يجول الخبير في الفن التشكيلي والباحث نيكولاس دوفيشن الهولندي في الشرق العربي بحثاً عن أسئلة. هو مدير غاليري في بييتي التي تعنى بفنون الشرق في أمستردام. ويشبه مؤسسته هذه بمنظار قاعدته أسئلة تأتي من الشرق، النظر فيه جاء بداعي فقدان التوازن الذي أصاب إنسان أوروبا. في عمان التي أقام فيها نيكولاس دوفيشن قرابة الشهر كان معه هذا اللقاء: لنتحدث أولاً عن أسباب جولتك في الشرق؟ - إنني هنا كي أرى وأسمع قد ما أستطيع وكي أجمع أفكاراً وفقاً لحدسي. أتمنى عند عودتي أن أكون قادراً على فعل ما، من خلاله نلتقي - أمسترداموعمان - في فكرتنا عن الفن. لأنني منذ أسبوعين بدأت أتفهم أشياء كانت بعيدة عني. أشياء مثل ماذا؟ الفن من عادته أن يكون جامعاً وحاضنة؟ - ما رأيته في هذه الفترة أعطاني القدرة على تفهم إمكانات الفن التشكيلي في الأردن في هذه اللحظة، وما رأيته قرّبني الى جوهره والى مستواه الإبداعي والتقني. ربما كان ذلك لأنني تعرفت إليه من أرضه الجغرافية والمعرفية التي أنجزته. أنت تدير مؤسسة فنية على صلة بالفنون الشرقية... ما هو الجاذب في الشرق بالنسبة لك؟ اللون والضوء أم تراث أسلافك: غويا وسكويز وغيرهما؟ - سوف أنطلق من علاقتي بالشرق لإيضاح فكرتي. بعدما أنهيت دراستي الأكاديمية ذهبت الى القاهرة، وفي هولندا وصفت بالجنون، قلت: لماذا؟ قيل: لأنك لو أردت أن ترصد تطور الفن، عليك أن تذهب الى فرنسا ونيويورك وانكلترا. كان الفنانون المصريون يبحثون في تاريخهم القديم عن نقاط التقاء تربطهم بالمعاصرة، كانت الهوية بالنسبة لهم شديدة الأهمية. إن الهوية في الشرق جذبتني اليها، لأنها مختلفة تماماً عن التي في الغرب، لقد تغيرت الحياة هناك بشكل عام مع تطور التكنولوجيا، وكانت واحدة من نتائج هذا التغيير حدوث الاهتمام في متابعة التحولات الطارئة على طرائق التفكير وآلياته بسبب اختفاء التوازن الذي يخلقه الاهتمام الفردي بالأشياء التي في المحيط وعلاقة ذلك بالشعور الداخلي الناجم عن رؤية الأشياء والأثر الذي تتركه الرؤية على حياة الفرد والجماعة. وأقول شيئاً بات مهماً بالنسبة لي: نحن نحتاج الشرق لاستعادة ذلك التوازن المفقود... ربما حدوث ذلك الآن صعب بسبب النظرة التي ينظر اليها الأوروبيون وفقها الى الشرق، حيث لا يتعلمون هناك سوى من القوي لا من الضعيف. إنهم ينظرون الى الشرق على هذا النحو بشكل عام، وتجيء المؤسسة التي أديرها لكسر هذه النظرة... على سبيل المحاولة. هل كانت هذه العلاقة بالشرق وفقاً لما لاحظته حين أقمت فيه أم هي نتاج قراءة أنتروبولوجية؟ - سأقول شيئاً لمع في خاطري الآن، إنني عندما أتحدث الى أي شخص هنا يشير الى المكان الذي انولد فيه والى عائلته. واصفاً نفسه من حيث هو كائن اجتماعي وليس أنتروبولوجي، وهذا الوصف يحدده كجزء من الكل... ذلك خلق لدي انطباعاً هو أن العلاقة العاطفية مباشرة هنا، بالمجتمع والطبيعة والعائلة والشمس. إنها أقوى بكثير من تلك العلاقة الموجودة في أوروبا على سبيل المثال. وهذه المسألة أخذتها بعين الاعتبار فيما أتجول بين أعمال الفنانين التشكيليين هنا. أؤمن، مئة بالمئة، أن هذا الفن لو قدّم في هولندا فإن المتفرج هناك سوف يتذكر شيئاً ما كان يملكه زمان. وقد ينفع ذلك في إعادة التوازن المفقود الذي أشرت اليه. لذلك أقول بأننا هناك نحتاج فن الشرق، ليس بسبب الرومانسية ولا بسبب ألف ليلة وليلة، إنما المقصود هو: التكوين الاجتماعي للشخص الشرقي. أحسب أن خلطاً ما هنا يحدث... لنوستالجيا ما تختلط بالمعرفة والاكتشاف... - هو كذلك وليس كذلك، الشخص المشغول لطيلة حياته أن يعرف مَن هو، يعود بسبب ذلك الى أكثر من تجربة. النوستالجيا واردة في تلك العودة، لكنها ليست مطلقة على رغم أنها قد تبدو كذلك من الخارج، ربما ببساطة لأن الداخل الإنساني يتطور ويتحرك ويتقدم مع الذكريات وفقاً لشيء يدركه ولا يدركه في آن واحد... هو انكسار اليقين وتشظيه في الشك. أعود الى الفن هنا. فالذي يحدث حين أرى لوحة ما شرقية، فكرة وتخييلاً ولوناً، فكأنني أرى ما جرى في البارحة مثلما أراها صورة في المستقبل. ذلك ما أعنيه بالنوستالجيا من حيث هي موجودة وغير موجودة معاً، لأن الذي جرى في البارحة هو الآن ذكرى تقول كيف يمكن لنا أن نعلي من شأن الحدس أكثر من الواقع مثلما تقول كيف يمكن أن نكمل العالم. في ظني أنك تقول شيئاً ينبعث من تلك المنطقة التي تقع بين الحدس والشعر... هل تتحدث هنا عن المصير، بما هو مصير فردي وبما هو شقاء معرفي؟ - لو امتلكت جواباً، كنت بلغت الراحة... لكن لا أجوبة تعطي الحقيقة أو بعضاً منها. أنا في ذلك أرى أن الفن الجيد يتطلب دائماً أسئلة جيدة... والذي يريد أن يتطور حدسه عليه أن يطرح أسئلة مهمة. وهذه الأسئلة يأتي بعضها من الفنانين الذين يضعون أسئلة الغد. ولو أردنا أن نعرف أين نحن؟ في هذا العالم وإلى أين نذهب؟ وما هو المصير؟ فإننا نحتاج السؤال من الشمال ومن الجنوب ومن الغرب ومن الشرق وربما من جهات أخرى غير مكتشفة بعد. * ترجم الحوار شفاهاً من الهولندية الى العربية: ياسر نحلة