قبل أسابيع قليلة كان الكل يتحدثون عن السلام المرتقب والاتفاقات التي أصبحت جاهزة للتوقيع عليها بمن فيهم إيهود باراك ومن قبله بنيامين نتانياهو. وفجأة تغير الموقف وانفجر! البعض فوجئ بالتغيير الفجائي، والبعض الآخر - وأنا منهم - توقعه ووضعه ضمن الاحتمالات الجائزة أو الحتمية لأن هذا من لوازم "لغة الصراع". فالصراع ليس معناه القتال لأن الأخير جزء منه إذ تتصارع الدول لتليين الإرادات وفتح الطرق إذا اسندت وتعذر المرور خلالها إلى الأهداف المطلوبة مستخدمة كل الوسائل الديبلوماسية والاقتصادية والإعلامية والقوات المسلحة. ومن المعروف أن لكل لغة "لهجاتها" المتعددة بما في ذلك لغة الصراع. فالكلمة أو الحوار حول طاولات المفاوضات البيضاوية والمستديرة والمستطيلة والمربعة "لهجة"، والحوار في ميادين القتال باستخدام الحجارة وزجاجات مولوتوف والسكاكين والخناجر والدبابات والطائرات والمدافع "لهجة" أخرى. أي أن الكلمة لهجة والطلقة لهجة أخرى لها قوة الإقناع نفسها التي للكلمة. فالكلام لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية والقتال أيضاً لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. فالغرض من استخدام كل اللهجات هو الوصول إلى موقف سياسي يرضى عنه الأطراف رضاءً ناقصاً يحقق الأغراض الناقصة لهم. وما الاتفاقات التي ترفع في نهاية الأمر إلا تعبير عن واقع القوى التي تجتمع حول الطاولات بأشكالها المختلفة، فإذا رأى طرف أن ما في الأوراق لا يحقق أمانيه ولا يتوافق مع قواه الحقيقية لجأ إلى الطلقة ليعدل عن طريقها الموازين ويلين بواسطتها المواقف المتصلبة، ولا مجال في ذلك للشعارات، فهي عمليات حسابية قبل كل شيء. إيهود باراك بتصرفاته الغريبة التي يريد عن طريقها إجبار العرب على قبول أمر واقع غير عادل قلب الطاولة بغرور ليندفع بالحوار إلى التصادم على الأرض وفي الشوارع وحول الأماكن المقدسة مؤمناً بأن استخدام القوة هو الوسيلة الوحيدة لممارسة السياسة، فإما أن يقبل أبو عمار تنازلات تهدد الحاضر والمستقبل، وإلا فهي الحرب!! هكذا يفكر رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يضع على رأسه قناع حمامة ويخفي باقي جسده الذي هو في واقع الحال هيكل صقر، ولكنه لم يضع في حسابه أن الرأي العام العربي يؤمن بأن مستقبله يتوقف على توفر العزيمة والقدرة على استخدام القوة أكثر من رغبته في التفاوض بخاصة بعد أن أقنعه باراك بمواقفه بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة إذا لم تقنع الوسائل السلمية كل الأطراف للوصول إلى حل عادل على أساس توازن المصالح وليس على أساس توازن القوى. الولد الشقي الذي يتمثل في القيادة الإسرائيلية الجامحة يتعامل معنا وكأننا جيران طيبون ليس بيدهم حيلة ولا رادع تحت غرور القوة التي يستورد وسائلها من الولاياتالمتحدة. ولا يمكن أن يتخلى الولد الشقي عن سخفه وشقاوته وعدوانه إلا إذا شعر أنه معرض للعقاب، وإلا إذا شعر بأننا قادرون على توجيه الضربة الثانية إذا هو أقدم على توجيه الضربة الأولى. وبمعنى آخر فإن هذا الولد الشقي لا بد وأن يتأكد أنه إذا كان بيده قوة الردع، فإن لدينا قوة الردع المضاد لأن توفر القدرة على توجيه الضربة الثانية يمنع توجيه الضربة الأولى من الآخرين. وأنه إذا كان معتقدا أنه عن طريق العوامل الجغرافية والديموغرافية يمكن إذابة الحقوق التاريخية فإن اعتقاده هذا خاطئ. وأنه إذا اطمأن إلى أن يحوز على توازن القوى في جانبه فيفعل بنا ما يشاء لأن في حوزتنا أصبح واجباً علينا أن نجعله يشعر بالقلق، توازن الرعب لأن الرادع الأصغر يمكن أن يردع الرادع الأكبر وأن الأسلحة تحت التقليدية وهي الحجارة وزجاجات مولوتوف والخناجر والسكاكين والبنادق والمسدسات قادرة على التصدي للأسلحة التقليدية وهي الطائرات والدبابات والمدفعية، فالبعوضة تقلق الفيل والقنابل البشرية تجبر القنابل شديدة الانفجار على الانسحاب كما حدث في فيتنام حيث تصدت قوات الجنرال جياب للقوات الاميركية وأجبرتها على الانسحاب وهي تستر عورتها بأوراق التوت. وكما حدث في جنوبلبنان حيث تصدت قوات الشيخ حسن نصرالله للترسانة الإسرائيلية وجعلتها تهرول جنوباً إلى داخل اسرائيل بعد أن ظلت ترفض تنفيذ القرار 425 لمدة عشرين عاماً كاملة. ولكن ما هو توازن القوى الذي يحلو لنا دائما التحدث عنه؟ وباختصار شديد فإنه يقال إن توازن القوى قائم بين الأطراف اذا وصلوا إلى حالة يتعذر عليهم في ظلها اللجوء إلى استخدام القوة لفض المنازعات بينهم. ولذلك فإن التعادل في موازين القوى يحقق الاستقرار الاستراتيجي ويعمل على التقليل من اشتعال الحروب، لأنه يحقق الردع المتبادل. أما إذا كان توازن القوى في جانب طرف من أطراف الصراع فإنه - كما أردد دائما في كتاباتي - يصبح قادراً على فعل ما يريد ومنع الآخرين من فعل ما لا يريد. ولذلك فإن توازن القوى هو الذي يحدد نوع الاتفاقات التي قد تكون رديئة إذا عبَّرت عن خلل توازن القوى بين الموقعين عليها وهي اتفاقات غير دائمة لأن توازن القوى شيء متغير أو قد تكون اتفاقات عاقلة اذا عبرت عن توازن المصالح بين الموقعين عليها ولذلك يحترمونها ويحافظون عليها وتكون دافعا للأجيال المقبلة أيضا لتتمسك بها، ولذلك تكون لها صفة الاستمرار. طريقة حساب توازن القوى بين أطراف النزاع هي التي تضع الأساس للعلاقة بينه وبين توازن الرعب، فالحسابات تعتمد على عوامل مادية مثل حجم الوسائل المتيسرة ونوعها وحجم القوات المتاحة، وفي الوقت نفسه - وهذا هو الأهم - يعتمد على عوامل معنوية مثل نوعية وقدرات القيادات ومستوى التدريب والإيمان بالفرض وهذه حسابات معقدة، ولذلك يتجاهلها الكثيرون، فالقيادات الماهرة كسب لنصف المعارك، والتدريب الجيد يغطي ثغرة التفاوت في نوعية وحجم المعدات والأسلحة، فليس هناك سلاح رديء أو وحدة مقاتلة رديئة، ولكن توجد قيادة ماهرة وقيادة عاجزة، فالعبرة أولاً وأخيراً بالرجل وراء السلاح. إذن فأن يكون لدى إسرائيل هذا الكم من الأسلحة لا يحسم قضية توازن القوى إذا ووجهت بالتخطيط الجيد لاستغلال السلبيات في محيطه المعنوي والضرب على نقاط ضعفه، وهي كثيرة. فللضعف في كثير من الأحيان قوته وللقوة في كثير من الأحيان ضعفها وعجزها كما ظهر في عمليات جنوبلبنان التي جعلت قوات صغيرة بأسلحتها البسيطة تجبر العدو بترسانته الهائلة على الانسحاب إذ لم يتحمل الاستنزاف المستمر في قوته البشرية. فإسرائيل حساسة جداً من ناحية خسائرها البشرية، وتصر على سحب جثث قتلاها وإخلاء جرحاها حتى ولو استخدمت الحبال، وتحرص أيضاً على تبادل الأسرى بعد ايقاف العمليات. وهذا يثبت أنه يمكن للأسلحة تحت التقليدية أن تردع الأسلحة التقليدية وفوق التقليدية. وأن التعامل مع قوتها البشرية يساعد في الحصول على توازن الرعب فهي الفرض المناسب في هذا النوع من الصدام والمواجهة. إسرائيل تركز ضرباتها ايضاً على أغراض القيمة المضادة، وهي الأغراض المدنية، باستخدام ذراعها الطويل، أي القوات الجوية كما فعلت معنا في مصر أيام حرب الاستنزاف بضربها للمدارس والمستشفيات والمصانع والتجمعات السكانية ومحطات الكهرباء، وكما فعلت في لبنان أيضا في قانا أيام الحمامة بيريز وضربها المحطات الكهربائية أيام الحمامة باراك. في حين تلتزم قواتنا بضرب أغراض القوة المضادة وهي الأغراض الحربية كإغراقنا المدمرة "إيلات" في مياه بورسعيد وضربنا الحفار "كينتن" Kenting في ميناء ابيدجان في كوت ديفوار وقيام قوات "حزب الله" بغاراتها على الجنود والوحدات مع تجنب التعامل مع سكان الجليل أو تدمير محطات الكهرباء والمياه، فلماذا لا نغير هذه السياسية؟ لقد ظهر عجز اسرائيل الكلي في التصدي لقوات "حزب الله"، إذ كيف يمكن للقوات الجوية أو الدبابات التصدي لقوات محدودة تتحرك عبر المدقات بين الجبال ثم تظهر فجأة وتختفي فجأة؟ كيف يمكنها التصدي للقنابل البشرية التي تفجر نفسها في الباصات أو المقاهي؟ هل يمكن للقوات الجوية أو المدفعية التصدي للتظاهرات أو لصوص تقتحم المنازل؟ مستحيل!!! إذ لا بد أن يتكافأ العقاب مع الجريمة فالفيل لا يمكن قتل باعوضة أو نملة فجسمه ضخم كبير، في الوقت الذي تتمكن فيه الناموسة من قرصه في "زلومته" وأن تقوم النملة بإقلاقه فيعز عليه النوم. إسرائيل أيضاً حساسة جداً من ناحية العمق الذي أصبح الآن مكشوفا وفي متناول اليد. فالفلسطينيون الحاقدون الغاضبون موجودون غرب وشرق الخط الأخضر وفي كثير من المواقع التي تلتف الطرق الإسرائيلية حولهم وهم بدورهم يلتفون حول الإسرائيليين في مستعمراتهم ومصانعهم. وعلاوة على ذلك فإذا كان لديهم الاحتكار في بعض أنواع الأسلحة فللفلسطينيين احتكار مماثل في القنابل البشرية على سبيل المثال فهي صناعة محلية لا يمكن لإسرائيل تقليدها أو إنتاجها أو استيرادها، فلا يفل الحديد الى الحديد والبادي أظلم. مناحم بيغن في كتابه "التمرد - The Revolt شرح تجربته وهو يقود عصابة الأرجون ضد القوات البريطانية أيام الانتداب، ويؤكد أن الرعب وحده عن طريق قتل الجنود البريطانيين وشنقهم في حبال مربوطة في أغصان الاشجار وتفجير الثكنات والفنادق ووضع المتفجرات في الحدائق والشوارع وصناديق القمامة، هو الذي جعل حياة قوات الانتداب جحيما وهو الذي غير القرار السياسي في "هوابتهول" فيصدر قرار الانسحاب مع ترك فلسطين للفوضى التي تعيش فيها حتى الآن. يا أصحاب القرار في اسرائيل، هل من المعقول أن تدفعوا الأمور الى هذا الواقع البشع؟ هل يوافق عاقل أن يسمح لفرص السلام العادل بأن تتراجع ويحل محلها القتل والخراب والتدمير؟ هل تحت الشعور بغرور القوة وزهو الحصول على توازن القوى تنسون أن توازن الرعب موجود ميسر؟ القوة تدمر الأغراض والرعب يدمر الإرادة والنفوس. فتوازن القوى رهينة في يد توازن الرعب، وكلاهما يدفعان بالأمور الى حلقات ليس لها نهاية وإلى آبار ليس لها قرار، فهل تحبون ذلك يا من تتواجدون على الجانب الآخر من التل؟! العلم ما زال في يدنا لكي نغرسه بسواعدنا فوق قبة الصخرة وفي كل مكان، فالبلاد بلادنا والأرض أرضنا والله أمرنا في كتابه العزيز "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم". فهل سمعتم يا من تتواجدون على الجانب الآخر من التل؟ هل تريدون من شعوب المنطقة ترك قراراتهم في القرآن والإنجيل والتلمود ليتفرغوا لقراءة كتاب "التمرد" لمناحم بيغن الذي لخص فيه تجاربه في إحداث الرعب وقت أن كان يقاتل كارهاً في صفوف عصابة الأرجون؟ لكم الخيار ولكن قبل أن تختاروا اسمعوا وعوا. * كاتب ووزير دفاع مصري سابق