في آخر جلسة عقدها مجلس الوزراء اللبناني السابق، تمنى رئيسه الدكتور سليم الحص ان تكون الحكومة المقبلة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وطالب منتقديه ألا يتفاءلوا كثيراً باحتمالات اجتراح حلول سحرية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، مؤكداً ان الساحر الذي ينتظره اللبنانيون غير موجود. الرئيس رفيق الحريري حرص من جهة اخرى على الاعتراف بهذا الواقع، محذّراً المواطنين في البيان الوزاري، من المبالغة في الرهان على اجتراح حلول سحرية، لأن حكومته لا تريد تخدير الناس بالوعود الوردية. والواضح انه تحاشى السقوط في خطأ الوعود التي أغدقها على اللبنانيين في بيان حكومته الاولى عام 1992، ثم اضطر الى التراجع عنها بعد الانتكاسة التي مُني بها مشروع سلام الشرق الاوسط. وكان من الطبيعي ان تبدد الصورة الشاحبة التي رُسم بها البيان، آمال المراهنين على انقاذ الوضع الاقتصادي بواسطة من أطلق عليه الناخبون لقب "المُنقذ"، وإلا فما قيمة التغيير الذي فرضته المعركة الانتخابية اذا كان الحريري سيتكلم لغة سليم الحص، ويتعمّد المحاذرة في تصدّيه للمشكلات العصيّة القائمة؟ يؤكد القريبون من صانعي القرار المتعلق بتطبيق سياسة سورية في لبنان، ان دمشق بعثت بسلسلة ايحاءات الى الرئيس اميل لحود تطالبه بإنهاء مرحلة حكومة الدكتور سليم الحص والاستعاضة عنها بحكومة قادرة على الاستفادة من التحولات المستجدة في سورية. وتردد رئيس الجمهورية في التجاوب مع هذه الرغبة بسبب ارتياحه الكامل الى اداء الحص، وعدم انسجامه مع البديل المطروح رفيق الحريري. وتسلّح الرئيس لحود باتفاقه مع الرئيس الراحل حافظ الاسد الذي يحصر به وحده مسؤولية التعاطي بالشأن اللبناني الداخلي، ما عدا الامور المتعلقة بوحدة المسارين. وانتظر المشرفون على رعاية المصالح السورية في لبنان معركة الانتخابات لكي يمهّدوا للتغيير المطلوب بتحقيق فوز كاسح حصدت نتائجه قائمة الحريري على نحو غير مسبوق. ويبدو ان النائب السابق نجاح واكيم لمس حجم حملة الاستقطاب المعدّة لصالح الحريري، فآثر الانسحاب من مبارزة ثأرية خسر فيها الرئيس لحود. وهكذا فرضت حصيلة معركة بيروت الانتخابية عودة الحريري الى السراي بعد غياب دام سنة وعشرة اشهر. ومع ان الدكتور الحص اكتفى باعلان خيبة أمله من الشارع الذي خذله، الا ان الوزير الدكتور عصام نعمان تحدث عن تجاوزات نفّذها رجال الامن العام بأساليب ساعدت على انتصار الحريري بطريقة كاسحة. والمرجح ان هذا الاتهام عكس قناعة المسؤولين في القصر والسراي، الا ان التهديد بالقصاص لم يتُرجم الى فعل لألف سبب وسبب. وهكذا قضت المصلحة العليا بأن يتصالح الضدان ويعقدا شراكة يمكن ان تحقق للبنانيين ما عجزت حكومة الحص عن تحقيقه، اي الخروج من مستنقع الكساد والركود والعجز والبطالة والهجرة… الى مستقبل اكثر انتعاشاً واستقراراً وأمناً. ولقد أعرب الدكتور بشّار الاسد عن دعمه وارتياحه لهذه الخطوة الايجابية التي تمثّلت بتشكيل الحكومة، وأرست دعائم التعاون للمرحلة المقبلة. يحتار المراقبون في تفسير منطق التحوّل الذي أظهرته القيادة السورية تجاه رفيق الحريري، في حين أيّدت في السابق قرار الرئيس لحود بقبول استقالته، واعترضت ايضاً على سياسة مؤيدي استمراره في الحكم من امثال حكمت الشهابي وعبدالحليم خدام! الجواب على هذا التحوّل ينطوي على اكثر من تأويل وتفسير: الاحتمال الاول يشير الى مخاوف سورية من تكرار احداث ايار مايو 1992 التي أطاحت بوزارة عمر كرامي، خصوصاً وان حكومة الحص لم تنجح في وقف الانهيار الاقتصادي. بينما يقود الاحتمال الثاني الى تجاوب سورية مع رغبة المطالبين بعودة الحريري، إن كان ذلك عبر ناخبيه الكُثر... ام عبر اصدقائه في مواقع السلطة من امثال: الملك عبدالله الثاني، والرئيس حسني مبارك، والرئيس جاك شيراك وسواهم. اما الاحتمال الثالث فيرجح الفكرة السائدة بأن الحريري وحده يعرف مفاتيح آلة الحكم المعقدة التي اخترعها عام 1992 ثم استمر في تشغيلها بواسطة الديون مدة ست سنوات. ومع ان خلفه الدكتور الحص حاول تقليده في موضوع الاقتراض، الا ان معالجته لأزمة الدين العام وخدمته لم تحقق الاستقرار المطلوب. اضافة الى هذه الاقتراحات، يرى بعض المحللين ان الموقف السوري الداعم لعودة الحريري، يحمل في طيّاته صورة الامتحان الاخير، وذلك بهدف استكشاف امكاناته المؤثرة في عملية الانقاذ. ويبدو انه تنبّه الى خطورة مرحلة التحديات، والى صعوبة تحقيق آمال الناس، فإذا به يربط مهمة النجاح بضرورة ادخال طاقمه المفضّل في التشكيلة الحكومية. وخشية ان يتذرّع مستقبلاً بحجة استبعاد معاونيه لتبرير اي فشل محتمل، فقد سمح "المشرف الحقيقي" على توزيع الحقائب بإعادة فريق عمله المؤلف من: وزير المال فؤاد السنيورة، ووزير الدولة بهيج طبّارة، ووزير العدل سمير الجسر، ووزير التربية عبدالرحيم مراد، ووزير دولة بشارة مرهج، ووزير العدل باسل فليحان. تشكيلة الحكومة الموسعة لم تحدث الوقع المستُحبّ لدى المواطنين الذين فوجئوا بأن الصورة التذكارية التي التُقطت لثلاثين وزيراً لا يتسع حجمها لشاشة التلفزيون. كان ملفتاً ان تاريخ الحكومات في لبنان لم يعرف تشكيلة مماثلة لها، ان كان من حيث ضخامة العدد… ام من حيث فقدان الانسجام. ورأى فيها كثيرون تجسيداً لنظرية توزيع الحصص على الرؤساء الثلاثة، اضافة الى حصة وليد جنبلاط التي استدعت رفع العدد الى ثلاثين وزيراً، بحيث تشابه لبنان في هذا الامر مع الحكومة الصينية الممثلة لبليون ومئتي مليون نسمة. ومع ان الحريري وصفها بأنها تمثل مختلف التيارات والتوازنات، الا ان مصادر بكركي تشكّك في صحة هذه المعايير، وترى ان الرئيس لحود انتقى الوزراء الموارنة ممن تطمئن سورية الى مواقفهم السياسية. وفي تصريح امتنعت وكالات الانباء عن نشره يقول النائب السابق رشيد الخازن في بعض مقاطعه المُخفّفة: ان هذه ليست حكومة اتحاد وطني، بل حكومة اتحاد حصص وتقاسم جبنة، لأن ممثلي الاحزاب المسيحية مُهمّشون ومُستبعَدون، بعكس الاحزاب الاخرى مثل: البعث العربي الاشتراكي، والسوري القومي الاجتماعي، والتقدمي الاشتراكي، وحركة "امل"، ثم يتهم في تصريحه بعض القوى النافذة لانها اختارت شريكين في مشروع هاتف خليوي لتوزيرهما على امل حيازة رخصة ثالثة اثناء مرحلة الخصخصة. ويؤيده في هذا الانتقاد النائب بيار امين الجميل الذي اعلن ان التيارات الاساسية أستُبعدت عن التشكيلة، ولم يبق فيها سوى اسماء لا توحي بالثقة… واخرى تثير حولها علامات الاستفهام. وفي هذا السياق اصدر "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" بياناً موقّعاً من 35 عضواً اعربوا فيه "عن مشاعر الاستهجان والسخط حيال ما تتكشّف عنه معطيات تأليف الحكومة الاولى بعد الانتخابات النيابية". ووجّه المجتمعون نداء الى كل قوى الاعتراض الديموقراطي مطالبين بضرورة التنسيق وتعبئة الارادة الشعبية من اجل اعتماد المصالح الوطنية المعيار الوحيد لتأليف الحكومات. المعيار الوحيد الذي اعتمده الرئيس رفيق الحريري اثناء توزيع حصص الآخرين، هو ارضاء جميع القوى المؤثرة على برنامجه السياسي والاقتصادي، بدءاً بنبيه بري وميشال المرّ… وانتهاء بوليد جنبلاط واميل لحود. اضافة الى هذا التوافق، فإن دمشق تسعى الى ضمان القدر الكافي من التفاهم بحيث لا تؤثر الظروف الاقليمية السيئة على نجاح تجربة الوفاق اللبناني الداخلي. ويتوقع الديبلوماسيون في بيروت ان يكون الوضع الاقليمي المتوتر مصدر ارتياح للحريري على الصعيد الداخلي. ومعنى هذا انه قد يستخدم حال الاستنفار والتشنّج في المنطقة ليبرّر تأجيل الحلول للمستحقات المالية المتراكمة، ويقلص مساحة التنفيذ للبرنامج الانمائي الذي قدمه في البيان الوزاري. وهو بيان فضفاض ردّ على دعوة المطالبين باستعادة القرار اللبناني المستقل بتجديد التزام الدولة اللبنانية لوحدة المسارين، انطلاقاً من استراتيجية تفترض وحدة التصوّر والمصير، وتؤكد ان الوجود العسكري السوري في لبنان هو "شرعي وضروري وموقت". لكن المُشكّكين في نيّات الرعاية السورية - مثل الاحرار والعوني والقوات - يقولون ان الشرعي لم يعد شرعياً بعد انسحاب اسرائيل... والضروري لم يعد ضرورياً بعد الضربات الموجعة التي تلقاها لبنان من دون ان يظفر بالحماية المُتفق عليها… والموقت اصبح دائماً بعد مرور ربع قرن على التواجد العسكري السوري فوق مساحة تزيد على سبعين في المئة من مساحة الاراضي اللبنانية. ومثل هذا الاعتراض قد يكبر ليصبح بحجم الحكومة المثقلة بالوزراء، اذا ما تعرض لبنان لضربات اسرائيلية مدمّرة من دون ان تردّ سورية بالشكل الذي يفرضه الاتفاق الأمني بين البلدين. وربما يتعرض الحريري في المرحلة المقبلة لامتحان اكبر واخطر من الامتحان الذي تعرض له بعد مجزرة قانا، الأمر الذي يضع لبنان مرة اخرى امام اختبار صلابة الوحدة الوطنية ومتانة النسيج الداخلي! وربما يكون تحذير الأمين العام كوفي أنان من مخاطر تحول لبنان مجدداً الى مسرح لصراع الآخرين، النذير لاستباق أحداث تهيء لها اسرائيل أثناء مرحلة الانشغال الأميركي بفترة التسلم والتسليم. وهي فترة بالغة الخطورة خصوصاً بعدما تأكدت الوزيرة اولبرايت من جواب الرئيس اميل لحود لها، ان الانسحاب الاسرائيلي غير كاف لوقف نشاط "حزب الله"، في حين يرى الأمين العام وواشنطن ان عملية الأسرى الاسرائيليين نُفذت لصالح ايران وسورية والفلسطينيين... وان لبنان قد أعد الساحة لاستئناف العمليات من الجنوب! * كاتب وصحافي لبناني.