إذا أردنا أن نتجاوز ما هو ثانوي في الجدل العام حول أزمة اليسار العربي، وأن نهتم بما هو أعمق مما إذا كان هذا اليسار ما يزال ماركسياً أم ثابت عن ما يعتقد بعض قادته أنه "تهمة" تُلصق به، يحسن أن نناقش موضوعاً محدداً أثاره ذلك الجدل هو التنمية المستقلة مفهوماً وممارسةً. وأظن أن هذا قد يساعد على الارتقاء بالجدل حول أزمة اليسار، والذي يأخذ أشكالاً مختلفة بعضها في أوساط القطاعات الأكثر تقدماً في هذا التيار والتي تسعى إلى مراجعة فكرية تنفر منها قطاعات أخرى. ففي الوقت الذي يستخدم بعض اليساريين في مصر كل ما لديهم من حيلة للهروب من مثل هذه المراجعة، نجد اليسار المغربي مهموماً بها عبر منشورات "اليسار الديموقراطي" التي صدر منها قبل أيام كتاب صغير بالغ الأهمية تحت عنوان "وحدة اليسار في المغرب - لماذا وكيف" أتمنى أن يطلع عليه أصدقاؤنا اليساريون الذين يظنون أن الدعوة إلى مراجعة الماركسية تتربص بهم، كما ظهر في الحوار الذي بدأ في "الحياة" بمقال لكاتب هذه السطور في 22/9 ورد لحسين عبدالرازق في 4/10 وتعقيب على هذا الرد من جانبي، ثم مداخلة لإبراهيم العيسوي في 28/10. وتطرق هذا الحوار، أكثر من تطرق، إلى موضوع التنمية المستقلة الذي رفعه حزب التجمع المصري شعاراً أساسياً في برنامجه من دون أن يقدم أي اجتهاد يوضح علاقة هذه التنمية بمفهومها الذي ظهر في أدبيات مدرسة التبعية التي برزت أساساً في أميركا اللاتينية في الستينات. ومثّلت هذه المدرسة، في زمنها، تطوراً كبيراً في الفكر الماركسي على رغم أنها لم تكن كلها ماركسية، عندما طرحت تقسيماً جديداً للعالم يقوم على وجود مركز للاستغلال يتمثل في الدول الرأسمالية المتقدمة، ويعتبر مسؤولاً عن فقر وتخلف الهوامش أو الأطراف في العالم الثالث. وقدم علماء مجتهدون، بخلاف ما نراه اليوم، مثل جندر فرانك والير شتاين وبرجبش وفوركادو وسونكل وكاردوسو وسانتوس ومارين، دراسات نظرية وتطبيقية ممتعة على بعض دول أميركا اللاتينية لإثبات فكرة أن تخلف العالم الثالث وفقر شعوبه وطبقاته الكادحة هو نتاج طبيعي لعملية التنمية الرأسمالية العالمية، التي نتجت منها تنمية تابعة في الأطراف تمثل شكلاً جديداً للتوسع الاحتكاري، أو ما أُطلق عليه أيضاً تنمية غير متساوية. ولأن القاسم المشترك الأعظم في إطار هذه المدرسة، على رغم التباينات داخلها، هو رفض التبعية الناجمة عن الاندماج في السوق العالمية، كان طبيعياً أن تتبلور في إطارها فكرة التنمية المستقلة التي تقوم على فك هذا الاندماج. هذا هو بتبسيط شديد مفهوم التنمية المستقلة في الأصل والأساس. ومن يستخدمه لا بد أن يعرف أولاً مضمون هذا وما يرمي إليه. فإذا أراد أحدٌ أن يستعيره في سياق مختلف أو بمعنى آخر، عليه أن يوضح كيف أدخل تغييراً فيه حيث لا يتعارض مثلاً مع الاحتفاظ بعلاقة مع السوق العالمية. وليس هذا إلا جزءاً من المراجعة الفكرية التي يفر منها بعض اليساريين ويراوغون في كل مرة يجري نقاش حولها. وربما لو أن الذين يستعيرون مفهوم التنمية المستقلة أجهدوا أنفسهم قليلاً، لوصلوا إلى رؤية مفيدة لبلادهم فعلاً، بدلاً من اللجوء إلى عبارات إنشائية يصفون بها هذا المفهوم الذي بذل بعض رواد مدرسة التبعية جهداً هائلاً في بلورته، ما أكسبه في زمنه أهمية كبرى على رغم اختلافي معه. ولو توافرت مراجعة فكرية لما جرى تقديم مفهوم التنمية المستقلة الى عبارة استثنائية - في برنامج حزب التجمع - عن حرية الإرادة الوطنية المعبّر عنها ديموقراطياً في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على نحو يضمن معدلات نمو اقتصادي مطردة.... عظيم فعلاً أن تكون لدينا إرادة وطنية، ولكن كيف نحولها إلى موارد وإمكانات وإلى عمل جاد واختراع واكتشاف، وما إلى ذلك مما يلزم لزيادة معدلات النمو. فهل نحقق ذلك مثلاً بالبرامج الإنشائية أم بالخطب الثورية أم بالأغاني الحماسية؟!. وهذا دليل واحد على ما يؤدي إلى العجز عن المراجعة الفكرية، إذ يجري تحويل أفكار تاريخية عميقة إلى عبارات وجمل إنشائية يجوز ترديدها في خطب منبرية، ولكن لا يصح أن تكون هي عماد البرامج الحزبية. ومن بين ركام هذه العبارات، لا نجد فكرة ذات معنى في شأن التنمية المستقلة المطروحة الآن، سوى تلك القائلة إن هذه التنمية تفترض الاعتماد على النفس الى أقصى الحدود. ولكن الاعتماد على النفس لا يتعارض أبداً مع الاندماج في الاقتصاد العالمي الذي كان رواد مدرسة التبعية يعتبرونه شراً ليس بعده شر. فهذا الاندماج يكون مفيداً عندما يزداد نصيبنا في التجارة الدولية عبر زيادة صادراتنا الى السوق العالمية. ونحن لا نستطيع أن نزيد صادراتنا من دون أن نعتمد على أنفسنا في تعظيم ما لدينا من سلع وخدمات والارتقاء بها كماً ونوعاً. كما يكون الاندماج مفيداً حين يزداد نصيبنا من الاستثمارات العالمية، وبخاصة تلك التي تضيف الى الاقتصاد الحقيقي، وليس الأموال الساخنة التي تتحرك بسرعة في عمليات مضاربة. ونحن لا نستطيع جذب الاستثمارات التي نريدها إلا إذا اعتمدنا على أنفسنا في ايجاد مناخ استثماري إيجابي. ولذلك فإن الاعتماد على النفس هو الأساس في كل الأحوال. وإذا أخذنا حالة مصر مثالاً، نجد أن المكوّن الخارجي في عملية التنمية جد محدود. فالاستثمارات الأجنبية، بما فيها العربية، ضعيفة للغاية. أما المعونة الأميركية، التي تشهد الأحداث يوماً بعد آخر أنها لم تؤثر على إرادة مصر السياسية، فهناك مشروع طموح للاستعاضة عنها باستثمارات مباشرة. وهكذا فالإسهامات الخارجية في الاقتصاد المصري أقل بكثير من أن تبرر رفع شعار الاعتماد على النفس، وكأن مصر معتمدة على الغير!. صحيح أننا نريد اعتماداً أكثر على أنفسنا، ولكن عبر المزيد من العمل والجهد وليس من خلال قطع روابطنا مع العالم. فالمشكلة الاساسية هي أننا لا نعمل عملاً جاداً. ولا علاقة لذلك بالخارج كي يأتي من يطالبنا بأن نعتمد على أنفسنا. فالإيحاء المتضمن في التنمية المستقلة، وقد صارت شعاراً بعد تجريدها من معناها التاريخي من دون اجتهاد لبلورة مضمون جديد لها، هو أن في مصر تنمية تابعة!. ومع ذلك لا يوضح أصحاب هذا الشعار ما هي التنمية التابعة التي يطرحون التنمية المستقلة بديلاً منها!. لقد حدد رواد مدرسة التبعية طابع التنمية التابعة في وضوح، واعتبروا الاندماج في الاقتصاد العالمي منتجاً لها تحت أي ظرف تقريباً. فماذا تكون التنمية التابعة الآن إذا كان من يستعيرون مفهوم التنمية المستقلة لا يعارضون قدراً من الاندماج كما يتضح من برنامج حزب التجمع ومن مقال حسين عبدالرازق الحياة 22/9. وهذا مظهر آخر من مظاهر الاختلال الناجم عن غياب المراجعة الفكرية، التي لا يكفي حتى للشروع فيها الاعتراف بأن انهيار الاتحاد السوفياتي وتوابعه يرجع الى غياب الديموقراطية، وهو ما اعتبر إبراهيم العيسوي الحياة 28/10 وروده في برنامج حزب التجمع بمثابة شجاعة منقطعة النظير. فالاجتهاد المطلوب والغائب ينبغي أن يستهدف معرفة لماذا كانت الديموقراطية مستحيلة في ظل حكم كل حزب يساري حتى الآن، وما الذي ينبغي عمله - وليس فقط قوله - لإزالة هذه الاستحالة؟ ولا يغني عن ذلك أبداً الزعم بأن الحرية السياسية ليست حكراً على الليبرالية. فهذه الحرية مصدرها الأول - لمن لا يعلم - هو الليبرالية. ومن يريد أن يدعم منظومته الفكرية بقبس من الليبرالية، لا بد من أن يوضح كيف يتحقق ذلك من دون تناقض بنائي أو وظيفي. وما لم تحدث مراجعة فكرية جادة للماركسية، يصعب أن يتواءم أي حزب يساري مع أي شكل من أشكال الديموقراطية، وليس فقط الديموقراطية البرلمانية التي لا أعرف لماذا اختارها إبراهيم العيسوي الحياة 28/10 من دون غيرها. فهذا الشكل الديموقراطي البرلماني ليس معروفاً في الدول الرأسمالية كلها بخلاف ما قاله، وإنما في بعضها فقط وأهمها بريطانيا، بينما تعرف دول أخرى مثل أميركا الديموقراطية الرئاسية، وتشهد غيرها، مثل فرنسا مزيجاً من النظامين البرلماني والرئاسي. وليست الديموقراطية البرلمانية أو الرئاسية إلا شكلاً لنظام الحكم يستند على مضمون من الحريات، في العكس منه الحرية الفردية التي تعني ببساطة وجود حيز خاص للفرد لا ينبغي الاقتراب منه. ويترتب على ذلك أن يكون الفرد أقوى من نظام الحكم، لأنه هو الذي يأتي بالحكام ويذهب بهم. ولذلك نسمي نظام الحكم هنا متغيراً تابعاً للمجتمع وليس مستقلاً عنه أو متعالياً عليه، بعكس الحال عندما يحكم حزب يساري يعطي نفسه الحق في أن يكون هو طليعة المجتمع، وإن لم يكن طليعة طبقة واحدة فيه. وبموجب هذا الادعاء، الذي يصادر في حد ذاته، كل الحريات لا الحرية السياسية وحدها، يفرض الحزب اليساري مشروعه لإعادة بناء المجتمع وفقاً لخياراته الفكرية وليس ما يختاره أفراد هذا المجتمع. فالأحزاب ذات النظرة الكلية الشمولية، لا بد من أن تفرض خياراتها على المجتمع أياً تكن الشعارات التي ترفعها. وحتى إذا وصلت إلى الحكم عبر الانتخابات، فهي تتجاوز التفويض الانتخابي الجزئي بطبيعته، سواء من حيث الزمن لأنه موقوت بموعد الانتخابات التالية، أو من حيث الموضوع لأنه مرتبط ببرنامج انتخابي لا يُفصح عادة عن نيات أصحابه في وضع أنفسهم فوق المجتمع والسعي الى تحقيق ما يشبه هندسة اجتماعية، كما لو كان هذا المجتمع مكوناً من حجارة وأخشاب لا من بشر. ولذلك فمن دون مراجعة فكرية جادة، يصعب تصور أن يصل حزب يساري إلى الحكم ثم يتركه إذا أسقطه الناخبون في الانتخابات التالية، بل ربما لا تكون هناك انتخابات تالية أصلاً. ولا فرق في ذلك بين حزب يساري وحزب ديني متطرف، على رغم أن بعض أحزاب اليسار احترفت هجاء الإسلام السياسي تملقاً لحكومات دولها. فالقاسم المشترك - والأكبر من أي خلاف - بين حزبين يساري وديني هو النظرة الكلية الشمولية التي لا تترك مجالاً لحرية الناس على أي صعيد. * كاتب مصري. رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".