أصدر حزب الأمة السوداني بيانه الختامي بعد انتهاء المؤتمر الرابع للحزب الذي انعقد في اسمرا اخيراً. وأعلن المؤتمر عن بطاقة فكرية من ست نقاط. اهمها ان الحزب ينطلق من المهدية كدعوة لتجديد الدين بأسلوب ثوري عدّله الامام عبدالرحمن المهدي لأسلوب اصلاحي ملتزم بالثابت من العبادات والمتحرك من المعاملات. وانطلاقاً من مقولة الامام المهدي الملهمة والخالدة من "ان لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال"، سمح المؤتمرون بوصفهم رجال اليوم بالآتي: اتخاذ المواطنة اساساً للحقوق والواجبات الدستوري - اتخاذ الديموقراطية أساساً للقرار السياسي - اتخاذ الحزب وسيلة لتنظيم التنافس السياسي - التعامل بالحسنى والتعايش السلمي مع الآخر المحلي والدولي... وبعد توصل المؤتمر الى تحليل حول طبيعة النظام الحاكم وإجباره المعارضة لحمل السلاح، اقرّ دعم جيش الأمة للتحرير الى اقصى حد ممكن والتعاون مع مختلف الفصائل المعارضة المسلحة لتحرير السودان، ومن ثم دعا الى تصعيد العمل العسكري حتى يحقق اهدافه من التحرير وذلك بحدوث انتفاضة شعبية او حل سياسي يستجيب للمطالب المشروعة للرأي العام السوداني وفق مقررات اسمرا. وأقر المؤتمر بصورة لا تقبل الجدل مبدأ المساءلة الناجزة عن حق الشعب والوطن. من جهة ثانية رحّب بالتطور الايجابي في علاقة الحزب بمصر، كذلك بفتح صفحة جديدة من التواصل مع ليبيا، وحيا انتصارات قوى المعارضة في بحر الغزال. وزف المؤتمر نبأ معالجته الشافية لكل النزاعات التي طالت بعض اعضاء الحزب في الفترة الاخيرة. وفي اطار ذلك تمت المصالحة بين مبارك المهدي ونصر الدين المهدي وأصدرت سكرتارية المؤتمر بياناً بذلك وأعلنت ان مبارك أشار في كلمته عن طي صفحة الماضي، وتوجيه الجهود، ونبذ القطيعة التي استمرت مدة ثماني اعوام بينه وبين ابن اخته نصرالدين المهدي. ونقلت الصحف السودانية المهجرية هذا النبأ المهم مشيرة الى انه وجد صدى كبيراً لدى المؤتمرين وقوبل بالهتافات والتصفيق ثم عرفت لاحقاً ان البكاء صاحب ذلك المظهر الداعي لهياج الشجن. ان لهذا الانجاز اهمية كبيرة - على رغم انه يقع ضمن قضايا آل المهدي - وتأتي اهميته من ان توتر العلاقة بين هذين السيدين أثّر في مسيرة الحزب الخارجية وخلق بؤر استقطاب حادة بل امتد سلباً محدثاً تأثيراً في علاقات الحزب الاقليمية. الى جانب حسم هذه القضية الحيوية اتفق المؤتمرون على مبدأ القصاص باسم الشعب من خلال المساءلة الناجزة وأهمية هذه النقطة تقع ضمن الحوار الحيوي بين رئيس الحزب وأعضائه فقبل انعقاد المؤتمر اطلق الصادق المهدي عبارة لحل الاشكال السوداني القائم هي عبارة "التعاضد المتبادل" التي تعني ان يصفح الشعب وقواه السياسية والاجتماعية عن نظام الجبهة وتصفح الجبهة الاسلامية بدورها عن الشعب وقواه! على رغم ان الجبهة دمرت الشعب بطاقة تعجز عنها الرياح، وعلى رغم ان الشعب تقبل بصدر رحب كل هذا السجل! هذا على صعيد النقاط الايجابية الجديرة بالاستعراض، اما النقاط الخلافية التي ربما تجدد التوتر بين حزب الأمة وقوى ذات شأن في التجمع الوطني، فيمكن حصرها في مراجعة الميثاق الوطني وإضافة مواثيق اخرى اهمها ميثاق العلاقة بين الدين والسياسة وتحديد ملامح الاصلاح الحزبي والديموقراطية والتوازن. هاتان النقطتان من شأنهما شد قوس التوتر بين حزب الأمة من جهة واطراف في التجمع من جهة ثانية، خصوصاً النقطة المتعلقة بميثاق العلاقة بين الدين والدولة. وربما يستدعي التوتر تاريخاً ماضياً بين حزب الأمة وبين هذه القوى في ما يخص هذه النقطة وضمن هذا الاستدعاء قد تجتر الذاكرة موقف حزب الأمة من "قوانين سبتمبر" ووعده بالغائها ونعتها بأنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به ثم تلكؤ الحزب في الوفاء بهذا الوعد عقب وصوله الى السلطة وطرح القوانين للاجتهادات الفقهية وتأثيرات الجبهة الاسلامية وقتئذ على حزب الأمة في ما يخص جوهر هذه القوانين. وربما يتخذ التوتر طابعه الحاد باعتبار ان حزب الأمة وقّع اعلان نيروبي في 17 نيسان ابريل 9319، وقد اتخذ هذا الاعلان اساساً لمقررات اسمرا في هذا الشأن. ويعتبر إعلان نيروبي نفسه حداً ادنى، فإذا ما همّ حزب الامة لصياغة ميثاق جديد وفق ما أقره مؤتمره عبر البطاقة الفكرية الأولى بأن المهدية المعدّلة هي الركيزة الايديولوجية للحزب فإن ذلك سيتعارض مع مرتكزات القوى الأخرى الموقعة على اعلان نيروبي، وهي مرتكزات تستند على منجزات الفكر الانساني والتراث البشري فيما تقوم رؤية المهدية على اعمدة دينية. علاوة على انها تجربة سياسية لا تزال تخضع للإنتقاد خصوصاً تجربة الخليفة عبدالله التعايشي في القرن الماضي، وعلى رغم ما يحسب لمصلحتها إيجاباً أنها وحّدت الارادة السياسية السودانية عن طريق العقيدة الدينية إلا ان توازنات اليوم الدينية والعرقية لا تسمح بتوحيد الارادة السياسية عبر تلك الآلية. اما النقطة الثانية فخطورتها في أنها تمر بنقطة اخرى اجازها المؤتمر تتعلق بتكوين تنظيم مركزي للنقابات يشمل الصحافيين والفنانين! ويأتي الترشيح بأنها ستكون هي الاخرى موضع خلاف انطلاقاً من ان مقررات اسمرا عالجت هذا الأمر وحسمته وربما تساند بعض الاسئلة قوة التكهن بالتصدع الذي سينشأ لاحقاً عقب فراغ حزب الامة من صياغة آرائه والاسئلة هي: هل يصدر حزب الامة هذه المساهمات بوصفها ملزمة لبقية الاطراف الملتزمة مقررات أسمرا ام لهذه الاطراف الحق في رفضها وإلزامه بما وقّع عليه سلفاً؟ وهل يسند حزب الامة تاريخ علاقة معززة الثقة بينه وبين الحركة النقابية تجعل منه مسهماً مقبولاً لحل ازماتها؟ وهل للحركة النقابية السودانية ازمات في الأصل؟ وهل عجزت عن صوغ اهدافها وتنازلت عن هذا الحق لحزب الامة لينيبها في التعبير عن قضاياها. ان الحريات النقابية ترتبط بميثاق دولي يشمل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية ومواثيق واتفاقات العمل فما مدى تصدي رغبة حزب الأمة في صوغ عقد جديد يجاور ما تكفّلت وتعهدت بحمايته المواثيق الدولية وقبلته الاتحادات المهنية والنقابات السودانية؟ هاتان هما النقطتان اللتان ربما تثيران لغطاً حين ينجز حزب الأمة اسهاماته حولهما ويقدمهما كمنجز يتطلع من خلاله لإلتفاف حولهما. اما مجمل ما جاء في البيان الختامي فلا أحد يستطيع القفز فوق ايجابيته فمعظم المرتكزات والنقاط التي حواها متنه لا خلاف حولها، بل ربما تعبّر علامة فارقة في مسار حزب الأمة الجديد وضمن ذلك يقع الانجاز الكبير الذي ألّف بين قلبي نصرالدين ومبارك المهدي، على رغم انه تم بطريقة دراماتيكية تؤكد ان وسائل السودان القديم لا تزال سارية وصالحة لحل الخلافات العميقة باعتماد الوسائل البسيطة ومن تلك وسيلة الجودية التي تختزل الدوافع المفضية للنزاعات وتجرد الصراع من دوافعه الحقيقية بالركون الى الموروث العشائري الذي يستدر العاطفة ويعطّل التحكيم الراشد للمنطق والعقلانية. أثير هذا لأن طبيعة الصراعات في الاحزاب الكبيرة ووسائل حلولها تتصل بالتطلع المشروع لقوى السودان الجديد التي لا يمانع حزب الأمة في الانضمام لركبها، وأعتقد ان أهم المعالم الفكرية للسودان الجديد هي اجتثاث الاسباب المتصلة بالدوافع الذاتية حين تأخذ شكلاً موضوعياً وتنداح من هذا الشكل قيم اخرى تقترن بالصراع ووسائله وطرق التعبير عنه ومظاهره الاخلاقية. قبل اسبوعين فقط من عقد هذه المصالحة التي قوبلت بالهتاف والتصفيق والدموع كانت صحيفة "الفجر" السودانية التي تصدر في لندن مسرحاً لسجال عنيف بين مبارك ونصرالدين المهدي، وتجاوز هذا السجال تقليد كيان الانصار وتعدت لغته مفردات اللغة المتسامحة الناظرة لأفق معانيها مستقبلاً بما يؤكد ان الطرفين يعتزمان قطيعة أبدية، ففي عدد "الفجر" الرقم 32 الصادر بتاريخ 17/12/9719 وتحت عنوان "مبارك المهدي في حديث الصراحة والوضوح" أكد مبارك ان نصرالدين الهادي ينتمي لمجموعة داخل حزب الامة ذات استنباط بنظام الجبهة الاسلامية وأن لجنة برئاسة القاضي صالح فرح شُكِلت واتخذت قراراً بعد فراغها من التحقيق وعليه فإن وضع الأخ نصرالدين الهادي مجمّد. وفي العدد 36 من الصحيفة نفسها بتاريخ 14 كانون الثاني يناير 1998 أوضح رد من مكتب نصرالدين الهادي أورده طبقاً لنصه ومفرداته ان الزعم بتجميد وضع السيد نصرالدين في الحزب يبيّن سفاه رأي قائله، لاعتبارات منها ان السيد نائب رئيس الحزب هو عضو الأمانة العامة المنتخب مباشرة من قبل المؤتمر العام، إلى جانب كونه عضو المكتب السياسي ومن ناحية دستورية فهو يحمل صلاحيات أوسع من مبارك الذي لا يعدو كونه عضو مكتب سياسي بالتعيين. ومضى البيان يوضح صحة تكوين لجنة لفض المنازعات ووصف ذلك بأنها محاولة من مبارك لإنهاء خلافات شخصية على طريقة الجبهة الإسلامية. ونفى البيان أنها حققت مع نصرالدين متسائلاً "مع من حققت حتى تفرغ. اللهم إلا إذا حققت مع أشباح من صنع مبارك". وتطرق البيان الى علاقة السيد مبارك بالجبهة الإسلامية وصحافتها في معرض نفيه هذه التهمة عن نائب رئيس الحزب، ومن ذلك اقتطف "ان موقف الاخ مبارك وهو يكيل هذه الاتهامات أشبه بحاطب ليل. يغرف من بحر الإدانات المتلاحقة لدرجة تطابقت أمانة النقل عنده مع امانة صحيفة "الوان" حول ما خُيل إليها من انشقاق داخل حزب الأمة". ثم مضى البيان يقول - طبقاً لمفرداته - ان مبارك بوصفه سمسار سياسة لا يتأهل لتقويم ورشة عمل حزب الأمة التي أمّها علماء وأكاديميون وأساتذة جامعات من حملة الدرجات العلمية الرفيعة. وفي الختام أكد البيان ان مبارك "استغل حرص الناس على وحدة الكلمة وتأدبهم واخلاقهم الرفيعة بصورة غير كريمة مما اضطرنا لإصدار هذا البيان". صدر هذا البيان قبل أسبوعين فقط من المصالحة الميلودرامية التي أثارت اللواعج وهيّجت عاطفة البكاء. وهذا بالتأكيد يحسب لمصلحة هذا المؤتمر الساحر ويؤكد أن الخلافات مهما تصاعدت بين آل البيت، فإن "الجودية" تظل هي الآلية الناجزة لحسم أي خلاف استناداً لقدرة فعلها الخلاق ومضاء وسيلتها الجياشة القادرة على تذويب الضغائن في لمح البصر وتلك في تقديري خاصية تميز الذائقة السياسية السودانية التي يجسدها عملياً شعار "عفا الله عما سلف". ولكن خطورتها تكمن في أنها اذا ظلت هي الوسيلة المثلى لفض المنازعات، فإنها قد تترشح لتصبح وسيلة من وسائل فض النزاع بين حزب الأمة والجبهة الإسلامية، لأن التنظيمين تربطهما علاقة فكرية وتباعدهما الآن حسابات سياسية. فإذا ما لاحظنا بدقة ما ورد من حديث مبارك وبيان نصرالدين نجد أن العلاقة بالجبهة هي أداة الذم وبالنظر الى وسيلة الحل، نجد ان الوسيلة تجاوزت الاتهام المتبادل في ما يشبه غض الطرف. فما هي الضمانة التي تتأهل لتكون كابحاً لذات الوسيلة التي تلوّح بها الجبهة الاسلامية أيضاً؟ ولا أظن ان التنظيمين يفتقدان المجموعات التي تتمتع بقدر عالٍ من الجاهزية للبكاء المتواصل في أية لحظة متى ما طُلب منها هذا الدور لأنها مهيأة بحكم العادة للقيام به. ويظل السؤال هل تستطيع هذه المصالحة المصحوبة بالهتافات والشجن الهتون محو ما أريق من حبر على صفحات الصحف؟ وهل تتقوى بالأجندة الوطنية المعلنة على أسبابها الحقيقية؟ وهل سيستفيد أصحاب المقل المثابرة على البكاء من المؤتمرين بمعاني المصالحة الجلية فلا يزجون بأنفسهم ضمن صراعات آل البيت؟ هذا ما ستؤكده السنوات المقبلة من خلال مستقبل المصالحة من التعاون المشترك والتضحية والاستفادة من غنى التجارب السودانية.