(23 تشرين الأول/ أوكتوبر 2010) لم أنم، الليلة الفائتة، جيّداً. استيقظت باكراً للسّفر الى نيويورك من مطار هيوستن، وتركت الشمس تستيقظُ على مهل. كنتُ سألتُ الليل: لماذا أفلتَّ من بين أهدابي منسرباً في اتجاهِ أهدابٍ اخرى؟ * في السَّفر، يشيخ أولاً وجهُ الأفق. ثم تجيء اليدان والقدمان. صدرُ الأفقِ لا يشيخ. * لأولئك الذين يعشقون السفر عطرٌ يغارُ منه أنفُ الهواء. * الطّائرة موجزٌ فضائيّ. * امرأةٌ الى جواري في الطائرة لا أراها إلا بعينيّ، خلافاً لنساءٍ كثيراتٍ أراهنّ بخلايا بشرتي وتقاليدها. * أهناك عطرٌ يمكن أن يُوصف بأنّه هندسيّ؟ أو يمكن أن يقال عنه، تحديداً: له شكلٌ مخروطيّ؟ هل أسأل؟ من أسأل؟ * نيويورك/ نيوروشيل - لا تتذكر، تخيل. يأخذك التذكّر الى الوراء. يأخذك التخيل، في آنٍ، الى ما مضى، وإلى ما يأتي. إذا انتهت مخيلتك، ينتهي عقلكَ نفسه. ولئن غلبكَ الميلُ الى التذكّر، فلا تتذكّر إلاّ ما تحضنهُ المخيّلة كأنّه جزءٌ منها. نيويورك/ نيوروشيل - حزينٌ ذلك المكانُ، وشبه ذابل. أَلأنَّ نهارهُ لم يعد يشربُ من ماء ليله؟ أَلأنَّ الأجنحةَ فيه فقدت سُلطانها؟ أَلأنَّ الحلمَ لم يعد ثوباً يُخاطُ لجسم الواقع؟ * (24 تشرين الأول 2010) نيويورك/ نيوروشيل - تُحاول المخيّلة ان ترضع ثدي الواقع. واقعٌ لم يعد له أن يزدهي إلا برماده. مُرهقةً، تلبس القصيدة ليلها، وتدخل الى فراش نومها، حاضنةً آخر الصُّور التي رسمها المكانُ على قرميد الذِّكرى. * (25 تشرين الأول 2010) آنتيربيرغ بويتري سنتر، (Unterberg poetry Center) - في نيويورك، المركز الشعري الأكثر أهمية في الولاياتالمتحدة. القاعة مليئة. (سولد آوت). بين الحضور حفيد إيليا أبو ماضي، روبير ماضي. حملَ إليّ نسخةً نادرةً من الطبعة الأولى لديوان «الخمائل» في سنة 1940 في بروكلين بنيويورك. هديّة هزّتني حتّى درجة البكاء، تقريباً. كان في القاعة أيضاً أكثر من فنانٍ عربي. حقّاً، تُبدع الهجرة العربية في الولاياتالمتحدة لخطوات العالم، اليوم، مسافاتٍ فريدة. يبقى أن يدرك ابعادها أسيادُ الوطن - الأم. * للمشرَّدين في شوارع نيويورك زيتٌ سرّيٌ يدهنون به جسمَ الوقت. من منكم، يا شعراء نيويورك، قرأ مصنّفاتِ التشرّد والجوع في هذه الشوارع، الى جانب المصنفات الذرّية والإلكترونية في البنتاغون؟ وماذا تقرأونَ، إذاً؟ لا بُدّ من أن تقرأوا قفَا النهار والليل، لكي تقدروا أن تتخيّلوا الأشخاصَ الذين سيقودون هذه الشوارع في هذا القرن الحادي والعشرين، وما بَعده. وسوف تخضعون، أنتم أيضاً، حيثما أقمتم، وحيثما ذهبتم، الى تفتيشٍ نوويّ، خصوصاً عندما تعبرون تلك الألغامَ الأخرى التي تُسمّى الحدود. أصغُوا، منذ الآن: كلّ لحظةٍ، يخرج من حنجرة ماركس في «ماديسون آفينيو»، صوتٌ لا هويّة له، ولا حنجرة. كأنّه طالعٌ من تلك الأبواق التي تختزِنها محابر آندي وارهول. صوتٌ لا عمل له إلاّ التسكّع في مصحات العبث، وفي الصّفير النافِر من سيّارات إسعافه. وسوف تعاشرون بشراً مأخوذين بنسج أجنحةٍ يطيرون بها نحو ربّهم الأوحد. بشرٌ لا ثقافة لهم إلا نكشُ الرأسِ بفأسِ الغيب، وإلاّ كراهيةُ اليدين والقدمين. وربّما لن تقدروا أن تجيبوا عن سؤالٍ من هذا النّوع: ما الفرقُ، في «تشايْنا تاون»، مثلاً، بين التاسعة صباحاً، والتاسعة ليلاً؟ أو: ما الفرق بين أن تكون طفلاً في الثانية، وأن تكون شيخاً في الثمانين؟ ذلك أن الوقت سيكون جسماً آخر داخل الجسم. ذلك أنّ ما يُسمونه المستقبل سيكون كامِناً في جذرٍ يُسمونه الرّيح. * إِشاعة في «مانهاتان»: صورٌ فنّية للملائكة تُباع بالمزاد العلنيّ. * أجسامٌ غامضة في «الإيست ريفر»، تتناثرُ بين مخالب واضحة في «الويست ريفر». استيقظي، أيتها اللحظة التي طال سُباتُها. * (26 تشرين الأول 2010) نيوهافن. قراءة في جامعة ييل. قال لي جون دوناتيش، مدير دار نشر جامعة ييل، بنبرة زهوٍ وتعجّب في آن: نفدت الطبعة الأولى من كتابك في أقلّ من ثلاثة أشهر. ونهيئ الطبعة الثانية. عجبتُ أنا نفسي، وكدت أَلاّ أصدّق. فذلك نادرٌ في الولاياتالمتحدة، بالنسبة الى الشعر. * في الطريق بين نيوهافن ونيويورك، طابَ لي أن أتخيّل كيف أُغري الحدود، وأعلّمها أن تنكر نفسها، طابَ لي كذلك أن أسمع دويَّ تلك الحرب الأهليّة الناشبة بين أعضائي، وأن أطمئنَّ الى أنها حربٌ قد تهدأ، ولكنها لا تنتهي. * ويِتْمان، تلك هي أفكاركَ وصورك تتطاير في مانهاتان، فوق العمارات وبين الأزقّة. على رؤوس بعضها قُبعاتٌ كُتِب عليها: «الفلسفة هنا آخذةٌ في الزّوال. كل شيءٍ سياسةُ مالٍ. كل شيء مالٌ سياسيّ»./ «لا تقدر الولاياتالمتحدة على حملِ الحقيقة. كتفاها مريضتان. ثابتة في أمرين: التشتت في الدّين، والتجمّع حول اسرائيل. ولا رأيَ لثابتٍ على رأيه في أمرٍ واحدٍ، فكيف بأمرين؟». بعضها يلبس قمصاناً كُتب عليها: «ما يكون دينٌ يفضّل المعدة على كل شيء، أو يكون ثوباً واحداً لجميع الأجسام - نحيلةً وضخمةً، وللعقول جميعاً - آدميّةً وإلكترونيّة؟». * ويتمان، لماذا تبدو مضطرباً؟ هل أنتَ ضجرٌ من الدّين والمال والسياسة في الولاياتالمتحدة، الى هذا الحدّ؟ وأظُنّ انني قرأتُ مرةً لبعض أصحابكَ هذا القول: «يكون الدّين عند الشعوب سياسةً والسياسة ديناً، إمّا في أوج فتوّتها، وإمّا في أوج شيخوختها»، فهل نستطيع إقناعه لكي يقول لنا الأوج الذي يعيشه الشعب الأميركي، اليوم، والأَوج الذي يعيشه أصدقاؤه، خصوصاً صديقه العربيّ؟ * ويتمان، أظنّ أن الشعراء يتفقون معك اليوم على ضرورة البحث عن حِبرٍ آخر لكي نكتب هذه اللّفظة: «الحياة». وهم يقولون جميعاً: لا بُدّ من أن نجدَ لها معنىً آخر. تقدّم، إذاً، أيّها السّديم: كلاّ، لا نحتاج الى ثوراتٍ في الطبيعة، الحاجة، الآن، هي الى ثوراتٍ تغيّر النظر الى ما وراء الطبيعة. * (28 تشرين الأول 2010) قراءة في «بيت الشعر» في نيويورك. مركز يشرف على نهر الهدسون، ويليقُ بالشعر. حضورٌ كبيرٌ أشعرني أنه كمثل قبسٍ عالٍ يتوهَّجُ في ظُلمات نيويورك. * لقاء تتجدّد فيه خلايا اللّغة. تشعر كأنّ الأشياء تتنفسُ محضونةً بذراع المُستقبل. وكأنَّ كل مُستمعٍ يقول في ذاتِ نفسه: «اقتحمني، أيها الضوء، واستأصِل غياهبَ العصر». * «... سُمُّ خياطٍ لا تدخل فيه حتّى إبرةُ الظنّ»، قلتُ، بدوري، في ذات نفسي، أصِفُ عصرنا المقبل. وسألت الهدسون: «ما الفرقُ بين الدَّمع الذي تُسِيلهُ نيويورك من عذاب العالم، والدَّم الذي تلهو به سائلاً من عذاب أبنائِها؟». وكرّرتُ عليه: «كلا، أيّها الهدسون، لن أتوقّف عن الحبّ، حتّى لو حاصر أذنيَّ وحيكَ الخانق: «في اليرَقة الطّالعة من جذرِ الخشخاش، تكمنُ أُبوَّةُُ هذا الحاضر». * (1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010) «ألوان»، المركز الوحيد للثقافة العربية في نيويورك، (التحية لمؤسسه أحمد عيساوي ومعاونيه والعاملين معه جميعاً). دعانا، فاتحاً صدره للقاءٍ شعريَ معنا، خالد المطاوع وأنا. كان الحضور هنا أيضاً كبيراً. من جديد، تضطربُ تلك الحرب الهادئةُ الناشبة بين أعضائي. دائماً تجد بين «الجمهور» العربيّ، أينما التقيته، أشخاصاً يقدّمون بأفكارهم وآرائهم «وثيقة» حيّةً عن الواقع العربي السائد، هذه خلاصتها: 1 - الطّريق عندنا نحن العرب هي التي تمشي، لا القدم. 2 - الشيء، لا الإنسان، هو الذي يفكر، ويتحرّك، ويعمل. 3 - لا فرق بين اللعب مع نجمةٍ، واللعب مع قنبلة. 4 - النبيذ يستعبد الكرمة، والظلّ يستعمر الضوء. 5 - انكسرَ جسرُ الصورة، وكلٌ يستبسلُ في القضاء على المعنى. 6 - لا شيء إلا الشيء. ماذا نفعل حين يحفر التاريخ قبورنا عند عتباتِ بيوتنا؟ هل سنؤمر بالصلاة لبحرٍ أحمر أو أبيض لكي ينشقَّ فاتحاً لنا ذراعيه للخروج نحو أرضٍ أخرى؟ وها هو الفجر نفسه الذي يلوّح لنا لا يحمل على كتفيه إلاّ الأغلال. إنها بئرُ الغيبِ التي لا قرارَ لها تبتلع الصورة والمعنى. هكذا نُبعثُ من جديدٍ لغايةٍ واحدة: أن نُقتل من جديد. أحقّاً، تنتظرين القيامة، أيتها القصبةُ التي تُسمّى الإنسان؟ إلبسي يا قدسُ قميصاً آخر ليس لليقظةِ وليس للنوم. لحربٍ يتحوّل فيها بشرُ الوحدانيات الثلاث الى حطبٍ أخضر. ولن يكون لبانٌ ولا بخور. سيكون دخانٌ وأشلاء. قنابل ذكية جي بي يو - 39 قاذفات عملاقة - بي 52، إضافةً الى اليورانيوم ومشتقاته، والى عائلاته وموائده. ولا ننسَ: حجرُ الأساس في عمارة هذه السماء، يخرجُ من خطواتِ هؤلاء البشر. * حقّاً، نحتاج الى كلامٍ يكون في آنٍ مدوّراً ومستطيلاً، أحمر وأسود، لكي نتمكن من الكلام على هذه السماء، ولكي نقدر أن نكتب عن ابنتها السيدة نيويورك، وعن أخواتِها وصديقاتها السيّدات العربيات. نحتاج الى ثلج يكون ناراً، والى نارٍ تكونُ ثلجاً. الذَّبيحةُ هنا نجمةُ العالم، والرقصُ حولها زُنّارٌُ كونيّ. للعرب، للبنان خصوصاً، قرصٌ في هذا الرَّقص. ويبرعُ لبنان باللَّمسةِ التي يُضفيها على هذه اللّوحة ويُسمّيها الهجرة. وفي كلّ غصَّةٍ يبتكر كلّ لبنانيّ ربيعاً لكي يُدشِّن مُسبقاً لحظة العودة الى ضفافه، ضِفاف الشرق المتوسطيّ. متى تحين لحظة العودة؟ لو كنتَ تنطق، أيّها الهدسون، لكنت كلفتني بنقل تحيّاتكَ إلى الأَرز الذي لا تسكر الهجرةُ إلا به. ولقد حَمّلني إيّاها، بعد روبير ماضي، أكثرُ من فنّانٍ عربيّ - أولئك الذين يبدعون لخطوات العالم اليوم، كما قلت وأكرّر، دروباً جديدة، عالية. هنا، وجهاً لوجهٍ، تجلس الذّاكرهنا وجهاً لوجه، تجلس الذاكرة والهويّة. قدّمي الى جليستكِ، أيّتها الذاكرةُ مفتاح الريح. قدّمي وجهكِ أيتها الريح الى هُويّةٍ تدَّخرُ الأفق. * غداً، أغادر نيويورك. من أين يجيئني الشعور بالحاجة الى التجوّل في «وول ستريت»؟ ربما، لكي أتعلّم كيف أُحسنُ قراءة الفصل الأول من كتاب «شنغهاي». خصوصاً أنَّ خُطواتِ المحابر تتهيأُ للاتجاه نحو ينابيع ذلك الحِبر. رُبما، لكي أصغي ثانيةً الى تلك الأصوات التي تنزلق بين العمارات، آتيةً من الأرض العربية، ولكي أرى ثانيةً الى تلك الوجوه التي تتعثّر بإسفلتِ الشوارع. ربما، لكي أُلامِسَ مرةً أخرى، تلك الخيوط التي تجيء مما قبل التاريخ لكي تخيطَ التّاريخ. ربما، لكي أتفهم أكثر فأكثر، كيف تنحاز الأرض العربية أكثر فأكثر الى سراطين من نوعٍ آخر تتكاثر في محيطات المعدة، وفي فقهِ السّلاح الحربيّ. وكيف تعَذْبُ في نفوس أبنائِها، أكثر فأكثر، أملاحُ العقائد. ربما، لكي أرى الى الدّخان كيف يبتكر، ميدانيّاً، نشازاً خاصّاً لموسيقى الهواء. أو ربما، لكي أرى الى نفسي ذاتها، كيف تنطبخُ في فرنِ الحيرة. * كمثل لبلابٍ نتسلّق، نحن العرب، جبالَ نيويورك. لا أحدٌ يعرفُ مثلنا كيف يُبسملُ التبعية والعبوديّة. وما أبرعنا في العزف المُنكرِ على أراغنِ الغَيب. * شُغِلت، هذه المرة في نيويورك، بهمٍّ أوّل: كيف أحرّك فيها جمرَ المتوسّط، بدءاً من خمائرِ البحر الأحمر. ولماذا لا تزال السماءُ فيها تكتب أحلامها على أهداب الأرض، فيما تُواصلُ الأرض صُراخَها: كلاّ، ما أنا بقارئة؟ وفيما أسمع أصواتاً في الأنحاء كلها، صارخةً هي أيضاً: أن نقرأ هو أن نحكّ صدرَ السماء بأظافر الأرض. إذاً، اين من ينتمي اليك يا عِرقَ الأرض؟ أين الخفقانُ الكونيُّ في جسد الضّوء؟ أين الجمرة التي ترضعُ ثدي الشمس. وليست هذه ساعة القيامة، بل ساعة البدء. * تنزل شمسُ «لونغ آيلند» في نيويورك عن كرسيها، كل صباحٍ، لكي تشرب الشاي مع محمد عمر خليل في مرسمه الجديد. هنا، في هذا المرسم، رأيتُ الوقتَ ينسجُ معطفاً آخر للفنّ. الكتفان، اليوم، أكثر استدارةً، لكن الخاصرة أقلُّ نُحولاً. معطفٌ كمثل الهاوية، لا ظِلَّ له: أهذا هو السرّ في قامة الفنّ - قامة التحوّل؟ * بلى، يبدو أنّ شعر التَّكوين لا يقدر أن يرتاحَ، خِلافاً لأبجديّة اليوم السابع.