في رده على حملات النواب ضد الحكومة رحب الدكتور سليم الحص بوجود المعارضة لأنها، في نظره، تمثل ظاهرة سياسية صحية لا يمكن للديموقراطية ان تستقيم من دونها. ولكنه انكر على المعارضة اللبنانية انسجامها مع معايير الديموقراطية الصحيحة، معتبراً "ان خطابها السياسي انحدر الى مستوى الشتم والاهانة، خصوصاً عندما سخّرت العصبيات الطائفية والمذهبية لتحقيق أغراضها... واستخدمت سلطة المال للتحكم بالرأي والموقف". ومع ان رئيس الحكومة لم يكشف عن أسماء مشوهي الديموقراطية، الا ان المواصفات التي اطلقها تشير الى شخصين اعتبرهما العهد من أبرز رموز المعارضة هما: رفيق الحريري ووليد جنبلاط. ذلك ان اشارة الحص الى معارضة الحريري كانت مغلفة باتهامات صريحة خلاصتها ان الآراء والمواقف المؤيدة لنهج رئيس الحكومة السابق ليست اكثر من فواتير اعلامية وسياسية تتحكم بها سلطة المال. اما بالنسبة لوليد جنبلاط فان معارضته في نظر الحص، تمثل "أدنى المستويات لأنه انحدر بخطابه السياسي من قمة العقائدية الى حملات الشتم والاهانة". وكان بهذا التلميح يرد عى انتقادات رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي هاجم العهد بعنف لأنه في نظره "لا يتعامل الا مع حثالة البشر"... ولأنه "سخّر وسائل الاعلام الرسمية وصحفه المعروفة وبعض المأجورين برتبة وزير" لشن حملات ضده. ويستخلص من التصعيد الرسمي الأخير الذي استهدف الحريري وجنبلاط ان الحكومة انتقلت من موقع الدفاع الى موقع الهجوم، بهدف تحييد دور رئيس الجمهورية وإظهاره بمظهر الحكم غير المنحاز، وإبقائه رمزاً لوحدة الوطن. وانسجاماً مع هذه الاستراتيجية الوقائية التي ظهرت لأول مرة اثناء دفاع الحص عن الموازنة، قرر الوزراء مواجهة شراسة المعارضة بأسلوب بعيد عن المهادنة والتحفظ. ويبدو ان احراج الحريري كان أسهل من احراج جنبلاط بدليل ان الحكومة كانت ترد على انتقادات رئيس الحكومة السابق بإبراز مخالفاته وتجاوزاته عبر الموقوفين الكثر من جماعته. وهذا ما دفعه الى التردد والإحجام عن مواصلة حملته، والى تبرير ذلك بالقول ان كل خطاب يكلفنا سجيناً جديداً. ولكي يعبر الحريري عن اعتراضه على سياسة التحجيم والالغاء التي تُمارَس ضده، وصف ديموقراطية العهد بأنها نوع فريد بين الديموقراطيات لأنها لا تحتمل المعارضة ولا الموالاة. ودليله على ذلك ان رئيس الجمهورية لم يستقبله إثر الغارات الاسرائيلية التي هدمت الجسور ونسفت محطة التحويل الكهربائية في "الجمهور". والمؤكد ان الحريري واجه انتقادات عديدة من المطالبين بتناسي الخلافات السياسية والمشاركة في حملة الترميم وإعادة البناء، كما فعل بعد مجزرة قانا. وكان رده على المشككين بدوره، ان القصر اعتذر في حينه عن استقباله مرتين، وتشاغل عنه باستقبال سواه. وفي تقدير المطلعين ان العهد لا يريد اجراء مصالحة معه، خشية ان يستغل هذه الحادثة لردم الهوة السياسية القائمة، وإحياء دوره السابق. ويرى انصار الحريري ان حكومة الحص تستفيد كثيراً من معاداة رئيس الحكومة السابق بحيث انها تحمّله كل مسؤوليات قصورها وعجزها عن معالجة الضائقة الاقتصادية المتفاقمة. وهو في نظرها المشجب الذي تعلق عليه الدولة كل سلبيات الشلل والجمود اللذين يتحكمان بالوضع الاقتصادي المزري. ويعتقد هؤلاء ان مصالحة الحريري ستكشف عجز الحكومة، وتفقدها التغطية الاعلامية التي توفرها لها خصومته ومعاداته، واتهامه دائماً بأن اسلوبه في الاقتراض وفي تدمير الادارة هو الذي انتج البطالة والجمود والكساد. ويبدو ان الحريري اصبح مقتنعاً بصحة هذه النظرية، خصوصاً بعدما نصحته دمشق بزيارة القصر لأن التماسك الداخلي اصبح حاجة ملحة لمواجهة مخططات اسرائيل في لبنان. وبعد اجتماعه بالرئيس لحود، لم يجد لديه ما يهدئ من قلقه بدليل انه كرر أمامه كلاماً سابقاً يتعلق باستئناف التحقيقات ومقاضاة كل من تثبت مسؤوليته عن الفساد ومخالفة القوانين. ولقد علق احد الوزراء على خيبة أمل الحريري بالقول ان رئيس الجمهورية لا يستطيع التراجع عن مبادئ خطاب القسم... وان سياسة تعزيز الاستقرار والتماسك الداخلي لا تعني التغاضي عن هدر المال العام ومحو ارتكابات العهد الماضي. ولكي يطمئن الحريري العهد الى ان زيارته لبلدة "الخيارة" البقاعية لا تحمل اي هدف سياسي، فقد أطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على الخطاب الذي ألقاه يوم الخميس الماضي لمناسبة وضع الحجر الأساسي لانشاء الجامعة اللبنانية - السورية. والسبب في ذلك ان الاجهزة المعروفة حاولت تعطيل الزيارة عن طريق التشويش وتمرير اخبار غير مشجعة على ألسنة نواب انكرو علمهم بما نُشر. وواضح من كل هذا ان الدولة تنظر بارتيابپالى التحرك السياسي المغلف بالنشاط الاجتماعي في منطقة تعتبر من الخطوط الحمر المحظور على الزعامات الغريبة ولوج ابوابها. وكما ان جنبلاط كان الشريك والسند الداعم للحملة ضد حكومة سليم الحص، فقد حرص الحريري على التأكيد بأنه يتحدث باسمه واسم النائب وليد جنبلاط الذي رفع درجة المعارضة الى اعلى مستويات التحدي. ولكي يكون التراجع مشتركاً، فقد تولى الحريري مهمة التحدث باسمه واسم جنبلاط، وقال في خطابه "ان قلبيهما على العهد... وان ايديهما ممدودة للعبور بلبنان الى برّ الأمان". ويرى النواب ان معارضة وليد جنبلاط للعهد ورموزه حملت منذ بداياتها بذور النزاع المكشوف، خصوصاً وانه هاجم حكم العسكر قبل شهرين من وصول عسكري الى الحكم. وبما ان رؤساء العهود السابقة تعودوا على استشارة سيد المختارة اثناء انتقاء ممثلي الطائفة الدرزية في الوزارة، لذلك اعتبر جنبلاط ان اختيار انور الخليل والدكتور عصام نعمان كان خروجاً على اسلوب التعاطي الرسمي معه. كما اعتبر ان الوزيرين المعنيين لا يمثلان الطائفة لأنهما خرجا عن بيت الطاعة ورفضا الوصاية. والمعروف ان النائب مروان حمادة وزع ولاءاته مناصفة بين المختارة وقريطم، الأمر الذي كلفه فقدان الوزارة كعقاب على سلوك لا يحتمل الرأفة. ولقد حفظ مروان الدرس جيداً بحيث انه تضايق كثيراً من حصوله على خمسة آلاف صوت زيادة عما حصل عليه جنبلاط في الانتخابات الاخيرة. ورأى في هذه الشعبية مصدر غضب قد يترجمه "البيك" الى عزل من القائمة. أنصار وليد جنبلاط يفسرون عملية انتقاء الوزيرين الخليل ونعمان بأنها مدخل لتأسيس تيار درزي ثالث مستقل عن الحزبين الدرزيين التقليديين: الجنبلاطية واليزبكية. وهما الحزبان التاريخيان اللذان خلفا حزبي القيسية واليمنية المتخاصمين دائماً 1754م. ومع ان كمال جنبلاط ومجيد ارسلان ورثا الخلاف، وتنازعا حتى بالسلاح من موقعين سياسيين متعارضين عام 1958، الا انهما حرصا على التعاون في الشؤون التي تضمن مصالح الطائفة. لهذا اتفقا على المحاصصة بطريقة دورية لعملية اختيار شيخ العقل، الأمر الذي توارثه نجلاهما وليد وطلال. والمعروف ان شيخ العقل لا يتمتع بسلطة روحية مستقلة عن السلطة السياسية، كما عند الموارنة الذين يعتبرون البطريرك المرجعية الأولى والأخيرة في الشؤون الدينية والدنيوية. ولقد انتج تعاون الزعيمين كمال جنبلاط والأمير مجيد ارسلان مرحلة من الاستقرار الطائفي بعد توحيد المرجعية الروحية واختيار محمد ابو شقرا شيخاً للعقّال. من هنا رأى وليد جنبلاط في عملية اختيار القائمقام بهجت غيث خروجاً على اتفاق الحزبين، وعاملاً للاخلال بالتوازن النسبي. ولقد ساندت قوى داخلية وخارجية موقف المليونير بهجت غيث بهدف إحداث اختراق سياسي يمكن ان يقود الى ظهور تيار ثالث مستقل عن الحزبين التقليديين. في ظل هذه المخاوف والهواجس انبرى وليد جنبلاط ليهاجم الوزيرين الدرزيين انور الخليل وعصام نعمان، واصفاً إياهما ب"حثالة البشر" وب"المأجورين برتبة وزير". وفي رده على هذه الاهانة انتقد الدكتور عصام نعمان وليد جنبلاط في حديث اجرته معه صحيفة "الديار" وقال: "ان هذا الكلام ينقصه الكثير من الاتزان، وان عدم الاتزان عند جنبلاط اصبح حقيقة معروفة. فالرجل الذي يتهم الآخرين بأنهم انقلبوا على اتفاق الطائف كان أوْلى به ان ينظر في أمره ليكتشف انه انقلب على تراث والده ومبادئه". وعلى هذا المستوى من الانتقاد هاجم الوزير انور الخليل وليد جنبلاط في احتفال بلدة "رأس المتن" من دون ان يسميه، وقال: "ان لبنان ينهض من تحت ركام الاستباحات بمؤسساته الوطنية والدستورية، ويرفض ان يعيده البعض الى حال التجاذب الطائفي تحت عنوان التوازنات الطائفية تارة والحقوق المذهبية طوراً. هذا البعض يتشدّق بطلب صون الحريات ويتهم السلطة بتنفيذ انقلاب على اتفاق الطائف، بينما لا يترك سانحة الا ويقرع طبول الحرب الأهلية. لا مستقبل لأحد في هذا البلد الا بقيام دولة القانون والمؤسسات، لأن الشعب يريد التغيير". وكان من المنطقي ان يقرأ جنبلاط في جواب الوزيرين نفساً جديداً لتيار درزي ثالث يطمح الى التحرر من سيطرة الحزبين التقليديين. وربما اعانهما على اتخاذ هذا الخط المستقل وجودهما في موقعين بعيدين عن نفوذ سيد المختارة. فالوزير الخليل من بلدة حاصبيا الجنوب يهمه انتخابياً رأي نبيه بري اكثر بكثير من رأي جنبلاط. والشيء ذاته ينطبق على الدكتور نعمان الذي انتخب في الدورة الماضية نائباً عن بيروت بعدما غادر بلدته عترين قرب بعقلين لكي يتحرر من الوصاية. في مواجهة هذه الحملات السياسية، رفع وليد جنبلاط وتيرة معارضته ليلامس بكلامه مقام رئاسة الجمهورية ومركز رئيس الحكومة، ويذكر دمشق بأن هناك قوى محلية ساهمت في خلق مناخ وطني كان الجيش من نتيجته. واستغل زيارته لمكتب "الحزب السوري القومي" ليعلن ان مجيء الرئيس اميل لحود هو نتيجة تضحيات الاحزاب: السوري والاشتراكي والشيوعي وحزب الله. وكان بهذا الكلام يريد تفريغ سخطه لاقتناعه بأن الرئيس لحود أصرّ على الانتقال الى قصر بيت الدين بعدما هجره الرؤساء مدة تزيد على الثلاثين سنة، لكي يطرد نفوذ الجنبلاطية منه، ويشجع العسكر على نقل تمثال والده، والغاء اسم جده بشير جنبلاط عن اللوحة الرخامية. لذلك اعلن انه لن يقصد بيت الدين في حياته بعدما تحول الى ثكنة عسكرية. وعلى الرغم من الاتهامات القاسية التي اطلقها جنبلاط في كل اتجاه، لوحظ انه كان يفتح دائماً ثغرة للمصالحة والحوار، معرباً عن استعداده لقبول مبادرة ذات اتجاه جدي يقوم بها الرئيس لحود. ويبدو ان سورية اعطت الضوء الأخضر لمثل هذه المبادرة املاً في تنفيس الاحتقان الداخلي، وتحصين الجبهة الداخلية اللبنانية قبل استحقاقات السلام. ومثل هذا التغيير المستحدث في لقاءات الحوار يحتمل تفسرين لا ثالث لهما: اما ان تكون حملة المعارضة قد أثرت بشكل عميق على أداء الحكم وفرضت على المسؤولين تعديل طريقة التعاطي معها... وإما ان يكون اغتيال المسؤول العسكري في "حزب الله" الحاج علي ديب، مقدمة لسلسلة مواجهات تعتبرها دمشق غير مشجعة لتأسيس اجواء مريحة للتفاوض على الجولان؟! ومع ان التكهنات حول مصير المفاوضات لن تحسم قبل زيارة اولبرايت للمنطقة، الا ان الاشارات السياسية الاخيرة، التي صدرت عن ايهود باراك لا تطمئن كثيراً. او هي بالأحرى من النوع الذي يصعب على دمشق قبوله، خصوصاً وانه يطالب بمفاوضات مباشرة وعلنية على مستوى القمة. كما يطالب ايضاً باعلان وقف عمليات "حزب الله" كمدخل لتأمين مرحلة المفاوضات. وهو في الحالين يرفض مبدأ الشروط المسبقة والتعهد بالانسحاب الى حدود الرابع من حزيران 1967. ومعنى هذا ان التقدم على المسار السوري - اللبناني سيكون متعثراً، وان حكومة باراك ستتولى حماية المستوطنين في الجليل الأعلى، مستخدمة أسلوب الاغتيالات الذي مارسه رئيس الحكومة ضد الفدائيين الفلسطينيين! * كاتب وصحافي لبناني