} يجيب رئيس الوزراء السوداني السابق زعيم حزب الامة المعارض السيد الصادق في هذه الحلقة عن اسئلة كثيرة تدور في اذهان السودانيين والمعنيين في شأن خطوته باتجاه اعطاء اولوية للحل السلمي وقبول الخوض في تجربة تفاوض مع الحكم من داخل البلاد، على رغم شواهد يرويها عن فشل مشاريع مشابهة اخرى في الماضي. ويمهد المهدي لاجاباته التي تعكس ايماناً كاملاً بانه وجد الطريق الصحيح لمعالجة المشكلة بالحديث عن تجارب قاسية لحزبه مع حكم الانقاذ وتعرض الحزب وناشطيه لتضييق شديد طوال الاعوام العشرة الماضية. ويقول المهدي ان حواره مع النظام مختلف عن التجارب السابقة الفاشلة ويجيب عن اسئلة مثل: ما هي المرحلة التي بلغها التفاوض بين الأمة والنظام حتى الآن؟ وهل النظام حريص على التحول الديموقراطي وإنجاح التجربة الديموقراطية؟ وهنا نص الحلقة الرابعة من كتاب المهدي: أقام انقلاب 30 حزيران يونيو حكماً شمولياً ودان النظام الديموقراطي بأفظع العبارات وحمل على أحزابه والقوى السياسية المكونة له حملة شعواء. وخص الانقلابيون حزب الأمة بوادي جهنم في جحيمهم. واستهدفني الانقلابيون لاغتيال شخصيتي وتحميلي كل أوزار القوم، كأنني كنت المسؤول الأوحد في حكم البلاد، مع إنني كنت منتخباً في انتخابات عامة لم يطعن أحد في نزاهتها، وكنت حاكماً في ائتلاف مع آخرين قسمتي في السلطة محددة ومحدودة. صودرت أملاكي وصودرت مئة وسبعون سيارة كانت مسجلة بأسماء أشخاص ينتمون لحزبنا. ونالت كوادرنا السياسية والأنصارية نصيب الأسد من البؤس والبأس. وانفرد النظام الجديد بالحكم فعزل القوى السياسية والنقابية الأخرى عزلاً جماعياً، لذلك تصدت له تصدياً جماعياً. ومثلما خصنا النظام ببأسه الأشد، تصدينا له من مواقع سياسية وأنصارية لإبطال حجته الفكرية ودعواه الدينية. في مرحلة الجهاد المدني عملنا على عزل النظام شعبياً وكشفه إعلامياً، وعزله ديبلوماسياً. وفي مرحلة المواجهة الشاملة قاد حزبنا توحيد المقاومة الصدامية للنظام، وكوّن الفصيل الصدامي الشمالي الأقوى. في تلك المرحلة شهر النظام السلاح ضدنا وكان هو البادئ، ووضعنا مع سائر مخالفيه أمام خيارين: الامتثال أو الاستئصال. ووضع حملة السلاح ضده هدفاً لحملات الجهاد. واتخذ النظام ساعتئذ نهجاً توسعياً إقليمياً ودولياً. لم يكن أمامنا في وجه سياسة الاستئصال إلا الرد بالاستئصال المضاد. لا يستطيع أحد، إلا مكابرة، ان يعيب علينا همة التصدي بالأسلوبين: الجهاد المدني، والمواجهة القتالية. وأدت كل المواجهات، والمكابدات، والتطورات إلى تبني النظام أجندة الاعتراف بالآخر والحوار معه، بدليل: الاعتراف بالمواطنة أساساً للحقوق الدستورية، والاعتراف بأهم أسباب الحرب الأهلية والاستعداد لإزالتها، والموافقة على الوحدة الطوعية عبر استفتاء لتقرير المصير، والاعتراف بالتعددية السياسية والاستعداد لكفالة الحريات العامة، والتحول الديموقراطي، والاستعداد للمشاركة في ملتقى جامع للتفاوض بشأن كل القضايا المتنازع عليها، والاستعداد لإبرام اتفاق للحل السياسي الشامل بمراقبة جيران السودان وأصدقائه من الأسرة الدولية. هذه المواقف المستجدة، وحقيقة تعرض البلاد لمخاطر التمزيق والتدويل، هي المبرر القاطع لإبطال حمل السلاح، وإبطال العمل السياسي المعارض من الخارج، والالتزام بالحل السياسي الشامل المتفاوض عليه. ان الإصرار على القتال وعلى حمل السلاح، والإعراض عن الحوار الجاد المسؤول في المناخ الجديد استخفاف بالأرواح واستهتار بحرمات الوطن. لذلك وضعنا السلاح، ونقلنا عملنا الخارجي للداخل، ودخلنا في حوار مع النظام أثمر "نداء الوطن" واتصل بعد ذلك. لم يكن هذا أول حوار يجريه النظام مع قوى معارضة ويوقع معها اتفاقاً، إذ عقد النظام مع عدد من الفصائل الجنوبية اتفاقات السلام من الداخل، وعقد النظام مع أمين الحزب الاتحادي الديموقراطي اتفاقاً. لكن الاتفاقين الجنوبي والشمالي تما في نطاق أساس النظام الدستوري اذ صارت الأحزاب المتعاقدة مع النظام أحزاب توال. ولم ندخل في الحوار والاتفاق مع النظام من دون إدراك لتحفظات من سبقنا في ذلك وما عابوه على النظام من الإخلال باتفاقياته. مثلاً: في 12 نيسان أبريل 1997م وقع الدكتور رياك مشار وآخرون اتفاقية السلام من الداخل. وبعد شهر من الاتفاق اصدر النظام الأمر الدستوري الرقم 14. وكتب الدكتور رياك مشار معلقاً على هذا الأمر الدستوري بالآتي: - إن الصلاحيات الواردة في الأمر الدستوري 14 تعدل الصلاحيات المنصوص عليها في اتفاقية 21 نيسان أبريل 1997م بدليل أن الأمر الدستوري الرقم 14 جاء فيه عن مجلس التنسيق ان رئيس الجمهورية يعين أعضاء المجلس عدا الولاة. لكن الاتفاقية تقول ان رئيس مجلس التنسيق هو الذي يرشح أعضاء المجلس والولاة ويعينهم رئيس الجمهورية. كذلك سقط النص الوارد في الاتفاقية الذي جاء فيه: لا يقدم تعديل للمجلس من دون استشارة مجلس التنسيق. وسقط النص الذي جاء فيه: ان مجلس التنسيق يستطيع ان يقدم تعديلاً للاتفاق إذا اتخذ قراراً بغالبية ثلثي أعضائه. وقال مشار في خطاب وجهه للنائب العام إن الأمر الدستوري الرقم 14يمثل على الأقل تشويهاً للاتفاقية وعلى الأسوأ مسخاً لها. وقال ان "مبرر الأمر الدستوري الرقم 14 هو انه آلية لتطبيق الاتفاقية، لكنه في شكله الحالي قانون بديل للاتفاقية". ان حوارنا مع النظام مختلف في طبيعته من تلك السوابق في أربع نقاط مهمة: أولاً: نحن نفاوض من منطلق حزب هو الأكبر سياسياً وشعبياً في البلاد. وهو حزب قائم واعترف بشرعيته ومعبأ بأهداف الأجندة الوطنية الواضحة المعالم. فحزبنا يتفاوض وجماهيره بالمرصاد تراقب لتدعم الصواب وتشجب الخطأ. ويتفاوض في مناخ صحافة حرة نسبياً وزخم شعبي متابع باهتمام ومستعد لاسترداد حقوقه المشروعة. ثانياً: نحن نفاوض من أجل خانة دستورية جديدة تخرج عن نطاق الشمولية لا من أجل اتفاق داخل ماعون الشمولية. ثالثاً: حوارنا، وإن سار عبر خطى ثنائية لأن الاجندات الأجنبية عرقلت التفاوض الجماعي، فإنّا نتطلع لإبرامه في منبر جامع يؤمه كل الحادبين على السلام العادل والتحول الديموقراطي. رابعاً: نحن والنظام نرحب بدور وساطة ورقابة لجيراننا ولأصدقائنا في الأسرة الدولية، ما يوفر عنصر تطمين على إجراءات الاتفاق وضمان التزام أطرافه كافة. ما هي المرحلة التي بلغها التفاوض بين الأمة والنظام حتى الآن؟ لقد أثمر التفاوض بيننا "نداء الوطن" وبعد "نداء الوطن" اتفق على تفاصيل حول: - اتفاقية السلام العادل وكيفية تحقيقه. - الإصلاح الدستوري المطلوب، لا سيما في مجال العلاقة بين الدين والدولة وكفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية والحكم اللامركزي. - برنامج وطني يشمل أهم القضايا: التنمية، التأصيل، الحريات، الدفاع، الأمن، إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، والعلاقات الخارجية الإقليمية والدولية. - تشكيل حكومة برنامج وطني الحكومة القومية . إن إقدام حزب الأمة على العمل السياسي والتنظيمي داخل البلاد، وعلى التنظيم الواسع لقواعده، وعلى إجراء حوار جاد مع النظام، خلق دينامية عززت موقف الحل السياسي الشامل، دينامية واكبتها وقوّتها العوامل الآتية: - الاقتناع الذي عم كثيراً من الفصائل بعدم جدوى العمل السياسي المعارض خارج الوطن، وضرورة التحرك إلى الداخل. - تخلّي أصحاب المزايدات عن المزايدة، بدليل بيان مؤتمر مصوع الختامي ثم بيان أسمرا الذي تلاه برعاية إريتريا. البيان الأول أعطى خيار الحل السياسي الشامل أولوية. والبيان الثاني لم يذكر سوى الحل السياسي التفاوضي واللقاء المباشر بين أطراف النزاع لتحقيقه. - تحرك إريتريا للقيام بدور إيجابي في الحل السياسي الشامل وتأكيد دعمها له. - التحرك برعاية مصر وليبيا لاحتواء التناقض السوداني الاوغندي، الامر الذي سيزيد من محاصرة التصعيد العسكري. انطلاقاً من هذه التطورات الإيجابية لمصلحة الحل السياسي الشامل أرسلنا لدولتي المبادرة المشتركة خريطة عمل للحل السياسي الشامل، أكدنا فيها ان ما أثمره التفاوض المباشر بين حزب الأمة والنظام يمثل نواة صالحة لاتفاق شامل يستقطب القوى السياسية الجادة في البحث عن السلام العادل والتحول الديموقراطي، وذلك عبر ملتقى الحوار الوطني الأول الذي اقترحنا أن يعقد من دون إبطاء واقترحنا له الأجندة الآتية: - إعلان مبادئ الحل السياسي الشامل. - الاتفاق على برنامج سياسي انتقالي. - تكوين حكومة البرنامج السياسي الوطني الانتقالي. - الاتفاق على ملتقى الحوار الوطني الثاني الختامي الذي يفصل الحل السياسي الشامل في ضوء المبادئ المتفق عليها. نحن الآن في مرحلة متقدمة من الحوار مع النظام، حوار ملتزم بالأجندة الوطنية. وقد مهد تفاوضنا هذا لمرحلة ملتقى جامع يشرك القوى السياسية الأخرى كافة، للنظر في مضمون الإصلاح الجذري المطلوب لقبوله أو تعديله بما يناسب الأطراف الأخرى. ومع إننا نفضل أن يتم هذا، فإننا نرى انه لا يمكن الاستمرار إلى ما لا نهاية في رهن مصير الوطن لقوى غير جادة أو مقيدة. لذلك حضرنا خريطة عمل احتياطية تمثل خياراً ثانياً في الطريق للحل السياسي الشامل عبر مراحل. كان مناخ التفاوض بيننا وبين النظام إيجابياً ونما تواصل جاد على مستوى العلاقات الثنائية. على رغم هذا فان العلاقات لم تخل من أسباب تعكير: لقد اتفقنا على ضرورة الملتقى التحضيري لكننا اختلفنا في شأن إخراجه وإدارته، واعتبرنا انه بالصورة التي تم بها لا يحقق الأهداف المطلوبة منه. لقد عقد الملتقى التحضيري في 18/10/2000م ونرى انه أكد بعض المعاني المطلوبة للحل السياسي الشامل، لكنه لم يحقق هدف توسيع قاعدة الحل السياسي الشامل والتحضير للملتقى الجامع. نحن نعتقد انه ما زالت هناك عناصر داخل النظام يشدّها الحنين لشمولية "الإنقاذ" وأخرى يشدها الحنين لشمولية مايو عهد الرئيس السابق جعفر نميري. هذه العناصر مستميتة في الإبقاء على الشمولية في مظاهرها الدستورية، والأمنية، والإعلامية، والحزبية. وهنالك تلكؤ كبير في رفع الأذى الذي لحق بأملاك حزب الأمة. لقد صودرت من حزب الأمة نحو مئة وسبعين سيارة من موديلات مختلفة. وصودرت من المركز العام محطة اتصال لاسلكي بعيد المدى مرتبطة ب 25 مدينة، كما صودرت الأجهزة في هذه المدن. وصودرت شبكة اتصال لاسلكي قصير المدى تستخدم في العاصمة. وصودرت دور الحزب في الأقاليم وأثاثها. اللجنة المختصة في حزب الأمة قدرت أملاك الحزب المصادرة بأربعة ملايين ونصف المليون دولار وحتى الآن لم يرد للحزب إلا أقل من 10 في المئة من هذا المبلغ. وحدث التصرف المشوّه في تسليم مجمع بيت المهدي لغير أصحاب الشأن ما زرع ألغام فتنة. وهناك مسألة إن لم تحسم بحكمة ووعي سوف تعرقل الحل السياسي الشامل وربما غيرت أسلوب تحقيقه: مسألة الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية التي قرر النظام إجراءها هذا العام. لا يستطيع حزب الأمة ان يوافق على شرعية أية انتخابات تأتي قبل إبرام الحل السياسي الشامل، فالحل السياسي الشامل سوف يضمن اتفاقاً حول الانتخابات وقوانينها وكفالة نزاهتها. غير معقول ان يطلب من حزب الأمة، مهما كان مرناً، ان يسلم بشرعية انتخابات تستبق الحل السياسي الشامل. ومن باب أولى لا يمكن ان تطالب عناصر المعارضة الأخرى بأن تقبلها. وحتى إذا وافق حزب الأمة على شرعية هذه الانتخابات، فهو لا يستطيع ان يشارك فيها قبل عقد مؤتمره العام وإجازة تنظيمه الجديد وبرنامجه. وجه النظام ضد حزب الأمة وكوادره وتنظيماته حرباً لا هوادة فيها عقداً من الزمان. هذا يعني إن الحزب محتاج لبعض الوقت لإعادة التنظيم، بل لتطور التنظيم لاستيعاب المستجدات الضخمة في الساحة السودانية. وحزب الأمة محتاج لبعض الوقت لمراجعة ودراسة برنامجه الذي سوف يقدمه للشعب السوداني ويستهل به القرن الميلادي الجديد. حزب الأمة لم يضيع الوقت هدراً في هذه المجالات فنظم ورش عمل فكرية لدراسة واقتراح التنظيم الجديد، ولتحضير البرنامج الجديد. لكن هذه الدراسات والتوصيات لا يمكن تقنينها إلا من طريق المؤتمر العام المزمع في مطلع العام المقبل. هل النظام حريص على التحول الديموقراطي وإنجاح التجربة الديموقراطية؟ إذا كان حريصاً فالواجب مساعدة الأحزاب التي انفق النظام مالاً، ووقتاً، وإعلاماً في وصف عيوبها، لكي تنمو وتتطور وتصبح أكثر ديموقراطية وكفاءة. أم أن النظام يريد لهذه الأحزاب أن تقتحم مجال العمل العام هشّة ناقصة التكوين بادية العيوب ساهمت أجهزة الأمن القمعية في جعل كياناتها كقائمة الأطعمة المحرمة: والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطحية، وما أكل السبع.... بهذا المنطق الظالم: إن حزب الأمة مطالب بالموافقة على تغييب نفسه من العملية الانتخابية وقبول نتائجها. وإذا جاز للنظام ان يعيب على قوى سياسية أخرى تلكؤها في الاستجابة للعودة للوطن والتفاوض الجاد من أجل الحل السياسي الشامل، فهل يجوز ان يقال هذا عن حزب الأمة الذي أقدم على الحل السياسي: "أصم عن غضب من حوله ورضا في همة تلد الأبطال أو تئد". ألا يستحق إقدامه المنقطع النظير تقديراً مستحقاً؟ ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى! هذه الممارسة التي ورط النظام فيها نفسه ليست انتخابات. إنها استباقات حرص عليها قوم قرروا مدّ سلطانهم من دون مبالاة بالشرعية، ولا بالحكمة السياسية، ولا بالرأي الآخر. النظام يستطيع ان ينظم مباراة من فريق واحد، وان يختار لها أعدل حكَم، وان يأتي لها بأفضل مراقبين، ثم يخوض المباراة ويسجل ما شاء من الإصابات وفي النهاية يعلن فوزه لنفسه: عفارم!. لكن الغالبية الشعبية الساحقة، والرأي العام العالمي، سيقول بكل الوسائل المتاحة: لا للاستباقات. ولا لنتائجها!! هذه الاستباقات لن تشكل للنظام إضافة بل ستتيح فرصة ليجتمع ضده صفّ عريض يوحده رفضه للاستباقات. من الذي هدى النظام لموقف يعزله ويضخم الحجة والكتلة الشعبية ضده؟ أمام النظام للخروج من هذا المأزق الذي حشر نفسه فيه خياران لا ثالث لهما: الأول: إلغاء هذه الانتخابات حتى يبرم اتفاقاً سياسياً فيقدم بذلك برهاناً جديداً على جدّيته في الحل السياسي الشامل. الثاني: أن يعلن ان هذه الإجراءات مطلوبة لأغراض النظام وتكملة أجهزته، ولكن متى ما اتفق على الحل السياسي الشامل فان نتائج هذه الإجراءات كافة سوف تحل لتجرى انتخابات عامة جديدة. والعاقل من اتعظ بغيره، فان الاختلاف حول الانتخابات قد جرّ اضطرابات لساحل العاج، ويوغوسلافيا السابقة - صربيا، ولا مصلحة للبلاد في انتخابات ليس عليها إجماع. "التجمع الوطني الديموقراطي" تكون التجمع الوطني الديموقراطي في سجن الخرطوم العمومي كوبر في آب أغسطس 1989م نتيجة اتفاق القوى السياسية المعارضة لنظام "الإنقاذ" على تكوين تنظيم عريض يجمع الأحزاب السياسية والنقابات والقوات المسلحة في معارضة، ومقاومة، وتصفية النظام الانقلابي الجديد. ولفكرة التجمع الوطني الديموقراطي وهيكله شجرة نسب ممتدة. ففي أثناء الحكم الانتقالي 1985-1986 رؤي ان الأحزاب والنقابات والقوات المسلحة هي أضلاع الانتفاضة الثلاثة الموقعة على الميثاق الوطني للانتفاضة، لذلك ينبغي ان تتفاوض للمحافظة على الديموقراطية والدفاع عنها. هكذا ولدت فكرة ميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي وقعت عليه الأضلاع الثلاثة. الفكرة كانت تصميماً نظرياً جيداً، لكنه لم ينفذ عندما وقع الانقلاب. فالانقلابيون وضعوا الترياق المضاد، وشهدت فترة الديموقراطية الثالثة تطورات ومظاهر أقحمت النقابات والقوات المسلحة في الحلبة السياسية. التجمع النقابي كفكرة قام بدور مهم في الانتفاضة فرّخ ذهنية التكتل النقابي من أجل أهداف سياسية حتى في العهد الديموقراطي. هذا التوجه غذته عناصر لا تأمل أن تنال وزناً انتخابياً ويراودها أمل السلّم النقابي صعوداً للسلطة السياسية. لذلك شهدت الديموقراطية الثالثة تحركات نقابية متعدية للشأن النقابي غاطسة في التطلع السياسي. مذكرة القوات المسلحة أدخلتها في الحلبة السياسية. وبعض الأخطاء العسكرية جلبت للقيادة العسكرية مساءلة عسكرية. لكن تياراً داخل القوات المسلحة حوّل الموضوع من مساءلة عسكرية عن الأداء إلى مساءلة سياسية. هكذا أدخلت القوات المسلحة طرفاً في معادلة السلطة. أمام هذه الحقائق رأيت ان نوسع الحوار للاتفاق على معادلة تستوعب الواقع الجديد. واتفقت مع السيد ميرغني النصري، بصفته من أكثر الساسة اهتماماً بتطور الفكر السياسي في بلادنا، على رعاية اجتماع حزبي - نقابي في القصر، فأدار اجتماعاً موسعاً أدى الى برنامج انتقالي وقّع عليه 29 حزباً ونقابة وباركته القوات المسلحة. برنامج القصر الانتقالي حلقة أخرى في شجرة نسب التجمع. فالبرنامج يمثل تحالفاً ثلاثياً بين الأحزاب والنقابات والقوات المسلحة على أساسه قامت الحكومة الأخيرة التي حسبناها مصفحة من كل التدابير الانقلابية، المدنية من طريق النقابات، والعسكرية من طريق الانقلاب. هذه هي شجرة نسب التجمع الوطني الديموقراطي الذي تكون داخل كوبر والذي شرع ينظم العمل المعارض في الداخل. قاد حزب الأمة نشاط التجمع في الداخل أثناء وجودي، ثم بعد هجرتي بقيادة الأخ الحاج عبدالرحمن نقدالله. فكرة التجمع أصلاً فكرة تفعيل القوى الحزبية والنقابية والعسكرية في الداخل لتحقيق الانتفاضة. لكن الإجراءات الأمنية الصارمة التي خططها أشخاص متمرسون في العمل الحزبي والنقابي والانقلابي خنقت التحرك في الداخل. وحرصنا على أي حال أن نرفع الراية ونبشر بالمستقبل، وساعد على ذلك رئتان: الأولى: النشاط الطالبي الذي لم يفتر أبداً، وواجه عنف الأمن وعنف التيار الطالبي المؤيد للسلطة. والثانية: منابر هيئة شؤون الأنصار التي صارت تجسيداً لضمير الشعب وتطلعاته المشروعة. المعارضة في الخارج أما في الخارج فمنذ وصل الأخ مبارك المهدي مسؤول حزب الأمة في الخارج نبأ تكوين التجمع وميثاقه شرع في اتصالات واسعة أثمرت تكويناً فضفاضاً تنسيقياً للتجمع الوطني الديموقراطي في الخارج. ثم خرج من البلاد الدكتور عمر نور الدائم، وانضم الى الأخ مبارك وسائر كوادرنا القيادية في الخارج الأخوة والأخوات: نجيب الخير، مهدي داؤد، الفاتح سلمان - رحمه الله - صديق بولاد، صلاح جلال، حسن أحمد الحسن، التجاني السيسي، رشيدة إبراهيم، مأمون شرفي، إحسان عبدالله البشير، أسامة نقدالله، أحمد عقيل، حبيب سرنوب، وغيرهم. فتعاونوا على إقامة تنظيم للتجمع الوطني الديموقراطي ضم الأحزاب الموقعة على الميثاق في المرحلة الأولى، ثم ضم بعد حوار مثمر الحركة الشعبية. كانت مرحلة التجمع الأولى في الخارج مرحلة بناء فكري سياسي للاتفاق حول القضايا المهمة مع التعبئة الإعلامية والديبلوماسية المضادة للنظام. البناء الفكري السياسي مر عبر مراحل مؤتمر نيروبي في نيسان أبريل 1993م الذي حسم مسألة الدين والدولة، وحوارات نيروبي ولندن وأسمرا التي امتدت عاماً ونصف العام حتى عام 1994 ، وملتقى شقدوم في كانون الاول ديسمبر 1994م، ومؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في حزيران يونيو 1995م. كان مؤتمر أسمرا هذا معلماً بارزاً في تطور الفكر السياسي السوداني وفي تكوين لبنات الوفاق الوطني. اتخذ المؤتمر قرارات مهمة في أربعة ملفات: أولاً: أسس السلام العادل في السودان. ثانياً: مستقبل الحكم الديموقراطي اللامركزي في السودان والإصلاحات الهيكلية المطلوبة لاستيعاب المستجدات. ثالثاً: الهيكل القيادي والتنفيذي للتجمع. رابعاً: وسائل تحقيق الأهداف. اتفق على ثلاث وسائل هي :الحل السياسي التفاوضي عبر آلية الإيقاد، والتعبئة من أجل الانتفاضة الشعبية، والعمل العسكري المسلح. هذا التجمع الذي اتفقنا على تكوينه في الخارج هو، في حقيقته، كائن جديد يرتكز على ظروف الخارج المواتية لتكوينه الجديد. وبعد أحداث معينة صنفت أميركا النظام في السودان راعياً للإرهاب في 1994م. ثم جاءت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك واتهام دول الجوار بأن النظام السوداني يدعم المنشقين ضدها في العامين 1994 و1995 م. هذه العوامل حركت اتجاهاً عريضاً أميركياً - مصرياً - أثيوبياً - أوغندياً -إريترياً، مضاداً للنظام السوداني. استفاد التجمع من هذه الجبهة العريضة وصار الرافد السوداني لها. كان حزب الأمة الفصيل الوحيد المتصل بممثليه في الخارج اتصالاً وثيقاً، وكانت الاتصالات بين التجمع في الخارج والداخل تمر عبر قناة حزب الأمة. وعندما هاجرتُ من السودان واشتركتُ في نشاط التجمع في الخارج اقترح عليّ السيد محمد عثمان ان تخلى المناصب القيادية في التجمع ليعاد تشكيلها بصورة أتولى فيها المنصب الذي يناسبني. شكرته على الاقتراح واعتذرت عن عدم قبول أي منصب في تجمع الخارج، ووعدت بدعم الهيكل كما هو، ومنذ الأيام الأولى بدا لي كأن التجمع يحتذي حذاء أوسع منه، وتبينت العيوب الآتية: 1 - ان النشاط العسكري يعتمد أكثر مما يجب على حال ظرفية وغير مصحوب بغطاء سياسي مناسب. 2 - ان هيكل التجمع القيادي والتنفيذي مترهل للغاية، فهو أشبه ما يكون بائتلاف أحزاب حاكمة لا أداة عمل ثوري ضد نظام شرس. لذلك فكرت في الأمر ملياً، وفي أول اجتماع أحضره لهيئة قيادة التجمع، وكان في آذار مارس 1997م، خاطبت الاجتماع واقترحت برنامجاً استثنائياً من 10 نقاط وفريق عمل مكلفاً تنفيذها. البرنامج الاستثنائي والآلية التنفيذية المقترحة، فيهما العلاج في نظري لعيوب التجمع كما رأيتها. ناقش الاجتماع اقتراحاتي وقبل 90 في المئة من البرنامج الاسعافي، لكنه، تحفظ على الأداة التنفيذية المقترحة. أصبحت القرارات معلقة في الهواء. تعليقاً على ما حدث كتبت في مذكراتي في يوم 22/3/1997م الآتي: - التجمع الوطني الديموقراطي، لا سيما هذا التكوين في الخارج، جسد آمال الشعب السوداني. ولكن، بشكله الراهن، لن يحققها. وإذا زال النظام فانه غير مستعد لقيادة البلاد. - واجبنا أن نجد قنوات للعمل، بصرف النظر عن المسميات. - لا يمكن أن نحبس عملنا الحزبي في هذا الجسم المترهل. علينا أن نوفق بين العمل النشط الحزبي الذي نقوم به وبين التزامنا شكل التجمع الذي ارتضيناه لمخاطبة الرأي العام داخلياً وخارجياً. بعد اجتماع هيئة قيادة التجمع قررنا أن أقوم بطواف عالمي، فقمت به يصحبني في بعضه الأخ عمر نور الدائم وفي كامله الأخ مبارك المهدي. طواف انتهى في 31/5/1997م. في ختام هذا الطواف كتبت في مذكراتي معلقاً: - في البلدان التي زرتها لا يوجد تنظيم قاعدي للتجمع، والموجود لجان فوقية تمثل فصائل التجمع. - نشاط التجمع المركزي والفرعي نشاط موسمي وفي فترات متباعدة. - لا وجود لإعلام التجمع. - التجمع كقيادة وطنية بديلة غير مقنع على نطاق واسع. استمر النقد لأداء التجمع وفقد زمام المبادرة السياسية والفكرية في الداخل والخارج، ما أدى الى ظهور أنشطة فكرية وسياسية معارضة وموازية للتجمع. ففي الداخل تعددت أحزاب مثل جبهة استرداد الديموقراطية "جاد" وحركة القوى الحديثة "حق" وحركة تصحيح المسار الإسلامي "حتم" وغيرها. وفي الخارج تكاثرت الأنشطة المعنية بحقوق الإنسان والثقافات والدراسات والنقابات وغيرها في قنوات موازية وأحيانا معادية للتجمع. وفي شباط فبراير 1998م عقد حزب الأمة مؤتمره الرابع في الخارج وفيه علت نبرة انتقاد أداء التجمع. وفي آذار مارس 1998م كتبت مذكرة ناقدة للتجمع ومقترحة إصلاحات وزعتها على رئيس وأعضاء هيئة القيادة. أهم ما فيها: أ - ميثاق التجمع مكتوب في ظروف 1989م وهي ظروف لم تعد قائمة. ومنذ كتابة الميثاق استجدت قرارات مثل قرارات أسمرا 1995م لم ترد في الميثاق. لذلك ينبغي تعديل الميثاق. ب - هيكل التجمع فيه تضارب بين هيئة القيادة والمكتب التنفيذي. وفيه أمانات غير متخصصة عبارة عن ترضيات حزبية. لذلك ينبغي ان يراجع هيكل التجمع وان يعاد تشكيل الأمانات. ج - الأنشطة السياسية، والديبلوماسية، والعسكرية، غير منسقة مع بعضها بعضاً، وينبغي ربطها باستراتيجية موحدة وتنسيق إجراءاتها. د - التجمع مفلس تماماً بينما فصائله ممولة. ينبغي إلزام الفصائل باشتراكات دورية لخزينة التجمع. ه - ينبغي توسيع التجمع ليضم قنوات المعارضة كافة وليحقق مشاركة نسوية وشبابية واسعة. و - المطلوب عقد مؤتمر التجمع العام الثاني لدراسة هذه المقترحات وغيرها واتخاذ القرار بشأنها. هذه المقترحات أفزعت كثيراً فصائل التجمع لأنها تصورت انها احتلت ما احتلت من مواقع في تجمع توشك الظروف أن تحمله للسلطة والمواقع فيه جوازات المرور للسلطة المقبلة. الخلاف حول إصلاح التجمع سبّب شرخاً كبيراً، لكن التضامن ظل مستمراً لأن وحدة البرنامج جمعت بين الفصائل وإن فرقت بينها النشاطات. أ - كانت الحركة الشعبية منفردة بالحوار مع النظام تحت مظلة ايغاد. وكانت تعين مندوبيها وتحدد مواقفها التفاوضية منفردة وتنور الفصائل الأخرى لاحقاً بالاجتماعات. ب - الجيش الشعبي يواصل نشاطه العسكري بسرية تامة عن بقية الفصائل. واللجنة السياسية العسكرية العليا التي كوّنت برئاسة رئيس التجمع للربط بين القرار السياسي والعمل العسكري ولدت ميتة!! ج - حزب الأمة كان يقوم بنشاط كبير في الداخل، وبنشاط ديبلوماسي وإعلامي واسع، ومنذ تكوين جيش الأمة للتحرير يقوم بنشاط عسكري متطور، من حيث استحداث أساليب جديدة أكثر فاعلية من أساليب الجيش الشعبي المعهودة. كان حزب الأمة يقوم بهذه الأنشطة وينور الآخرين بها لاحقاً. د - الاتحادي الديموقراطي يقوم بنشاطه الإعلامي والديبلوماسي حزبياً وينور الآخرين لاحقاً. ه - قوات التحالف تمارس نشاطها العسكري والإعلامي حزبياً. استمر نشاط التجمع بهذه الصورة، ومع ترهلها احتفظت بطابع رمزي مشترك. ثم ظهر اختلاف حول البرنامج أدى مع الاختلاف حول الهيكل إلى مرحلة جديدة تماماً. بعد غد الاثنين نتابع نشر كتاب الصادق المهدي العائد الى السودان.