الدرس التفاوضي الأكبر الذي يستقى من جولة "واي بلانتيشن"، وهو نجاح حكومة الليكود وشركائه في جر كل المعنيين الى مفهومها حول إمكان إعادة التفاوض على ما تم الاتفاق في شأنه. وهي المرة الثانية التي تمرر فيها هذه الحكومة هذا المفهوم بوضوح بعد تجربة وضع الخليل، وذلك بغرض تحسين الشروط والمواقع الاسرائيلية وإستحلاب مزيد من المكاسب. ونظراً لتكراريته، يكاد أسلوب إعادة التفاوض يرتقي الى مصاف عناصر الاستراتيجية الاسرائيلية التفاوضية، على رغم أنه ينتمي أصلاً الى الجوانب التكتيكية. والظاهر أن الذي أغرى حكومة الليكود بهذا التكتيك هو ثبوت نجاعته، ولا سيما في ضوء ميوع الوسيط الاميركي وضعف الضمانات المقدمة منه الى الطرف الفلسطيني بعد كل اتفاق، وغموض مرجعية التفاوض. مثل هذا التكتيك أو الاستراتيجية لا يبشر بخير بالنسبة الى تطبيق ما قد يتوصل إليه - مفاوضو "واي بلانتيشن" وأية جولات تفاوضية أخرى، فثمة فرص واحتمالات مستمرة لئن يماطل الطرف الاسرائيلي في التنفيذ، ما دامت الاتفاقات الشاملة أو الجزئية، تخلو من عقوبات يمكن اتخاذها بحق المماطلين. على أن هناك دروساً تفاوضية وعظات أخرى يمكن تفهمها من خلال الوقائع المصاحبة للجولة الأخيرة. فعلى ضفاف "واي بلانتيشن" وغير بعيد عن ما جرى في اطارها، قدم الطرف الاسرائيلي عرضاً يستحق التأمل من لدى خبراء اعداد المسرح لمساندة الموقف التفاوضي. بدأت مشاهد هذا العرض فور الدعوة الاميركية لهذه الجولة، ثم استمر توالي المشاهد اثناءها على نحو يدعو الى دهشة من ذلك التناغم في الحركة بين الصعيدين الرسمي والشعبي. ومن غير حصر كامل لسيناريو التفاوض، وكذلك من دون ترتيب لمشاهده يمكن رصد التحركات الآتية: - تسليم أريل شارون وزارة الخارجية، وكان الرجل قضى العامين الاخيرين في رسم الخرائط والتمهيد لمفاوضات الوضع النهائي للقضية الفلسطينية طبقاً للرؤية الصهيونية البحتة في صورتها الأكثر لصوصية، والمتيقن أنه تأبط في رحلته الى المنتجع الاميركي ملفاته وخرائطه التي فصلها على مقاس طرح رئيسه بنيامين نتانياهو. ولا شك في أن مجرد تقعيده، وهو مجرم حرب مشهور، على طاولة التفاوض، ينطوي على رسالة عن نوعية الفكر الذي يستهدي به الفريق الاسرائيلي. - عمد نتانياهو الى إبراز الاستيطان والمستوطنين في واجهة الصورة الاسرائيلية قبل سفره الى الولاياتالمتحدة وأثناء انعقاد القمة. لماذا؟ لأن الأرض والاستيطان هما جوهر ما يحف بعقل المفاوض الاسرائيلي. كل الرموز الاخرى هي أقل إيحاء من هذين الرمزين. وما يبغيه المفاوض الاسرائيلي هو الظهور بهيئة المكره على مراعاة جبهته الداخلية الأميل الى ما يدعي بالتشدد. وهي وظيفة ليس لها الا المستوطنون. - إستنفر شركاء الليكود كحزبي "المندال" و"حوليدت" قواهم، وانذروا رئيس الوزراء إن هو تساهل في قضية إعادة الانتشار وشكل هؤلاء مع المستوطنين ما يشبه كتلة ضغط من خلف المفاوض الاسرائيلي، داعينه الى وقف "التنازل" للفلسطينيين. ولاحقت هذه الكتلة نتانياهو من اسرائيل الى "واي بلانتيشن"، وسعى هو بدوره الى توظيفها في قاعة التفاوض، بل وخرج من القاعة الى ممثليهم ليطمئنهم على صحة مساره الصهيوني... مثلهم تماماً. - طالب الاسرائيليون الوسيط الشريك؟ الاميركي بأموال يستخدمونها لإعادة الانتشار في الاراضي المحتلة نصف بليون دولار. ولا يعرف المرء نموذجا نظيرا لهذا الابتزاز. فالاسرائيليون يثبتون مجدداً ممارستهم للاحتلال "اللوكس"، إذ الطرف الخاضع للاحتلال مطالب بحماية مغتصبيه امنيا، والوسيط مطالب بتمويل تحريك القوات المحتلة. وهكذا فإن كل خطوة لها ثمن من آخرين. ولا يصلح هذا التكتيك التفاوضي إلا في الحالات التي تمضي فيه الشرعية والقانون الدوليين في اجازة ممتدة. - توارت من المسرح التفاوضي تماماً واختفت، القوى الاسرائيلية الموسومة افتراضا بالعطف على التسوية السلمية، وما يدعى بالحل الوسط التاريخي. حزب العمل والذين يدورون في فلكه، فلم يُسمع في غمرة جولة لايهود باراك وحلفائه حساً ولا ركزاً. وهذا مظهر من مظاهر الائتلاف الوطني في صورته المثالية. لا نعرف كيف سيفسر هذا الموقف من جانب العاكفين على تلميع هذه القوى إقليميا ودولياً. لكن التفسير المنطقي والمعقول - طبقا لأصول التفاوض الصهيوني - ان صمت قوى العمل ونجوم السلام التاريخي، يعود الى حكمة بالغة في متابعة المصالح الاسرائيلية العليا. إذ ما الذي يضير هؤلاء إن فرص نتانياهو وصحبه مفهومهم للتسوية الفلسطينية، وقاموا هم بالتصديق في الكنيست على ما قبله الفلسطينيون اصحاب الشأن؟ وبالطبع، فإنهم سيبدون غير مسؤولين عن الفشل إن لم يتحقق هدف نتانياهو، وسيتذرعون بنظرية "قلنا لكم، وها قد صح توقعنا". ويحاولون حصد مكتسبات بين يدي الرأي العام الاسرائيلي... والعربي أيضاً. هذا قليل من كثير تميز به الاسلوب التفاوضي الاسرائيلي في جولة واحدة. ومن المتصور ان اضافته الى خبرات الجولات الاخرى على المسارات التفاوضية، الفلسطيني منها بخاصة، يعزز المعرفة العربية بهذا الاسلوب التي يفترض انها حققت تراكما معتبراً منذ "كامب ديفيد" وصولا "واي بلانتيشن". * كاتب فلسطيني.