا تتحول أنظار اللوم الى الأطراف العربية. لتبق الأنظار مركزة على اسرائيل وتعطيها للجهود السلمية وربما إفشالها الرئيس الاميركي. لا حاجة بالعرب أن يشعروا بأن الإفشال واجب عليهم. فليكن الإفشال اسرائيلياً وليحاسب الطرف الاسرائيلي بدلاً من انقاذه بأدوات ومهاترات ومزايدات عربية. عند كتابة هذه السطور، قبل أن يلقي أوباما خطابه المتنظر في القاهرة، كان واضحاً أنه اعتزم أن تكون علاقته بالعالم الاسلامي مبنية على الاحترام والمصالح المتبادلة. بأحدايث صريحة تتناول مواقع وأسباب التوتر بين العالمين الأميركي والاسلامي، وبهدف توظيف فرص شراكات مستقبلية في أكثر من ميدان ومكان. والصراحة تقتضي منه التحدث عن «التطرف العنفي» والشراكة الضرورية مع القاعدة الشعبية عربيا واسلاميا لإلحاق الهزيمة بالتطرف العنيف وهو التعبير البديل عن الإرهاب. وفي هذا الاطار تقع افغانستانوباكستان في أعلى قائمة أولويات ادارة أوباما. لذلك، عندما توجه الرئيس الأميركي الى المملكة العربية السعودية تحدث مع العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن عملية السلام للشرق الأوسط وايران والنفط وخطابه، لكنه تحدث ايضاً عن الشراكة الضرورية بين الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية في باكستانوافغانستان. وما زيارة المبعوث الخاص لباكستان وأفغانستان، ريتشارد هولبروك إلى السعودية سوى ابراز للاهتمام البالغ الذي توليه إدارة أوباما للشراكة السعودية في هذه البقعة الفائقة الأهمية. وإيران، بالتأكيد، تبرز في سلم أولويات باراك أوباما، إنما من منطلق الانخراط والسعي لاقناعها بالتجاوب مع اليد الممدودة إليها بدفء، فإذا ردّت بيد باردة أو بذراع التفاف، لن يتساهل الرئيس الأميركي وينزوي ويقبع في ظل براعة حنكة ملالي طهران. سيأخذ الخطوة التالية في تشديد العقوبات بشراسة غير تلك المتاحة في مجلس الأمن الدولي حيث «الفيتو» الروسية تعطّل عملياً أي ضغوط على إيران، ثم يرى. فالانتخابات في إيران تهم الإدارة الأميركية، لأنها تود أن تسفر عن رئيس يتحدث بلغة التفاهم والانخراط بدلاً من رئيس يتحدث لغة التعنت والمكابرة والمغالاة. هذا لا يعني أن إدارة أوباما ساذجة في تقويمها لمراكز القوى الحقيقية داخل إيران. إنها تريد استهلاك كل خيار غير عسكري للاقناع، وهي تؤمن أن أسلوبها سيكون مجدياً. هذا الأسلوب تستعمله إدارة أوباما مع سورية حيث تضع على الطاولة الترغيب بسلام مع إسرائيل وانسحاب من الجولان وعلاقة مميزة مع الولاياتالمتحدة، إنما شرط أن تبقى على الطاولة في الوقت ذاته التوقف عن استخدام الحدود مع العراق للسماح بتسلل المقاتلين إليه، والتوقف عن لعب ورقة التنظيمات والفصائل الفلسطينية للتأثير في ملف فلسطين وفي مستقبل لبنان والتوقف عن التدخل في الشأن اللبناني. ومن يفك أو يربط أيا من هذه العناصر يبقى موضع أخذ وعطاء، إنما واضح ان إدارة أوباما استيقظت إلى أهمية لبنان في سياستها الاقليمية لأنه انعكاس مباشر على ما تحاول القيام به مع سورية وإيران. ومن هنا، تنظر إدارة أوباما إلى الانتخابات اللبنانية بجدية وتعي أهمية احتفاظ الأغلبية البرلمانية الحالية بالحكم لأن فوز كتلة «حزب الله» بالاكثرية البرلمانية يشكل انتصاراً لإيران وهزيمة للولايات المتحدة. إنما إدارة أوباما أتت إلى الاهتمام بالملف اللبناني لربما متأخرة وبدأت تدرك أخطار استخدام إسرائيل لحكومة «حزب الله» في لبنان كذريعة لتصعيد عسكري لضرب صواريخ «حزب الله» والحؤول دون تحول لبنان رسمياً إلى قاعدة عسكرية إيرانية. فهذه الذريعة تساعد بنيامين نتانياهو وحكومته من التملص من استحقاقات السلام ومن الضغوط الأميركية واحتمالات العزل والقصاص. مثالياً، يجب على الرئيس الأميركي أن يفرض على إسرائيل السلام على أساس انهاء الاحتلال وأن يفرض على إيران رفع اياديها عن لبنان وسحب سلاحها منه، إذا كان يريد حقاً تجنيب هذا البلد حروباً عليه وعبره وأن يجنّب الولاياتالمتحدة ضربات اضافية لأمنها القومي ولنفوذها في الشرق الأوسط وهيبتنها العالمية. عملياً، ما تعمل عليه إدارة باراك أوباما هو اسلوب التراكمية بحيث تعرض «سلة» اجراءات بناء ثقة على مختلف الأصعدة بهدف تراكم الزخم إلى تفعيل مسارات المفاوضات الفلسطينية واللبنانية والسورية مع إسرائيل. فالهدف ليس التوقف عند تجميد الاستيطان وإنما استئناف المفاوضات على اساس المرجعيات المتفق عليها إنما عبر ميكانيزم مختلف يتحمل بصمات باراك أوباما.