قطاعات الشعب الفلسطيني بلا استثناء، تقف هذه الأيام أمام أسئلة وخيارات صعبة حقا وقد توصف عن جدارة بالمصيرية. الفلسطينيون في الملاجئ وفي الضفة وغزة والقدس وداخل اسرائيل. المنغمسون منهم في التسوية والمعارضون، المتمسكون بمنظمة التحرير والعازفون عنها، المتحيزون لسلطة الحكم الذاتي والممتعضون منها.. مطلوب منهم جميعا التعامل مع استفهامات شديدة الالحاح وفي فسحة زمنية تبدو محدودة. ربما توحي النظرة العامة البانورامية بأن التحديات المطروحة على هذه الجموع مختلفة نوعيا. لكن الامر هو غير ذلك على الارجح. فمن حاصل الاجابات والمألات واساليب معالجة الاسئلة التي ستنتهي اليها هذه الجموع بقواها السياسية والمدنية قد تخرج علينا الحقيقة الفلسطينية في ثوب الآخر. فلنتأمل بعض النماذج بلا ترتيب: 1 - يتساءل مفاوضو السلطة عن مغزى العرض الاسرائيلي بدمج بعض من اتفاق واي في ما يسمى بمفاوضات الوضع النهائي. ولابد ان باراك قدم لهم مبرراته لهذا العرض، لكنهم يحاولون استكشاف الاسباب والانعكاسات الحقيقية. فقد تخفى الاجندة الاسرائيلية ما لا يسر. ولأن ايهود باراك كرر لاءاته الشهيرة محددا سقفه التفاوضي تجاه القضايا الاهم المرجأ، فقد بات المفاوض الفلسطيني يوقن بصحة اختفاء المسافة بين برامج الحكومات الاسرائيلية على تباينها، ويتساءل عما عساه يفعل ازاء سياسات حقيقية وليس دعاوي انتخابية؟ انه اذا استجاب لها اهدر حقوقه بما لا يطاق، وان لم يستجب فان عليه تحديد اي نمط كفاحي يسلك لمتابعة هذه الحقوق. لكن هل ابقى مسار أوسلو على مجال للتراجع وهو الذي صمم من طريق واحد في اتجاه واحد يصعب التوقف فيه ناهيك عن التقهقر؟. وعندما يستعرض هذا المفاوض التفاعلات على ما بقي من مسارات التسوية والغزل المتبادل بين اطرافها، تساوره الهواجس في انه مقبل على وحدانية حقيقية في مواجهة الطرف الاسرائيلي. وبغض النظر عن مستوى التنسيق بين المسارات العربية، فلعل المفاوضين الفلسطينيين كانوا يستأنسون على نحو ما بوجود شركاء عرب على الطريق، ويأملون في ان يحفز ذلك اسرائيل على تقديم اشياء ترضى فلسطين وتؤكد عزلتها، فما الذي يحثها على ذلك ان تكرس غياب سورية ولبنان عن الطريق بعد تسكين جبهتيهما بمعاهدات تسوية نهائية؟. لنا ان نتوقع على كل حال انشغال المفاوض الفلسطيني بمدى نجاح الجنرال السابق باراك في ادارة تكتيك التلاعب بالمسارات، والتداعيات المتوقعة لذلك على اوراق التفاوض الفلسطينية. 2- تتساءل قوى المعارضة الفلسطينية سرا وعلانية حول مصيرها الذاتي علاوة على مصير خطابها السياسي، في ظل التحولات الفارقة في سياسات قواعدها نصف او حتى شبه الآمنة في دمشق وغيرها من عواصم الاقامة. وحال هذه القوى المنظمة كحال محازبيها ومشايعيها من الافراد والجماعات الاقل تأطراً، يدعو الى الاسى. انهم جميعا مدعوون، قسراً في التحليل الأخير، لإجراء تعديلات قد تتعدى الشكل الى الجوهر والمضمون، وهم في حيرة من أمرهم، هل يحاورون أهل التسوية أم لا يحاورون؟ وليس بعد القبول بالحوار مع هؤلاء الأخيرين الا التجاوب بشكل ما مع صيغة التسوية التي طالما رفضوها. لقد اشرنا الى أن لهذه الصيغة اتجاهاً واحداً فقط، لأن بدائلها تبدو محاصرة وتحت السيطرة. 3- على ان أهل التسوية بدورهم يهمسون بينهم وبين أنفسهم بما إذا كان من الحكمة إلحاق كل القوى الفلسطينية وحشرها في صيغة وظيفة تفاوضية انها ظهير للمفاوض إن احسن التعامل معها واستخدامها. ويبدو المثل الاسرائيلي نموذجيا في هذا الاطار. وربما نشأ اخيرا شئ من هذا الإدراك بين يدي المفاوضين الفلسطينيين. ذلك أن منهم الآن من يتساءل عما سيبقى لأنماط المقاومة الأخرى من أنصار يمكن التلويح بهم إن اصطف الجميع وراء أوسلو؟. 4- هناك عشرات من التساؤلات التي تتفاعل في العقل الجمعي لشرائح الشعب الفلسطيني. فاللاجئون لا يدرون ماذا يراد بهم وأي مصائر تنتظرهم. لقد ادركوا الآن ما يكفي لتثبيت شكوكهم في احتمال تطبيق القرار 194 وحق العودة. تتجلى مبررات هذه الشكوك ليس فقط من مواقف القوى الحاكمة لمسار التسوية كالولايات المتحدة، ولكن أيضا من استمرار استبعاد الميراث القانوني للقضية الفلسطينية برمتها. أليس الانصياع للضغوط التي حالت دون عقد مؤتمر جنيف حول تطبيق اتفاقية حماية المدنيين وقت الحرب الشهر الماضي، مؤشراً قوياً على ذلك؟. ويصدق منطق اثارة التكهنات والافتراضات نفسه على المقدسيين الفلسطينيين. ولعلنا لا نتجاوز كثيراً إن زعمنا أن لدى عرب 1948 أيضا ما يدعوهم الى التساؤل عن تأثير ما يجري على صعيد القضية الام عليهم أنفسهم. ايعقل ان يظل مليون من أبناء فلسطين مخبئين في جوف اسرائيل الى ما لا نهاية تحت يافطة المواطنة التي ثبت انها لا ولن تعني المساواة في دولة اليهود؟. وهناك اسئلة اخرى معلقة على رؤوس الجميع، عن الدولة وعلاقتها بالتحرير وحدود الاستقلال، وعن من تبقى من الحلفاء والمساندين لهذا الهدف، وعما اذا كان من الممكن حقا اعادة وصل ما انقطع مع الحقيقة الفلسطينية الواحدة على غرار ما حدث في زمن منظمة التحرير الذهبي، ومثل ذلك كثير. لقد عاش الفلسطينيون قرناً من التساؤلات، ومع انهم تكيفوا مع قلق البحث عن الاجابات، الا ان نهاية هذاالقرن تطالبهم بالتعامل عاجلاً مع ما يمكن تسميته بأسئلة النقطة الحرجة التي يتحدد على اساسها المسار والمصير. وربما يتعين على من يعطف صدقاً على نضالهم، مساعدتهم في تخطي هذه النقطة بأقصى قدر من الأمان. * كاتب فلسطيني