- 1 - عندما تقرأ في نيويورك ما يَجيء من جهة القدس أو عندما تراه، أو عندما تُصغي اليه، تشعر كأنّ كلّ شيءٍ يقف على رأسه، أو يسيرُ الى الوراء. وتشعر كأنَّ السّماءَ نفسها ليست إلاّ كلمةً سرّيةً في غِلافٍ في جَيْب شُرَطيّ. وما أَشدَّ المرارةَ التي تعصفُ بك، فيما يُخيَّلُ إليكَ، بيأسٍ ما، أو بأَملٍ ما، أنّه لم يعد في ذلك العالم العربيّ ما ينبض ويتحرّكُ ويَسْتَشرفُ غير الأَحْجار التي ترقصُ بين أَيدي الأطفال. - 2 - عَالٍمةٌ تلك الحالَةُ التي يَصعبُ وصفُها، والتي يَجهلُ بها الشّاعر لغةَ نيويورك، مع أَنّها، ويا للمفارقة، لغةٌ لا تكفُ عن تذكيره بأنّ المُدنَ التي تُغامِرُ بشعوبها، باسْمِ الحفاظِ على سُلطانِها، مدنٌ لا تُعمّر طويلاً. هكذا يضطربُ الكون في عين الشاعر، ويُشبّه له أَنّ الحربَ تَغرزُ قَرنيها في رأسِ الوقت، وأنّ الأُفُقَ يَنْسدل على نوافذِ تلك المدن كمثلِ منديلٍ أَسود. - 3 - ماذا؟ كأنّ الأرضَ تدور مُتَعثّرةً، فيما يتدلّى غزالٌ أكحلُ من أُذن هارلم، اليُسرى، وفيما تؤكّد السيّدة هيلاري أَنّها أعادت الى المنظّمات الإسلامية المال الذي تبرّعت به دعماً لمعركتها الانتخابية: مالٌ مُسْلِمٌ غير "مذبوحٍ"، على طريقة السيّدة هيلاري - مالٌ "حرام"! يا للْجريمة، - تهبطُ سُلّمَ التّاريخ متأبّطة ذراعَ السَّماء. وشُبِّه لي أَنّ هذه السيّدة ترفع أمام السلّم هذه اللافتة: اهدموا بيوتكم، وإلاّ قُتِلتم، وأَنّ أطفالَ فلسطين يرفعون في الفضاء هذه اللاّفتة: للموتِ ذراعان أَقْصَرُ من أن تُحيطا بِخَصْر الحجَر. - 4 - لا أعرف لغةً تَلتهم اللّحمَ والعَظْمَ إلاّ فيها، لا أعرفُ حجراً يرنُّ في سَمْع الأرض كأنّه جرسٌ بحجم السّماء إلاّ فيها، لا أعرف غَسَقاًَ يُهرّجُ إلاّ فيها. وحدَها، تعرف كيف تربّي الكلمات كأنّها تُرَبي قطعاناً من الذّئاب. وحدَها، تعرف كيف تُسمّي الرصاصةَ ريشةً، والقَتْلَ هَيْكَلاً. في دمها كبريتٌ أحمرُ ينحدرُ من جبال الملائكة، - آهِ، ما أَسْرعَ خطواتِكَ في رئةِ التّاريخ، أيّها الهواء الطّالعُ من فلسطين. - 5 - لم أَقل: تُهدمُ فيك أَدراجُ الأُفُق وَتُقَطَّع شرايينُ الهواء. لم أقل: تريدين أن تَعيشي في أنبوبٍ صُنع من حَديد اللُّغة، وأن تَتحوّلي إلى مُعْجَمٍ لِعضَلاَتِ الغَيْب. لم أقل: أنتِ الحُفْرَةُ وفوقكِ تَأتي الزَّلزلة. لم أقلْ: في الفكر كذلكَ، يَتطايَرُ البعوضُ ويمتصُّ دمَ الحقيقة. لم أقل، لم أقل. لماذا، إذن، تنظرينَ إِليَّ مِن ثُقْبٍ حفرتهُ يَدُ الجنّةِ، ويحرسه لسانُ الجحيم؟ - 6 - قولي، أيّتها الرّيحُ، كيف نجرفُ ذلكَ الرَّمْلَ الذي يَزْحَفُ مِن عَلٍ، ويملأ رأسَ التّاريخ؟ - 7 - حَقّاً، لا أَحَد يُفْلِتُ من غباره: غيرَ أنَّ العَذابَ يُواصِلُ حَفْرَ أَنْغامهِ في جسد الوقت، غيرَ أَنّ للوقت في الطّريق الذي نَسلكُه، رأسين، وَقَدَماً واحدة، غيرَ أَنّ حياتَنا تُهيِّئُ أسرّة أَيّامها في غُرفِ الموت، غيرَ أَنّني سَأُحرض الورقَ لكي يَسدَّ أذنيهِ، هَرَباًَ من ضَجيج الحِبْر العربيّ - مِن أَفْكارٍ تُصْنَعُ في مَعْملِ الرّيحِ وتُوزَّعُ في سُوقِ الغَيم، غيرَ أَنّني سأصرخ: حَسَنٌ أن تعيشَ، أيّها الشّاعرُ، في زمَنٍ يُريد أن يتحوّل إلى مِلْحٍ يُناطحُ الماء. - 8 - "سِلَعٌ مِن الدّم كثيرةٌ وعَذْراء، لكن، أَيْن مَن يُسوِّقُ، وأين الأَسْواق؟": هكذا أَخْبرَت، هكذا تَساءَلْت جرائدُ يُصْدِرُها الضّوءُ، خفيةً. وقيل إنّها عَقَّبَتْ قائلةً: "لم تعد أَعشابُ السّماء تَنمو إلاّ في جَوْفِ الآلة. وها هو القضاءُ الأبديُّ يكادُ أن يَمْتَثِلَ لحكم السّاعة". - 9 - يبدو كأنّ دواليب الطّبيعةِ، عندنا - في أرضنا العربيّة، تَنْفرُ من عَرباتِ الخليقة، وكأنَّ الأصوات في هذه الأرض، تكادُ أن تُصبحَ بُخاراً. - 10 - آهِ، ما هذا العالم - عالم الحريّة؟ هل سيبقى، حَقّاً، يداً مَقْطوعةً تعزف على قيثارٍ أَخْرس؟ - 11 - آهِ، مرةً ثانيةً، مَا هذا العالم الذي لا يُصغي فيه الخروفُ إلاّ لموسيقى الذّئب، ولا تنامُ عيونُ البَنادقِ إلاّ في وجوه الأطفال؟ عالَمٌ - شُعاعٌ غيرَ أنّه خيطٌ من النّار. نارٌ غير أنّها حديدٌ: متى سَتعرف، أيّها الثّابت، أن تقرأ التّحول؟ - 12 - "قلبي كتابٌ مفتوحٌ، ولا أجدُ من يَقْرأ": تقول الشّمس، ولماذا لا يَفهمني، إلاّ ذلك الشّيطانُ الذي يلبس الظّلام، وَيتنَزّه في بَلّور السّماء؟ نيويورك، 30 تشرين الأول أكتوبر 2000