هناك على طريق مطار رواسّي - شارل ديغول الفرنسي أرزتان متقابلتان. واحدة على شمال الطريق الذاهبة والأخرى على شمال طريق العودة من المطار إلى باريس. وفي الزمن الفاصل بين الاتجاهين هناك بالطبع غابة الأرز في أعالي بلدة بشرّي بشمال لبنان. الأرزة الأولى: دائماً يأخذنا الحماس، حماس من النوع الذي يقرّبنا من سذاجة الريفي الذي لم يركب الطائرة من قبل. نتجه إلى المطار قبل موعد الطائرة بساعات، وحيت يلتقي بعضنا البعض الآخر يدور متعطلاً في الممرات أو مصطنعاً التبضّع من حانات السوق الحرة، نقول حرجاً انه "لا يؤمّن" لشركات الطيران عندنا فهي لا تحترم الحجوزات كما تفعل الشركات الأجنبية... وحين نبدأ بالتجمع في باحات الانتظار نحتار في ما عسانا نشغل أنفسنا به حتى لا تتلاقى العيون. فنحن، الذاهبين إلى بيروت، نتفرّق على مقاعد القاعات الفسيحة على عكس غيرنا من المهاجرين العائدين إلى أوطانهم في مواسم الصيف والعطل. تراهم هم، الآخرين، حلقات وجماعات متقاربة متهامسة يتبسمون فرحين ويتعارفون بسهولة وبشاشة خلق، فيما نبدو نحن كمن جمعتهم ظروف قاهرة أو مناسبة إلزامية لا حول لها في التنصل منها. كأننا، ونحن هناك منذ ساعات مجبرون على القيام بتلك الرحلة التي لا تشبه في شيء تلك الرحلات التي ستقلع طائراتها بعد قليل في اتجاهات سعيدة كلها على اختلافها. وترانا مثلاً لا نتردد في النظر شذراً إلى كثيري حقائب اليد ونضيق ذرعاً بالأولاد الراكضين بين المقاعد محدثين ضجيجاً وجلبة. في المطار الجديد، قلما تدهشنا التحسينات، وفي خطوط الانتظار أمام أكشاك الأمن العام نروح نتأفف محركين الهواء أمام وجوهنا بجوازاتنا الأجنبية مرفقة بإخراجات القيد. ومع وصول الحقائب نتهيأ للابتسام لمنتظرينا شاعرين بما يشبه التضحية المستمرة أو المستأنفة في سبيل الوطن الذي فضلناه على كافة مناطق السياحة الفسيحة، خصوصاً أن أرزة الخطوط الجوية الوطنية لا تهاود بأسعار التذاكر... ثم نقفز في الوطن بتصميم كبير على عدم الاحتفاظ، ولو سهواً، بأي ملمح قد يذكّر بهجرتنا. غابة الأرز: أين الكارثة؟! أين الكارثة في عصر الانحطاط إن أنت نظرت إلى الأمر بالمسافة اللازمة، إن أنت نظرت إلى امتداد الزمن بقلب مؤمن. صفحات وسوف تطوى. في بلدتي يسمونه أرز الربّ. أرز الخلود. منذ الأزل وإلى الأبد. قال ابن أخي للحضور: لكن أقدم أرزة عمرها لا يتجاوز الخمسمئة سنة كما قال أستاذي. غلط. أكبر غلط. أجاب الحضور: ما علاقة المؤرخين بالرمز، بالسرمد أو بزمن الأبد؟! الأرز جوهر لبنان، لا علاقة للجوهر بقياسات الوقت وبتغيرات الدهور... أو بالانتخابات. في الغابة نفسها أرزتان قديمتان كانتا تشيخان بتؤدة بحسب مفهوم الدهور. كانتا تموتان في مكانيهما السرمديين متخففتين من نسغ الوقت ودورات الفصول. وفي ذات دهر فلت عليهما شاب من شباب المنطقة يصفه من يعرفه بالعنجهية الوطنية والعنفوان الجردي وحب الناموس. ويُجمع أقرباؤه وبعض "الفهمانين" في الفن، ويُقال خوري الرعيّة أيضاً على عظم موهبته في فن النحت، هذا إلى جانب قرضه الشعر وتجليه في الرسم والتمثيل وغيرها... هذا الشاب الألمعي دخل الغابة، بعد أن استشار - بحسب ما رُوي، "جمعية أصدقاء غابة الأرز" المؤلفة من خيرة شباب عائلات المنطقة المتعلم... ونحت الأرزتين نحتاً مراً، تطلب شهوراً مضنية من تكريس الذات ونسيان العالم السفلي، ومن رفع السقالات الحديد ثم تفكيكها، وتسوير المكان لاستنهاض الوحي. وانتهى العمل باحتفال بهيج وتهانٍ وربما تعليق أوسمة استحقاق على قطعتي موبيليا بشكل رأسين من نوع الموغانو اللمّاع بلغة النجارين الذي لا يتطلب سوى رشّة "ديكو" كل بضع سنوات... على أي حال... ألم تكن الأرزتان في طريق الموت؟ ها نحن قد حوّلنا الطريق إلى الخلود الفني. الآن غابة الأرز ومنذ خلقها الربّ تدخل للمرة الأولى عصراً جديداً، دهراً جديداً. فليبرهن النحّاتون، والفنانون قاطبة عن جدارتهم. وليأخذ كل منهم أرزة - بحسب ثقل وزن طائفته وأهمية وأهمية منطقته "جيوبوليتيكيا" - وبكل الأحوال ليست الموهبة أو النجاح الفني موضوع نقاش، إذ سيكون ذلك متروكاً للأزمنة المقبلة ولنسبية التيارات النقدية المتوالية... سكة شباك بيت رئيس الجمهورية الفرنسية، لكي يتم طلاؤها باللون الأبيض المفترض نفسه تستدعي رخصة رسمية بلون الطلاء الأبيض لأن الجادة التي نطل عليها مسكة الشباك مصنّفة إرثاً قومياً بكاملها... من دون أن تكون رمزاً للأمة أزلياً سرمدياً... ثم ما علاقة فرنسا بفن النحت؟! الأرزة الثانية: إنها - كما أسلفنا - على شمالك وأنت عائد من مطار رواسي إلى قلب باريس. خضراء عملاقة وغير مسربلة بأي رمز أو جوهر. شبيهة بتلك القائمة قبالتها على طريق الذهاب، تمد شلوحها الأفقية بموازاة زرقة السماء وتحرّر القلب من جاذبية الأرض. ماذا لو نقيم بلاداً لنا بين هاتين الشجرتين... نحن العائدين إلى الهجرات بقبض الريح، بزهد جميل وبقبض الريح... لا تسعفنا ضمّادات الحنين والنوستالجيا... إذ للنوستالجيا أهلها ووكلاؤها و... نحاتوها.