تستقبل صالة الأحداث الثقافية في معهد العالم العربي معرضاً للصور الضوئية. يتمحور العنوان حول موضوع: "صور سالفة عن دمشق". ويمثل مجموعة كبيرة من الوثائق الفوتوغرافية" بالأسود والأبيض. ترصد الوقائع والمشاهد اليومية مرحلة ما بين عام 1840 و1914. ولا نعثر في الأرشيف السوري على مثل هذه الثروة "الذاكراتية" الخاصة بماضي مدينة آرام والوليد ويوحنا المعمدان - بعض الصور لا تقدر بثمن، جمعها بدر الحاج خلال سنوات طويلة وبذل في بعضها مبالغ طائلة. اقترح فكرة المعرض المؤرخ الياس صنبر ليكون حلقة في سلسلة حول تاريخ المدن العربية - وقد لقي الاقتراح حماسة من مدير المتحف معتبراً أن مصاب المدن العربية من أشد الأخطار التي تنذر بمحق الخصائص الثقافية. ولا يقل الكتاب المرفق أهمية عن المعرض، وقد صدر عن دار "مارقال" في هذه المناسبة، وكتب نصه بدر الحاج نفسه مستعرضاً تاريخ توثيق دمشق والتصوير الضوئي في هذه المرحلة الغامضة. ومن المعروف أن حملة التوثيق الفوتوغرافي انتشرت في سورية ومصر مع منتصف القرن التاسع عشر نتيجة كتابات المستشرقين والرحالة على غرار ما كتبه فرني عام 1840 عن مدينة الأسطورة الطالعة من ألف ليلة وليلة، دمشق. وقد تأسس استشراق الصورة الضوئية ابتداءً من استشراق اللوحة، وبدأت الأستديوهات تؤسس في دمشقوبيروت على أيدي الإرساليات والبحاثة والأثريين والأنتروبولوجيين والحملات العلمية. وأخذت الدولة العثمانية بتوثيق العادات والأزياء المحلية في أقاليم الأمبراطورية إبتداء من حملة فيينا 1873، وتأسس في اسطنبول أستديو الشرق على يد باسكال صباح منذ 1857. قد يكون المصور الدمشقي عبدالله العظم من أوائل المصورين المحليين فهو مهندس قطارات درس في باريس وتعلق بالتصوير وآلته أثناء ذلك. ثم هناك المصور سليمان الحكيم ما بين 1891 - 1913 وهو أنشأ استديو في حي العصرونية. وثّق حريق دمشق عام 1893 يحتوي المعرض على نسخة من صورته - وكذلك حبيب الهواويني 1872 - 1922 يقع محترفه في حي الخراب - وحاز على جوائز كثيرة من الإدارة العثمانية. وعندما أسس "بونفلي" الأستديو المعروف في بيروت عام 1867 كان معاونوه من المصورين اللبنانيين من أمثال: قيصر حكيم وجورج صابونجي. وابتدأ بطباعة البومات فاخرة عن دمشق وكان من الإشاعات انه من المصلحة تصوير دمشق لأنها ستدمر بعد سنوات بالتنظيم التحديثي. ثم يذكر بدر الحاج ان عام 1886 شهد تحولاً انعطافياً كبيراً في هذا النشاط وذلك بانتقاله من الشكل المؤسساتي والتقني الى شيوعه على يد الهواة والسواح بعد انتشار الكاميرات الشخصية. يحفل المعرض بلقطات نادرة تتجاوز التركات "الانتروبولوجية" والتقاليد الاستشراقية في علم الاثار. وهي تترصد الحياة اليومية المغلقة في أسرار نشوة الماضي. وتبدو الصور وكأنها شهادات بصرية اقتنصتها العدسة قبل أن تتشكل بعض معالم الفتنة في المدينة. قبل أن يشيد مثلاً سوق الحميدية، وقبل أن يلتحم حوض نهر بردى بالجسد التنظيمي الذي يفترش سفوح جبل قاسيون. وبعضها يرجع الى ذاكرة ما قبل تشكل بعض الأحياء الشهيرة، راصداً نكبات الجامع الأموي. مسجلاً بعض شخصيات غبطة الأمس من مشايخ الصوفية والموسيقيين والدراويش المولوية والمقرئين وعبدالقادر الجزائري، وأنواع الأزياء الحضرية للجنسين، ويوميات مسعى التجار الصناعي وانتقالهم على الدواب. ثم بعض العمائر مثل "القلعة" والسراي وغيرها من الحمامات الثلاثمئة التي لم يبق منها إلا ما يقارب عدد أصابع اليد الواحدة. وعشرات المساجد والمزارات والسبل العامة، ثم القصور والخانات والقيصريات والبيمارستانات والتكايا والمدارس والمكتبات العامة والميادين والاسواق. وتصل الصور الى توثيق الكنيسة الأولى في المدينة وهي حنانيا. ثم وجوه الحياة العامة والنسوة المحجبات الخارجات من بوابات الدار والحارة والمدينة، والأولاد الذين يزرعون الساحات الداخلية عند تقاطع الحواري المتاهية. كانت هذه البوابات الثلاث تغلق مع مغيب الشمس وتفتح مع مشرقها. يطرح المعرض مشكلة الإهمال والعجز المزمن عن توثيق ذاكرة هذه المدينة النموذجية، كما يطرح وهو الاخطر، مقدمات تدميرها الحضري المبيت خصوصاً وأنه تم باشراف هيئات علمية ومعمارية وتنظيمية فرنسية وعلى رأسها المهندس ميشيل ايكوشار، فقد عمل على تدمير وتخطيط ثلاث مدن هي: دمشقوبيروت والرباط، مطبقاً نظريته المشبوهة التي أفقدت هذه المدن وحدتها الذاكراتية وذلك بعزل كل آبدة روحية عن نسيجها الحضري وتحويلها بدعوى التحديث الى موقع سياحي. اي انه فصم البعد الثقافي عن الحجر والطين والخشب وفتّت حياكة المدينة القديمة واستبدال الوظائف الاجتماعية والسكنية بالاستهلاكية. من المحزن اننا من اشد الشعوب تباكياً على التراث وتفاخراً فارغاً به، ومن اشد الشعوب التي دمرت خصائص مدنها القديمة. رسخ أهل البلد انفسهم هذه المخططات بهجرتهم عن قلب المدينة الى أطرافها المحدثة. ومع الفوضى الديموغرافية "تريفت" هذه البيوت العريقة بسبب ساكنيها الجدد والازدحام والتلوث وتقسيم الدار الى مساكن عدة او هدمها والبناء مكانها بدافع الربح . تتحدّد كل المدن في العالم أفقياً وذلك حفاظاً على رحم المدينة القديمة، ما عدا المدن العربية وخصوصاً دمشق فهي تبنى بصورة تآكلية ذاتية. الحديث يأكل من جسد القديم ويمتطي ذاكرته، وهكذا نحرت وبقرت احياء معمرة وبيوت مذهلة، ذبحت من الوريد الى الوريد بالبلدوزر على مرأى أو مسمع سكانها الأبديين ليشق شارع الثورة الذي سمم رئة المدينة وقضى على ما ابقته الحروب من اخضر. في دمشق ينقلب القصر او المزار الذي قد يرجع الى العهد الأموي الى مطعم او فندق او متجر او مقهى سياحي مبتذل وقد يهدم ويتحول الى مخفر شرطة وسواه. هكذا بهذه الخفة والتفريط والتواطؤ البريء وغير البريء، وحتى أجتثت من زوايا المدينة - العروس مفاتن سحرها المملوكي والأيوبي والعثماني. وتحولت التكية السليمانية التي عمرها أعظم معماري في تاريخ الخلافة سنان باشا الى متحف حربي. لم يتوقف مشروع ايكوشار التدميري يوماً منذ الخمسينات على رغم الدعاوى والقوانين الظاهرة - والتهديد والإغراء والوعيد وتهدئة الخواطر. فالتدمير يتم ببطء مع الاستباحة وهجر المنازل النموذجية وتركها لقانون التداعي، الذاتي الحتمي. يخرجنا المعرض من نشوة الذاكرة ليضعنا أمام حقيقة مريعة وهي ان دموع الندابات والنواحات محترفات الجنائز ما هي الا دموع التماسيح والتي نهشت فتنة الاميرة النائمة نوم اهل الكهف. والمثل يقول: يقتل القتيل ويمشي في جنازته!