من الممكن أن يموت الإنسان في سبيل المبدأ من دون أن يواجه الظلم بالتخطيط المسلح، ومن دون أن يحمل على عاتقه السلاح ليواجه جور الحكام برصاص البنادق. هذا الممكن هو نص حديث النبي عليه السلام (أعظم الشهداء عند الله تعالى حمزة ورجل قام إلى ذي سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله)، وحديث غلام بني إسرائيل. وهما العينتان الناطقتان باسم الاحتساب المدني: والحديث الأول، يكشف عن مصدر العنف المسلح ويضعه في جانب السلطان الجائر، فهو القاتل، بينما المقتول يجاهد بالكلمة جهاداً مدنياً متجرداً من كل أدوات العنف بل يفتح صدره لاستقبال الرصاص. أما حديث غلام بني إسرائيل، فقد حقق انتصاراً لقضيته بمقتله على يد الحاكم، بعد أن اجتمع الناس فرأوا تضحيته في سبيل رسالته فانتهى المشهد بإيمانهم ودخولهم فيما كان يدعوهم له من دون أن يرفع سيفاً أو يكسر سوطاً لحاكم! إننا نسعى في هذه الدراسة لبناء الاحتساب المدني في فضاء مقاصد الشريعة، لكي نثبت بها مقدرته على تحقيق خيرية الأمة. تلك الخيرية التي لا تتحقق بأجهزة الاحتساب الحكومية، مهما طورت في قدرات العاملين في ميدان الاحتساب. لأن مبنى الخيرية على تحقيق الضرورات، وما تقوم به أجهزة الاحتساب الحكومية لا يحقق إلا المكملات أو الحاجيات. وقد أشار الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى إلى أن قيام الحاجي أو التكميلي لا يغني عن قيام الضروري، بخلاف ما إذا قام الضروري ولم يقم الحاجي أو التكميلي. إن نشر ثقافة الاحتساب المدني سوف تحل بدلاً عن أخطر الوسائل في الإصلاح، وأخطر الوسائل الوهمية في الإصلاح ما يلي: أولها: الصمت الذي دلت مفاسده على فداحة الأضرار التي تضاعفت، ولم يكن السكوت حكمة وسياسية ومصلحة، كما ادعت بعض الأيدلوجيات السلفية في تقنياتها السياسية مع الحكام. ثانياً: عن العنف المسلح، الذي يقود إلى هتك الاستقرار. ومن الأسباب التي تدعو لنشر ثقافة الاحتساب المدني: أن التدين يخلق انفعالات نفسية وينقل المرء من حالة إلى حالة أخرى يتعبأ شعورياً ضد كل منكر، ويأنف من وجوده، وتزداد أنفته في المجتمعات المغرورة التي ترى أفضليتها المطلقة على كل المجتمعات، فالثمن الباهظ للغرور يتسبب في نزعات عنف دائمة، بسبب حساسية المنكر. وهذه التغيرات النفسية التي تحدث لدى المتدين يتولد عنها مدد عاطفي، وطاقة تدفع لتغيير المنكرات والمحدثات من دون انتظار... ولا يمكن تصريف تلك الطاقة بالنصيحة السرية، ولا يمكن للأنشطة الدينية استيعاب جميع المتدينين، فالنضال السلمي الذي ندعو له لا يصرف طاقة المتدين فقط بل يصالح بينه وبين المجتمع ويدمجه في الواقع على نحو يستعيد ثقته بوطنه. ثانياً: أن الجهاد المدني المنظم يجعل الأولويات الشرعية قابلة للتطبيق والعمل، أما في الاحتساب الجزئي المقيد، فقد نسيت تلك الأولويات، وربط تحقيقها بالعنف المسلح أو الصمت، فحقوق الإنسان، والعدل، والشورى، ورفع الظلم، وإرجاع المظالم لأهلها، والتداول السلمي للسلطة، وتعبيد الناس لربهم وتحرريهم من الأحبار والرهبان وسائر المعبودات البشرية...ليست من ضمن أولويات الخطاب الديني الحالي المشغول برؤية هلال رمضان، والاحتراب في الصحف لإثبات كفاءة النسب في النكاح...والبحوث الشكلية التي لا قيمة لها، بل تحقيقها من خلال الخطاب الديني الحالي يقارب المستحيل، فهو خطاب حكم على دعاتها بالخروج والفساد وعدم الواقعية، وحكم على من يسلك سبيلها بالمفسدة والمنطلقات الدنيوية. فهم ينظرون إليها من خلال الأدوات التي أتاحتها لهم السلطة، ولا ينظرون إليها كأصول شرعية كلية، يتحقق بها قيام الدين وخيرية الأمة، فيبذلون لها نفوسهم ليس بقتل الآخرين،بل بالتضحية في سبيلها كما ضحى غلام بني إسرائيل. ونتيجة لما سبق فإن التعريف الذي يتضح به المقصود من مصطلح الاحتساب المدني هو قيام الأفراد، أو الجماعات المنظمة المستقلة "نسبياً" عن مؤسسات الدولة للاحتساب في ضروريات الحياة وحاجياتها ومكملاتها من أجل تحقيق الخيرية الموعودة.. فلا بد من قيامها بالأصول الكلية الشرعية وتحقيق درجات النهي عن المنكر باليد ثم اللسان ثم القلب، من دون عنف مسلح، لأن احتسابها احتساب مدني بالوسائل السلمية، واستعمال اليد ليس بالضرورة أن يكون بالعصا وضرب الناس في الأسواق، إنما المقصود باستعمال اليد، أن يكون التغيير بالقوة، والقوة لها صور متعددة، فحشد الرأي العام ضد المنكر قوة توجب تغييره.. فالاحتساب المدني عمل بالوسائل السلمية اللاعنفية والتضحية بالنفس والمال... لأجل إقامة معروف أو نهي عن منكر، وقد يكون المحتسب بالجهاد المدني فرداً أو جماعة. والضابط في عملها ليكون احتساباً مدنياً، ما يلي: أولاً: جهاد الأفراد أو الجماعات في المنازل الثلاث جميعاً، ثانياً: استعمال الوسائل السلمية المجافية للعنف المسلح، ثالثاً: التضحية ولو بالنفس بالموت في سبيل تحقيق ضروريات الحياة وحاجياتها. إن ولاة الأمر في دول الإسلام قد حددوا للأمة كيف تنكر، وكيف تأمر بالمعروف، ورسموا خريطة عمل الاحتساب، وعمل الأجهزة الرقابية الأخرى التي تشكلت أيضاً من خلال السلطة السياسية، فلا تستطيع القيام بالاحتساب والرقابة الحقيقة في ظل تقيدها بالسلطة، فصار الاحتساب في كلا الحالتين يصيب من الضعفاء ويدع الأقوياء، لأن المساس بهم نهاية عمل الاحتساب، والمحتسبون يرون أن بقاء الاحتساب على أي وجه كان مصلحة! ولو كان احتساباً مقيداً، المهم هو وجوده. إن الحد الأعلى الذي حققه الاحتساب الحالي: إغلاق المحلات في أوقات الصلاة في بعض المدن، وبعض جرائم السكر، وبعض جرائم الأعراض في بعض المدن، ومحاصرة المشعوذين والسحرة، وفي مجال المعروف، اقتصر عمل الهيئة على توزيع النشرات التي أكثرها ضوابط شرعية في لباس المرأة، والتنبيه على الأخطاء في بعض الأحكام الشرعية. وتكاد تنحصر أعمال الحسبة في هذا النطاق، ويرافق هذه الأعمال قلة في الموارد، وضعف في الكفاءات، وقلة في العدد، مع ضعف في وسائل الاتصال، بل يعتمد بعض المحتسبين على جوالاتهم الشخصية، ولا يوجد ممثل للهيئة في مجلس الوزراء، وتم تجاهلها في الخطط الإستراتيجية. وقد حققت هذه الأعمال مصالح انتفع بها بعض الناس، فأمنوا على أعراضهم داخل بعض الأسواق. أما أخطاء العاملين في الميدان، فلها أسباب عديدة، تتحمل الحسبة جزءً منها بسبب الفشل الإداري، وتتحمل الدولة الجزء الأكبر. وقد صنعت تلك الأخطاء صورة عن جهاز يحتسب احتساباً متخلفاً، ولكن لا يوجد إيمان بأن الاحتساب المتخلف قرين المفسدة المتحققة. ويوجد لدى عامة الناس، مثقفين وعلماء وسياسيين وتجارا... قناعة بأهمية بقاء الهيئة والمحافظة على وجودها ولو كانت بأسوأ من تلك الصورة. فمنطقهم: وجودها مطلب ضروري، ولو كانت لا تحمي إلا الأعراض لكفى بها فضيلة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وهي حجة ضعيفة مستسلمة، لا تحقق تقدماً أو منجزاًَ عملياً للأمة، وهي بهذا المنطق سوف تبقى مئات السنين دون أن تحدث تغييراً، بل سوف تتساقط في العام مرة أو مرتين حتى يتلاشى وجودها، وهو ما نلحظه من تراجع عام في كل أعمال الحسبة المقيدة بالسلطة، وتكاثر للمنكرات وتطور هائل في أساليبها. ولكن نقول: بدل أن ندافع عن الاحتساب المشوه، والممانعة المتخلفة، ونقف خلفها صفوفاً متراصة، ونتهم المخالفين بأسوأ النوايا وأقبح الصفات، فإن في الدعوة للاحتساب أو الجهاد المدني، تحقيقا لمقاصد الشريعة ونصرة للدين وإقامة للعدل وردا للمظالم، فإذا قام الناس بالفريضة على هذا النحو، وأفنوا أعمارهم من دون عنف مسلح، وضحوا بأنفسهم وأموالهم داخل أوطانهم لأجل التغيير والإصلاح، فقد بدأت الأمة في الأخذ بالسنن الإلهية الربانية في الإصلاح.. ولقائل أن يقول، ولم الإدعاء بأن الحسبة القائمة اليوم هي احتساب مشوه؟ والجواب: أولاً: لأنها لا تقيم قصد الشارع في الفريضة، ولا تحقق الحد الأدنى من الحياة الكريمة، فواقع الاحتساب اليوم قد تشكل من خلال الإرادة السياسية، وزاد من تشوهه كثرة أخطاء العاملين فيه، فقد تركوا يصارعون قوى المجتمع من أجل حفظ الأعراض ومكملاتها. وحتى لو صحت الإرادة السياسية وهذا يشبه المستحيل العقلي، فإن ارتباط الحسبة بالدولة هو ارتباط بأنظمتها التي تشكل واقع الحسبة فلا يكون لها حرية الحركة والعمل في كل ميدان، بل التخلف الإداري الذي شمل كل أجهزة الدولة أثر في عمل جهاز الحسبة، وانعكس على أدائها، وزاد من أخطائها. أما الحسبة المتطوعة، فقد تشوهت باهتماماتها الصغيرة، وصرفت طاقتها في الممانعة على المنكرات المكملة، ولا شأن لها بمنكرات الضرورة أو الحاجة، ولا تستطيع الاحتساب في كل مكان حتى باللسان، فهي محصورة محاصرة. وفي مجال الأمر بالمعروف، فقد انحصرت في الوعظ المتكلف، وقام الإعلام الإسلامي بإكمال مسيرة التخلف من خلال ترميز الشخصيات الوعظية التي تقدم وعظاً في المسلمات. لقد نجحت السلطة السياسية في استغفال عامة المحتسبين، وتركتهم يوازنون بين منكرات في رتب المكملات، فلا يدرون أيطرقون البيت على من اختلى بامرأة أم يتسورون عليه منزله؟ بل هذه المنكرات المكملة التي شغلت أوساط المحتسبين والصالحين، يجري فيها كثير من الخلاف والقيود التي تمنع من التدخل في شؤون الآخرين ما لم يعلنوا بمنكرهم. أقصد بوضوح تام، أن مخالفة سنن الله تعالى ومقاصده الكبرى في أمره ونهيه، ليست إلا شريعة أخرى، قال الله عنها (قل هو من عند أنفسكم إن الله بصير بما تعملون). ثانياً: أن المسلك الحسبوي بواقعه الحالي يقود للصراع ضرورة، وينشأ عنه نفوساً متوترة متأزمة، متطلعة للقضاء على كل جهد حسبوي، وهذه مفسدة عظمى سوف يدفعها تطبيع الاحتساب بالمدنية، والدعوة للجهاد المدني. ثالثاً: أن الاحتساب المشوه لا تتحقق به نهضة ولا يبني تصالحاً مع الحداثة، فغايته الترصد، ونتيجته انقطاع الإرسال وسوء الاتصال بين المجتمع والحسبة، لأن سوء الظن يغلب الظن الحسن. رابعاً: أن الاحتساب المشوه يضاد إحسان العمل، ولا يفي بالغرض من الحسبة كما سبق، ولا سبيل لتغييره بالمراهنة على تغيير سياسة الحاكم، ولن يتغير من داخله وهو مقيد بالسلطة، ومهما يكن فيه من استصلاح، فلا يحقق من المصالح إلا أدناها، فهو مكبل لا ينفذ إلا لملاحقة صغار المجرمين والمفسدين، والمحامون عن وجوده لا يعنيهم سوى وجوده، بل ليس فيهم من عرف بدعمه أو وقفه على المحتسبين، فهم يرسمون في الهواء، ولا يسمع صدى حديثهم سوى من يؤمن بالاحتساب على أي وجه كان، لأن الوجود صار غاية بذاتها وربما مانعوا من أي مدخلات حتى لو كانت شكلية. خامساً: أن الاحتساب المشوه أزرى بالصالحين، وأرسى في اللاوعي عند العامة صورة تكتنز القسوة، وتحتسب بالفضاضة، وتفضي للانفضاض: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). وزاد من حالة التشوه، احتساب لحراسة الفضاضة والاستدلال لها، وقد شهدت منازلات الإنترنت حالة من العلمانية "السلوكية"، كانت تؤلف قاموسا خاصاً بالشتائم ضد خصوم الاحتساب. سادساً: أن الاحتساب لا يجوز تقييده شرعاً بجهاز السلطة تقييداً تاماً، فللأمة الحق في إنشاء الجمعيات والجماعات التي تراقب عمل السلطة وتحتسب على الفساد وتضحي لأجل المصلحة العامة. وفي ختام هذه المقدمة أقول: إن شبابنا بحاجة لمن يشبع نهمهم بالبطولات، إنهم قرأوا عن الأبطال المناضلين وشاهدوهم على شاشات الإعلام... فلا يسوغ تركهم لمن يُلهم تطلعهم بعنف يقودهم إلى تدمير الحياة. إنهم لن يقنعوا بإصلاح يقوده علماء مستسلمون أو دعاة مخمليون، أو متفائلون بإصلاحات أخلاقية واجتماعية، لا يرون في نصائحهم سوى الكلمة الباهتة التي لا لون فيها ولا رائحة. إننا نتطلع لرؤية شبابنا وهم يقفون أمام جور الحكام والاستبداد والفساد والقهر والظلم، وإقامة العدل والحقوق والنهضة... بكل الوسائل السلمية، نتطلع أن نسمع شهيداً نرتل أمام جثمانه آيات البطولة.. ننثر فوق رحى روحه الطاهرة قصائد الشرفاء، تدوي في كل أرجاء الوطن وتسمع الثكالى والمقهورين أناشيد النصر والتمكين. هكذا سوف نكسر أنوف الجبابرة، ونطعن الاستبداد بهندسة العمل السلمي. ولأن الدراسة مقاصدية، فإن أول فصولها سيكون في بيان مقصد الشريعة من إقامة الاحتساب وذلك بدراسة الآية الكريمة التي نصت سبب خيرية الأمة وهي قول الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). أما الفصل الثاني في الدراسة، فسأخصصه لآلية عمل المقاصد لتحقيق الخيرية، وهو أهم فصول الدراسة، وفيه أبين العلاقة بين المقاصد والاحتساب المدني وكيفية تحقيق الخيرية بالمقاصد، ومسائل الحسبة التي جرى العمل فيها بالمصلحة والمفسدة كشواهد وتطبيقات عملية، ثم الفصل الثالث عن دلائل تحقق مقصد الشريعة في الاحتساب. الفصل الأول: مقصد الشريعة في إقامة الاحتساب لقد قصدت الشريعة من فريضة الاحتساب، تصدير الأمة في واجهة الأمم، وهي لفتة محيرة لعدد من المفسرين الذين تساءلوا عن سر تخصيص هذه الأمة بالخيرية وتفضيلها عن الأمم السابقة التي كانت تقيم الفريضة، وسوف أحاول في هذا الفصل الإجابة عن تلك الحيرة من دون أن أقطع بإجابة محددة، ولكنها التماسات تبحث عن كنه الخيرية والميزة الإضافية لهذه الأمة. وسأبدأ أولاً بإثبات علة الخيرية، ثم التساؤل عن سر الخصوصية؟ ففي قول الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، نجد أن الشارع قصد من تشريع الفريضة تحقيق الخيرية؛ لأنه علله بها، فإن أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر تحققت الخيرية وإلا فلا، فعلة الخيرية إقامة الفريضة. أو بمعنى آخر: كنتم خير أمة أخرجت للناس؛ لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقد نص الرازي في تفسيره على تعليل الخيرية بإقامة الفريضة وأدرج نوع العلة في مسالك العلة النقلية، فقال: "واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم. وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات". أما لماذا اختصت هذه الأمة بالخيرية مع قيام الأمم السابقة بالفريضة؟ وما هي الميزة النسبية في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى هذه الأمة المحمدية التي تجعلها خير الأمم ؟ فالإجابة على هذا التساؤل من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: التضحية بالنفس في سبيل تحرير الإنسان من المعبودات البشرية والحجرية.... فإذا كان الجهاد لم يقصد منه إلزام الناس للدخول في الدين (لا إكراه في الدين)، أمكن أن ندرك أن مقصوده الأعظم هو: تحريرهم من الاستعباد والظلم الذي يحرمهم من أعظم مقاصد الشريعة، وهي: الحرية التي بها يخلص الدين لله تعالى، وبدونها يبقى الإنسان معلقاً في حريته، فهي ركن الخلاص من معبود غير الله تعالى. ومن هنا نصل إلى مفهوم أعمق في سبب هذه الخيرية: فالعلماء يعبرون عن مقصد الجهاد الأعظم بأنه: قتل النفس من أجل إقامة الدين. والدين لا يقوم إلا بتحرير الإنسان من المعبودات.. فالنتيجة: أن المجاهد في سبيل الله يموت من أجل حرية الإنسان ضرورة. ومن وجه آخر: أن الدين هنا دين الاستسلام لله والخلوص له من الشرك. الشرك في عبادته، أو الشرك في سيادته وملكه وتدبيره. فشريعة الإسلام توجب قتل الأنفس من أجل العدل والحرية، إذ بهما يكون الاختيار ويندفع الإكراه، وتصان الكرامة التي ميز الله بها الإنسان عن بقية المخلوقات (ولقد كرمنا بني آدم..). وحين تقوم الأمة بالفريضة فإنها تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإذا زال الاستعباد وتحرروا من الطغيان عبدوا الله مخلصين له الدين، فإذا وقعوا في المعصية فوقوعهم لا يكون بالتدبير والتخطيط والإفساد، وإنما بنوازع الشهوة التي ركبها الله تعالى الإنسان، وليس بآثار الظلم والقهر التي تدفع المجتمعات للموبقات وأشد المنكرات، فقد وقع بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم كماعز والغامدية وحاطب بن أبي بلتعة وأبو محجن الثقفي... في بعض كبائر الذنوب وشهد لهم النبي صلى الله عليهم وسلم بحب الله ورسوله. إن المجتمع النبوي لم يكن بحاجة للإجهاض الفوري على كل منكر وملاحقته وتتبعه في أماكنه المستترة أو المقاربة للاستتار، لأن المجتمع لا خوف عليه إن حقق خلوصه من المعبودات البشرية والحجرية... فهو المجتمع الآمن: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). فهذه الأمة ليست كالأمم الأخرى، لأنها أمرت بتحرير الإنسان في كل الأرض على خلاف ما كانت عليه الأمم السابقة كبني إسرائيل، فقد كانت معنية بشؤونها والدفاع عن دينها. قال ابن تيمية رحمه الله: "فبين الله سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم لأنهم كل خير ونفع للناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة إلى الهدى والخير ولا لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله قالوا يا موسى لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 23). الوجه الثاني: المسؤولية تجاه الغير فمن الواضح أن فريضة الاحتساب في الشريعة تحمل الأفراد مسؤولية عظمى تجاه الآخرين، لكن من المهم السؤال عن طابع المسؤولية في الاحتساب؟ هل مسؤولية الحسبة وصاية على الآخرين، أم مسؤوليتها، سلطة تنفيذية بيد الأفراد؟ والذي دفعني لطرح هذه التساؤلات، تلك الأحاديث التي وردت في الحسبة وعلى وجه أخص في النهي عن المنكر، فحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). وحديث: (لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). حديثان صريحان غاية الصراحة في مسؤولية الآحاد، ومسؤولية المجموع، عن النهي عن المنكر، والإطلاق فيهما يمنح سلطة التغيير للأفراد من غير تقييد بسلطة أخرى. فالإنكار باليد سلطة تنفيدية، ومن المعهود أن السلطة التنفيذية لا تُمنح إلا بإذن السلطة العليا، بينما لا نجد في الشريعة نصاً في الإذن، فكل فرد له حق استخدام السلطة التنفيذية للتغيير، وصيغة الجمع في الحديث الثاني، دلت على جواز التحشيد من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما جواب السؤال الأول: فإن المسؤولية التي في الاحتساب قد تنقلب إلى وصاية أو ولاية بدوافع مختلفة تؤثر على المقصد الأعظم: تحقق الخيرية. لكنها ليست المسؤولية المقصودة شرعاً، فالمقصودة هي التي نطاقها الحب، وسلاحها العطف، وعصاها الرحمة. وهي التي قال الله فيها عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فهي بهذا المعنى ميزة إنسانية؛ لأنها مسؤولية توجب رعاية الآخر، وتتعدى لحمايته ممن يعتدي على حريته أو يحول بينه وبين اختياراته، وتارة تحميه من نفسه، وتارة تقف بينه وبين نزوات الشيطان، رحمة به وعطفاً عليه. فالمسؤولية "الوصائية" ليست هي المسؤولية "الإنسانية"، والفرق بينهما، أن المسؤولية الوصائية لا يمكن تحقيق مقاصد الشريعة بها، بل بها يقع التنازع ويُستكثر الجدل، وهي جناية على الشريعة، ومرض يرهن الشريعة لتحقيق الطموحات نفسية. فالوصاية: تضاد الاحتساب، لأن الوصي يتصرف بمسؤولية مطلقة بلا رجوع أو اعتبار لقوانين الحسبة أو ما يجب مراعاته . أما جواب السؤال الثاني: فهي سلطة تنفيذية في حال القدرة على استئصال المنكر أو تخفيفه، فلا حاجة للسان أو القلب، ولا حاجة للإذن، فمن قدر على منع قاتل من القتل بيده، فلا حاجة لتهديده باللسان أو إذن ولي الأمر، ومن استطاع منع غاصب بالقوة يريد انتهاك امرأة، فهل ينتظر إذن السلطة وهو قادر على منعه؟ إن الشريعة، وهي تضع بيد الأفراد سلطة تنفيذية للتغيير، تقصد كذلك للمساواة، "وهدم التصور الهرمي للمجتمع... فهي تقوم على أساس أن كل مسلم مكلف يملك سلطة تنفيذ شريعة الله"، ولا فرق بين الناس في المنزلة الاجتماعية، فهي طابع ديمقراطي، كما يقول "شتروتمان"، توافقت مع نزعات العرب الديمقراطية في إرساء الحق على القوة. إلا أن شرط القدرة متضمن، ويستلزم مراعاة المصلحة، وشرط آخر: ألا يؤدي الاستئصال لمنكر أكبر أو فوات معروف أرجح. وهذا الشرط في استعمال اليد حتى لا يؤول المسلك الحسبوي إلى الطابع المسلح الذي يشهر السلاح عند أدنى منازلة. ولكي لا يقول قائل إن استعمال اليد افتئات على السلطة الحاكمة، ويفضي للفوضى، فلكل قادر على استعمالها حق الاستعمال، نجيبه بضرورة تحديد مفهوم استعمال اليد، ويمكن تحديده من خلال ما يلي: أ إن استعمالها لا يكون إلا فيما يستوجبه الإنكار باليد، أما المنكر الذي لا يستوجب التغيير باليد حتى مع القدرة ومع عدم الإفضاء لمنكر أكبر وضرر أشد، فلا حاجة لاستعمالها، يدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس منا. وفي رواية من غشنا). فالحديث دال على أن اليد مقيدة الاستخدام إلا في حال استدعى الموقف التغيير بها، فتكون في أعلى المراتب، ويكون اللسان مرتبة ثانية والقلب ثالثاً. وفي حال عدم القدرة، تتحول الفريضة إلى طابع مدني في ثلثيها الآخر، لأن أقصى ما في الإنكار باللسان: تخشين القول، وهو مرتبة تسبقه مراتب عدة في التدرج في الإنكار، أما الإنكار في القلب، فهو تعبير مدني صامت. ب أن عدم تقييد الاستعمال بيد السلطة الحاكمة لا يلزم منه الفوضى والعنف، لأن العلماء اشترطوا لاستعمالها عدم الفتنة، فإن وجدت فتنة في الاستعمال، وتطلب الحال استعمالها، فلم تستعمل، وانتظر المحتسب الإذن، فقد وقع في الإثم، لأن عدم الاستعمال إلا بالإذن مضادة صريحة للنص بدون مسوغ، أما إن ترتب على الاستعمال فتنة أو فوضى، فلا يجوز له الاستعمال. الوجه الثالث: الخيرية لا تتحقق بالمسؤولية النفعية تظهر الميزة النسبية في الشريعة بأن منطلقات الحسبة هي القيم وليست المادة، ولا يجوز فرضها لأجل مقاصد دنيوية نفعية. فالتدخل في شؤون الآخرين قد يكون لمصلحتهم لحمايتهم ورفع الظلم عنهم، وقد يكون للمنفعة المادية، وقد يكون لأسباب أخرى، أما احتساب هذه الأمة الذي تنال به صدارة الأمم فليس لأجل الصدارة ذاتها، ولا لأجل القوة والاستحواذ والاستفراد...، بل لأجل أن يكون الإنسان بالمعنى الإنساني، الذي كرمه الله تعالى في قوله: (ولقد كرمنا بني آدم)، ورفع شأنه بين سائر المخلوقات. فمنطلقات الاحتساب هي التي تحدد قيمة الصدارة والخيرية، والفروق بين الأمم والحضارات هي الدوافع والغايات. وأمم الأرض اليوم مشغولة بمصالحها، تبحث عن ذاتها، معنية بالتفوق الحضاري لأجل التفوق الحضاري، ومنه تستلهم التمكين في الأرض. ولأنها فقهت سنن قيام الحضارات فقد حررت الإنسان، وأصبحت أمماً قوية متصدرة مرهوبة الجانب، (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)، فسنن الله تعالى تعطي الدنيا لمن تحب ولمن لا تحب، وسننه تعالى قائمة على العدل التام، و الحضارة الغربية المعاصرة أنصفها الرب تعالى وجعلها في صدارة أمم الأرض وأقواها بأساً، فهي قد حررت الإنسان من عبادة العباد، ولكن ليس لعبادة رب العباد، فافترقت عن أمة الإسلام التي إن قامت بواجب التحرير لأجل عبادة رب العباد فستكون خير الأمم كما وعدها الرب تبارك وتعالى. فالمنطلقات هي التي ميزت ورفعت قدر الأمة، وكلما انقادت الأمة في مسعى التحرير من الاستعباد بكل صوره، فهي في خيرية نسبية، ولو كانت أشد أمم الأرض كفراً، فإن توجهت بالتحرير لأجل الخلوص لله بالعبودية التامة، فهي الخيرية التامة، وهي خاصية لن تنالها إلا أمة الإسلام لأن الخطاب الإلهي توجه لها من بين سائر الأمم، وقد حققت الاحتساب بكل صوره فنالتها الخيرية وبقيت أمة عزيزة منيعة حتى بدلت نعم الله كفرا فأحلها الله دار البوار. وأصبحت اليوم أمة مستعمرة مستسلمة، تحتسب بحسب الإرادة السياسية، فإذا لم يرد الحاكم توقفت عن الاحتساب، وإذا أراد أرادت. ولا يصح التعميم على كل أمم الإسلام، فنحن نشهد في التجربة التركية، أمة مسلمة تحتسب بالوسائل السلمية، في أشد دول العالم جبروتاً وعلمانية، وتسعى لتحرير الإسلام من قبضة الجيش والدولة، وتتخذ لحرب التحرير السلمية النموذج العلماني الغربي، فلا خيار لها سوى ذلك. وقد أوتيت من النصر والتمكين ما لم تحققه النماذج الأخرى في بلدان عربية، الأقل علمانية من النموذج التركي...(يتبع)..