هل تنتصر القوة العسكرية في دول متخلفة مدنيا؟ "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" هذا الأثر ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من غزوه تبوك، وهو أثر غير صحيح عند علماء الحديث، ولكن لعله عند علماء الاجتماع صحيح، بل لعله يبلور مبدأ في علم الاجتماع السياسي. فالجهاد المدني هو أساس الجهاد العسكري، لأن الحفاظ على بنيان الحصن من الداخل، يسبق الحفاظ على السور من الخارج، فالمدينة تبنى قبل الأسوار. فرط أجدادنا منذ بضعة قرون، عندما غفلوا عن أهمية دور المجتمع المدني، في تشكيل القوة، فدفعوا أثماناً مضاعفة، من خراب العمران، ولم تتجرأ الدول عليهم بالعدوان، إلا عندما افتقدوا عناصر بناء القوة الاجتماعية، كالانسجام والحيوية والنظام. عندما عاشوا كالقطيع، الذي يسير من دون عقل ولا تمييز، فصاروا ك"غثاء السيل". وأهم أشكال الجهاد التي تشتد حاجة العرب اليوم، هي بناء المجتمع المدني، فهو باب عظيم من أبواب الجهاد، يأتي التعبير عنه في الكتاب والسنّة، بعبارات شتى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، والاحتساب وإغاثة الملهوف، ونصرة الضعيف والتعاون على البر والتسامح والتراحم، والإيثار والتضحية، وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وإتقان العمل والجد والمثابرة، وحفظ الوقت والوفاء بالوعد، واحترام النظام والتزام الجماعة، ونحو ذلك من النصوص التي تبني معايير المجتمع المدني في الإسلام. فلن تنتصر أمة من دون سيادة الحق والقانون والعدل، ولن تنتصر أمة من دون روح إنسانية عالية، ولن تنتصر أمة لا تقاوم الاستبداد، بصفته أم الجراثيم التي تقتل المناعة في الشعوب، فرأس الأسرة والمعلم ورأس العمل والإدارة والدولة، متى كان مستبداً غير شوري، قال "إن أريكم إلا ما أرى" أي إنني مخلص "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أي أنني ملهم، فوكله الله إلى نفسه فهلك وأهلك. ولن تنتصر الأمة من دون إعادة الاعتبار لفكرة الجهاد السلمي، التي كادت أن تغيب من معاييرنا وقيمنا الاجتماعية، فإنكار المنكر المضمون الجدوى، ينحصر دور الأفراد والجماعات فيه بالوسائل السلمية، التي لا تقفز فوق قوانين الاجتماع الإنساني. ولن ننتصر قبل محاربة الترف والروح الاستهلاكية، ولا سيما الاستهلاك الافتخاري، لأن النزعة الاستهلاكية والاستهلاك الافتخاري" سيستنزف ما للأمة من قوى اقتصادية، ويزرع الترهل والخمول والرخاوة والبلادة في أخلاقها. والجهاد المدني أنواع شتى، تشمل كل مجهود فكري أو عملي، يعمل على رقي الأمة، فيجتث قيم التخلف، كالجبرية والنكوص، والأنانية واللامبالاة، وإضاعة المال والوقت، والتلقينية والعبودية، ويغرس قيم التقدم في نفوس الأمة، كبث الأمل الفعال لا الأحلام وحيوية الأفكار، ومطاردة هواجس التشاؤم تشاؤم الأوهام لا تشاؤم الإحصاء والأرقام، ومحاربة النزعات العدمية. فالتغيير الثقافي، يسبق التغيير الاجتماعي، لأن التصورات الثقافية، إذا كانت حيوية عملية فعالة، تتحول إلى قيم وأعراف وتقاليد، فتنتقل من عالم التصورات، إلى عالم التصرفات. ومن أنواع الجهاد تجديد الفكر الديني، وهو ذو أولية مطلقة، أي لا بد من تقديم الإسلام مشروعاً حضارياً، بنشر قيم التقدم والنهوض، كتنشيط دور المرأة وحرية الرأي والتعبير، والانخراط الفكري أو العملي، في مجال حقوق الإنسان، وما يتصل بها من روح المبادرة والإيجابية، وإرادة التفوق والنجاح، وحفظ الجهد والوقت، والعدالة والشورى، وإذكاء التفاعل الاجتماعي. ونزع بذور الروح الشقاقية الخلافية والأنانية، التي خلخلت الفاعلية الاجتماعية. الجهاد الفكري يبدأ بتغيير المفاهيم، وإشاعة الحيوية فيها، وبث روح العزيمة والإرادة، وتوجيه البوصلة نحو عقلانية الأداء. والجهاد المدني هو أساس الحفاظ على البنيان الداخلي، فما سقط السور الخارجي، لأمة من الأمم إلا بعد انهيار المبنى الداخلي. والإسلام وضع لذلك مبدأً عظيماً، مبدأً يقرر أن الكلمة أقوى من الرصاصة، فجاء في الحديث الصحيح: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله" وجاء أيضاً "خير الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر". وهكذا أسس الإسلام فكرة الجهاد السلمي المدني، لأن الجهاد السلمي المدني، هو الأسلوب المضمون للإصلاح الاجتماعي والسياسي، ووضع هذا الإصلاح، في مرتبة خير الجهاد، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن رواده في مرتبة خير المجاهدين، ووضع نماذج هابيل، في مراتب حمزة خير الشهداء. ومن هنا تكتسب ثقافة الإصلاح الاجتماعي، أو الجهاد المدني أو بناء المجتمع المدني" مشروعيتها في الإسلام، باعتبارها أصلا من أصول الدين، وأساس ذلك كله" هو قول كلمة الحق أمام كل سلطان جائر أو عادل، سواء اكان سلطاناً سياسياً أم إدارياً،أم اجتماعياً أم ثقافياً. وفي منظومة الجهاد المدني، عدة فروع منها الجهاد الإداري فالإدارة النموذجية التي تحقق إنتاجاً كبيراً بسرعة قياسية، نوع من الجهاد المدني. فالدعوة إلى الله، ليست محصورة بإتقان بالكلام، بل هناك جهاد الإبداع الفني، كما كان يوسف الصديق، إذ لم يقدم يوسف عليه السلام نفسه واعظاً مرشداً في مجال الفكر، بل قدم نفسه في مجال الفعل، خبيراً اقتصاديا على هرم وزارة الاقتصاد، يضع خططاً سبعية، تراعي حالتي القحط والخصب. ولم يقل يوسف لعزيز مصر، اسمح لي بمنبر كي أخطب أو ائذن لي بفتح مدرسة دينية كي أعلم، لأني نبي كريم، بل قال "اجعلني على خزائن الأرض، "إني ]خبير اقتصادي[، حفيظ عليم". الجهاد الاقتصادي الجهاد الاقتصادي، نوع آخر من أنواع الجهاد، لأن القوة الاقتصادية، توأم القوة العسكرية، فبالاقتصاد غزت بها اليابان أسواق العالم، على رغم عضلاتها العسكرية الهشة. وهذا يدل على أن التفوق الاقتصادي باب من أبواب الجهاد. سواء اعتبر من الإعداد للقوة أم من القوة، فهو في كلتا الحالتين جهاد، وهو فوق ذلك من سنن الأنبياء، لأن يوسف الصديق لم يقدم نفسه واعظاً مرشداً، بل خبيراً اقتصادياً على هرم وزارة الإقتصاد، يضع خططاً سبعية، تراعي حالتي الجفاف والرواء، ولأن شعيبا عليه السلام، قد ركز في رسالته على أثر الفساد الاقتصادي، في الاختلال الاجتماعي. ومن صور الجهاد الاقتصادي، ذلك التاجر الذي يقيم المصنع أو المبنى، وفي ذهنه تمور فكرة التفوق الاقتصادي للأمة، وهو يريد أن يغني أمته عن الاستيراد والاستحواذ. فهذا عمل يدخل في باب الجهاد، لأن من أسباب انهيار حصون الأمة عاهة الاستيراد، فالأمم التي تستهلك ولا تنتج" إنما مآلها التهميش والاسترقاق الحضاري، ولذلك قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد تارة وبالصلاة تارة أخرى، في القرآن الكريم. والمجاهد الاقتصادي يختلف عن وكيل شركة أجنبية، جعل همه تسويق البضائع الاجنبية، أو تاجر عقارات، شغل نفسه في المساهمات الاستهلاكية. أو تاجر مداينات، أرهق الضعفاء والفقراء، وبنى قصور غناه، على خرائب بيوتهم، وأكل الربا أضعافاً مضاعفة، عبر حيل ظاهرها التزام الشريعة، وباطنها هدم الشريعة، كالعينة والتورق. كيف استطاع كثير من بارونات المال والاقتصاد، استثمار القوة الاقتصادية، في بناء قوة ثقافية وفكرية، عبر امتلاكهم أدوات التأثير في الرأي العام، من أدوات مرئية أو مقروءة وأخرى مسموعة. فولدوا من القوة الاقتصادية قوة سياسية، وهذا ما فعله اليهود، عندما ضغطوا على عبدالحميد العثماني، أو على الدولة البريطانية من بعده لتحقيق أمل، كان يعد في ذهان كثير منهم، من أضغاث الأحلام. الجهاد الصناعي الابتكار في ميدان العلم التقني والإبداعي، تعبد في محراب الجهاد، يعلو درجة نوافل العبادة، ليكون في ذورة سنام الإسلام، عندما يخلص المرء نيته، ويدرك طرق النهوض بالأمة" يتحول عمله إلى جهاد مقدس. كالفني الذي يعمل في مجال الحاسوب، أو الأنترنيت أو الاكترون، ليدرك أسرار صناعته، وليغني أمته عن الأجهزة المستوردة، ويضع البدائل من أنظمة المعلومات، والذي يعمل في مجال الطب، ليكتشف داءً غامضاً، أو دواءً جديداً، هذا إنسان يسهر على صحة الأمة، ويرد غزو الوباء بجهاد الدواء، فلا قوة لأرواح أمة إلا بأجساد قوية. هذا العالم التقني أو مساعده، أو مرؤوسه أو خادمه، عندما يصاب بجلطة، وقد أخلص نيته، وأدرك طريق عزة الأمة، فلن يكون حظه من الشهادة، دون حظ النفساء والحريق والغريق. إن الحضارة الأطلسية، استطاعت أن تسيطر على الرأي العام العالمي، وأن تشكل آراء الناس وأفكارهم، وأنماط حياتهم، معتمدة على وسائل الإعلام، فإذا كانت الصورة الواحدة، أكثر تأثيراً من ألف كلمة، كما رأينا في صورة محمد الدرة فاكتشاف مدى تأثير الصورة، لم يأت مصادفة، أو بجهود فردية، إنما جاء استثماراً ناجحاً للنظريات التربوية والنفسية والاجتماعية، والعلوم التقنية، تسيطر فيه النخبة والقلة الفاعلة، على ملايين السلبيين. ومن أجل هذا فإن الأيديولوجيا لا تنتصر من دون التكنولوجيا، والجهاد الأصغر لا يجدي من دون الجهاد الأكبر. جدوى تجديد مفهوم الجهاد في بركة الحياة الآسنة: هذه الصور المتحركة المتغيرة المتعددة، من الجهاد، تدور حول المفهوم الثابت للجهاد، وهو الجهاد بالمعنى الخاص، الذي هو ذروة سنام الإسلام، وهو السعي إلى امتلاك القوة، التي تحمي الحمى، وترد العدى، استجابة لأمر واهب العزة والمنعة، الذي قال : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، وهي الرباط الذي "ترهبون به عدو الله وعدوكم". فهذه كلها جهاد بالمفهوم الخاص الأعلى المتميز، لا العادي الأدنى العام، الذي تداخل في الذهن الجمعي، فغفل الناس عن المفهوم الأعلى، إلى المفهوم الأدنى، واعتبروا كل بذل للجهد جهاداً، وفي ظل انتهاك الحواجز بين المصطلحات، ضاعت قيم إسلامية كبرى وصغرى عن واقع الحياة. وإحياء مفهوم الجهاد الحقيقي في النفوس، ضروري من أجل استثماره، حاديا هاديا للتقدم، الذي هو آلة صد العدوان الحضاري. والأطلسيون استثمروا روح التفوق الفردي مولداً للطاقة، وروح الإرادة كما هي عند شوبنهور ونتشه تنتج شهوات المجد والعظمة، ونزعات السيطرة والغلبة، فتكون حادي الأمم إلى التفوق الحضاري المادي. أما المسلمون فإن نظرية الجهاد" متى تمازجت فيها الحماسة والكياسة" كفيلة بتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة، من أجل ذلك يصبح تجديد مفهوم الجهاد أمراً أساسياً، من أجل تحقيق مقاصد الشريعة العظمى، في الذب عن كيان الأمة، ليحدو إلى التفوق والنجاح، ويشعل الطاقة في الأرواح والعقول والأجساد. وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين، مِنْ مَن قصر استثمار وقته وجهده وماله، على قراءة القرآن، من دون أن تلهمه القراءة، كيفية التصدي لما في الأمة من التردي، من من أغرق في نوافل الصيام والقيام، أوجلس في المسجد بعد صلاة الفجر، حتى تطلع الشمس، أوانشغل بتكرار الحج والعمرة، وحصر عمله الخيري في نصب موائد رمضان، أو عون جمعيات إسلامية، تعيد إنتاج قيم العصور العباسية والمملوكية، ممن قدموا بناء المساجد على بناء المعاهد، وقدموا بناء المدافن على بناء المساكن، وحسبوا عمران الآخرة يكون على أنقاض الدنيا، ونحوهم من ضحايا ذلك الفقه الصوفي المملوكي، الذي غاب عنه مفهوم الدين الفعّال. لأن هذه الأعمال، لن توصل إلى صد عولمة النموذج الأطلسي، ولن تبدع أقماراً صناعية، ولن تحرر الأمة من ثقافة الاستلاب، ومن أجل ذلك فنحن اليوم أحوج مانكون، لترسيخ نظرية فقه النهوض. ومن أجل مواصلة تأسيس خطاب دعوي ترويجي لفقه الإصلاح والنهوض" ينبغي الإصرار على ربط النية بالنتيجة، والجهد بالجدوى، ينبغي درس الأعمال وتقييمها وتقويمها، لإدراك مدى المسافة بين الغاية والوسيلة. وينبغي تقديم الضروريات على الحاجات العادية، "لأن العمل على المقاصد الأصلية، يصيِّر الطاعة أعظم"، كما يقول الإمام الشاطبي لماذا؟ يجيب الشاطبي، لأن "أصول الطاعات وجوامعها، إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت" وجدت في مخالفتها"، الموافقات 2/168. وبجهود الأفراد والجماعات والدول الواعية للمفهوم القرآني للعمل الصالح،يتحقق وعد الله "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون" والذين يملكون الأرض هم الصالحون لعمارتها، فوعد الله خاص بالذين يدركون قوانين العمران والاجتماع والتغالب الإنساني،سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. والمؤمنون الذين وعدوا بالتمكين في الأرض،لم يوعدوا بذلك وعدا غيبيا استثنائيا، من الأقدار الاجتماعية، التي لا تفرق في الدنيا بين ذي عقيدة صحيحة وذي عقيدة فاسدة، ولا ذي أعمال فردية صالحة وصاحب أخرى فاسدة، فذلك مجال الثواب الأخروي. أما مجال الثواب الدنيوي فهو مقصور على الذين يحققون العناصر الموضوعية، التي تتشكل منها القوة، وعندما يعمل المسلمون بالعاطفة والعقل معا، يصبحون أحرياء بوعد الله: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فؤلائك هم الفاسقون" النور:55. أما الذين يطفئون شموع العقول بعواصف العواطف، فهم "كباسط كفيه إلى الماء يريد أن يبلغه وما هو ببالغه"، وبمثلهم صاح الشاعر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفنة لا تجري على اليبس * كاتب سعودي.