ما يجري راهناً على المسار الفلسطيني للتسوية، صراع مفتوح بين منظورين، أولهما، منظور يتبناه التحالف الإسرائيلي - الاميركي، وقوامه السعي إلى إعادة المسار وفقاً للأساليب والقواعد التي عرفتها مراحل التفاوض قبل "هبّة الأقصى"، وكأن شيئاً لم يحدث. وثانيهما، منظور يجتهد الشريك الفلسطيني للأخذ به مدعوماً، ولعله مدفوع إليه دفعاً، بمزاج الشارع الفلسطيني، ومجمل الرأي العام العربي وبعض السياسات العربية الرسمية. ومضمونه، ضرورة القطيعة بشكل ما مع أنماط تفاوض ما قبل الهبّة، واشتقاق مقاربة جديدة، أهم ملامحها تجريب المزاوجة بين التفاوض وبين حدود دنيا أو قصوى بحسب الأحوال من المقاومة. يود الطرف الإسرائيلي حشر المسار الفلسطيني مجدداً في قمقم الدائرة العقيمة التي اختطها وحرص على تنفيذها منذ مؤتمر مدريد، حيث الاستفراد بالشريك الفلسطيني وانتفاء عناصره المفاوضة على هواه، والتحكم في العملية السياسية الفلسطينية الداخلية بما يوافق رغبته في إبعاد دعاة المقاومة، وعزل الأممالمتحدة وشرعيتها الدولية العامة والفلسطينية الخاصة، وجعل التفاوض مرجعية التفاوض، وحصر الوسطاء في الحليف الأميركي، والحيلولة دون النظام العربي وقضية فلسطين. من أجل ذلك كله، تستخدم السياسة الإسرائيلية معظم الآليات المتاحة لها، كالبطش العسكري والحصار الاقتصادي وضرب البنية التحتية، وإهدار كرامة السلطة، وشق ما بينها وبين الظهير الشعبي عبر مطالبتها بتصرفات تضعها موضع الاتهام بالتواطؤ مع العدو، وصولاً الى التهديد بالبحث عن بديل لها باعتبار أنها لم تعد شريكاً تفاوضياً مجدياً، فضلاً عن التلويح بإمكان تكوين ما يدعى "حكومة طوارئ إسرائيلية"، تضيف إلى الحكومة الحالية قوة إرهابية رديفة من الليكود ومحازبيه. وكأن المفاوضين الفلسطينيين والعرب ما زالوا يعتقدون في الفرق بين إرهاب حزب العمل وإرهاب الليكود! وبدوره يستشعر المفاوض الفلسطيني أن "هبّة الأقصى" أسست جدلاً لمرحلة جديدة على مسار التسوية، وأن إعادة التفاوض بحسب الممارسة السابقة عليها، هي انتكاسة حقيقية لموقفه على الصعيدين التفاوضي والداخلي. ويبدو هذا التقدير صحيحاً إلى حد اليقين، بل وهناك ما يدعو موضوعياً للربط الوثيق بين خسائر هذا المفاوض على الصعيدين المذكورين بضربة واحدة، هي تلك التي ستتأتى فرضاً من العودة الى التفاوض بحسب أجندة ما قبل الهبّة. ففي هذه الحال، سيظهر الشريك الفلسطيني وكأنه المسؤول عن تعطيل مسيرة التسوية بافتعال "الأحداث" التي بدأت في 28 أيلول سبتمبر الماضي، بينما الحقيقة عكس ذلك بالمرة، على الأقل لأن إسرائيل رفضت التحقيق الدولي المحايد، وسوف تلحق بصدقية السلطة الفلسطينية المفاوضة خسارة جسيمة بين يدي الرأي العام الفلسطيني والعربي. وسيتعين عليها تبرير آلية تفاوضية ثبت عمقها بالنسبة إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية. ثم إن إحباطاً بالغاً سيطاول الظهير الشعبي الفلسطيني الذي سيسأل عن جدوى تضحياته في غمرة الهبّة الأخيرة، وقد يمتد هذا الإحباط بأثر مستقبلي عبر التساؤل عن عوائد الانتفاضة مجدداً في ظل المعادلة التفاوضية ذاتها. وهكذا، ربما أضحى المفاوض الفلسطيني في مواجهة الغضب الداخلي بدلاً من أن يكون مترجماً لهذا الغضب على طاولة التفاوض. وفي معمعة التلاوم المتبادل بين المفاوضين ومعارضيهم، الذي سينجم عن استئناف التفاوض من نقطة العقم التقليدية، سيتقوض الحد المعقول من التلاحم الوطني الفلسطيني الذي تحقق في سياق الهبّة الأخيرة، ولا يستبعد أن يمتد هذا التقويض إلى الشارع العربي. وهذا كله هو ما تريده إسرائيل، لأنه يأتي على أبرز منجزات الهبّة. يشجع إسرائيل على المضي في منظورها والتعامي عن التغير الذي واكب الهبة في البيئتين الفلسطينية والعربية، تقاليد التفاوض الفلسطيني على مدار العقد الماضي، وليس صحيحاً أن نخبة الحكم في تل أبيب تجعل هذا التغيير ولا تلقي إليه بالاً. فالثقة التي تحاول الظهور بها على الملأ، هي أقرب الى القناع الزائف، لكنها بِعَضِ الأصابع الفلسطينية بقوة إرهابية فائضة، تُطمئِنُ ذاتها إلى احتمال خضوع الشريك الفلسطيني إلى سيرته التفاوضية الأولى، حيث التمتع أو الحرد مجرد موقف موقت سرعان ما يزول. والواقع أن "هبّة الأقصى" بما ترتب عليها من تحولات في بيئة مسار التسوية الفلسطيني، محلياً وعربياً وإسلامياً، ولا سيما تعميد خطوط التفاوض حول ما يسمى بالقضايا النهائية بالدم، أوصلت رسالة بالغة الوضوح إلى صناع القرار الإسرائيليين في الحكم والمعارضة. ونكتفي من مؤشرات هذه الملاحظة بالتنادي الإسرائيلي الى حكومة الطوارئ، التي لا يتم اللجوء إليها في حالات الاسترخاء والثقة. على أن الاعتراف الإسرائيلي بفشل تسوية الإملاء والقوة، ما زال يحتاج إلى استمرارية في تلاوة رسالة الهبّة. ومن الحكمة بمكان أن تدار هذه الاستمرارية بعقلانية وتدبر شديدي الحساسية. فإن رفعت إسرائيل وتيرة العنف جوبهت بعنف محسوب، وإن شكلت حكومة طوارئ، وجدت أمامها حكومة فلسطينية شاملة لكل ألوان الطيف السياسي، وإن أطبقت حصارها الاقتصادي، استدعى الفلسطينيون، سلطة ومنظمة تحرير وقوى سياسية مختلفة وجماهير، إجراءات زمن اقتصاد الانتفاضة وليس هذا الزمن ببعيد ولا الاصطبار على تقشفه بعزيز. الى ذلك، فإنه يبقى من حق الطرف الفلسطيني الدأب على نشدان الحماية الدولية، كما أن الشرعية الدولية الفلسطينية، هي التي ينبغي أن تظل سقف التفاوض، شريطة أن يكون هذا التفاوض لتطبيق هذه الشرعية وليس من نقطة الصفر أو التفاوض عليها. ولكن، تُرى لو لم يتمكن الجانب الفلسطيني من تمرير منظوره، الهادف للجمع ما بين التفاوض، والحركة الميدانية المقاومة، وذلك بتوقف الهبّة لسبب أو لآخر، هل يُبرر ذلك القبول بالمنظور الإسرائيلي؟ الخبرة تقول، إن واقعاً كهذا قد ينتكس بالموقف الفلسطيني التفاوضي كما ألمحنا أعلاه، غير أن الأحداث سوف تعيد انتاج ذاتها، ولو بعد حين. فلطالما شاع الظن بأن الحركة النضالية الفلسطينية أوشكت على الأفول، ولطالما خيّبت شكيمة الفلسطينيين هذا الظن. * كاتب فلسطيني.