سوف تدهش متى علمت انني أوافقك تماماً على ما تعطيه من أهمية بالغة لأمن اسرائيل، فهذا واجبك كمواطن وكرئيس للوزراء، وقد تعجب في الوقت نفسه عندما تقرأ انني أوافقك على ما تشعر به من قلق وأنت ترى وتحس خوف مواطنيك من واقعهم وقلقهم على مستقبلهم، فهذا يدخل ضمن مسؤولياتك الحساسة خصوصاً بعدما احطتهم بطوق من الكراهية والشك بتصرفاتك وافعالك وعدوانيتك! وبعد ذلك يبدأ الخلاف معك على كل شيء!.. فهل بالوسائل التي تتبعها حالياً وبالطرق التي تمارسها كل يوم وليلة يمكنك تحقيق الأمن لبلدك وتزيل القلق من صدور مواطنيك؟ هل بالسياسة التي تتبعها حالياً أنت والفريق الذي جمعته حولك يمكنك ان تحقق الأمن للوطن والمواطن؟ لا أظن. والسبب واضح لا يحتاج الى تبرير، فالأغراض والأهداف التي تريد تحقيقها انفصلت تماماً عن الوسائل التي تستخدمها، وأصبح الغرض الاستراتيجي المستهدف، وهو ضمان زرع الدولة في المحيط الذي فرضت نفسها فيه، متعارضاً تماماً مع الوسائل الغليظة والمستهجنة التي تتبعها، لأن الوسائل التي اتبعها آباؤك الأوائل لفرض وجود الدولة لا تصلح أبداً لاستمرار وجودها وأنت فشلت فشلاً ذريعاً حينما لم تدرك هذه الحقيقة، التي نجح في إدراكها شمعون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، عندما ظل متمسكاً بالغرض الاستراتيجي وأدخل تعديلات تكتيكية كبيرة لتنفيذ استراتيجيته الثابتة لتكون متفقة مع تغير الأحوال على المستويين الاقليمي والعالمي، وليس معنى هذا أنني اتفق مع ما ذهب اليه بيريز، ولكن كل ما أريد قوله إنه يحاول ان يستبدل الاساليب القديمة بأساليب أخرى تتفق مع ما حدث من تغييرات، فالحرباء تغير من لونها مع احتفاظها بجسدها كما هو من دون تغيير. عيبك الواضح هو أنك رافض لكل شيء، فالحقائق في جانبك وحدك، والأمن لك وحدك، وبذلك لا تنظر ابداً الى الجانب الآخر من التل. ويزيد من سوء إدراكك للأمور أنك لا تتصرف دائماً بدماغ ساخن لترى خصوصاً أن الآمال العريضة التي تصيغها في قالب عقائدي عفا عليها الزمن، تتضاءل وتتآكل بمرور الأيام، بينما يظل العرب على رفضهم لمحاولات فرض الأمر الواقع الذي تريد بناءه على أساس التهديد باستخدام القوة، وهذا بناء لا يمكن ان يصمد في مواجهة رياح السلام التي تهب على منطقة ارهقتها الحروب وتريد أن تتفرغ للبناء والتقدم. ولكنك تتعافى عنها كأن منظارك العقائدي الذي تضعه على عينيك أصبح عصابة كثيفة تحجب عنك الحقائق وتخفي عنك الواقع فتظل أسيراً للأوهام التي ستقودك الى بحر الرمال الذي غاص فيه من سبقوك من أساطين الاستعمار ودهاته، الذين أعمتهم القوة عن اساليب التعايش ونيران الحروب وقسوتها عن زهور السلام وخيراته. ولا غرو بعد ذلك ان تجد نفسك في مصيدة كبيرة صنعتها لنفسك بنفسك وتحت ضغوط عالمية واقليمية وداخلية تقابلها بمزايد من التصلب والعناد فتصرخ طالباً الامن حتى في ظل تفوقك في القوة التقليدية وفوق التقليدية وربما النووية. والغريب انه كلما زاد حجم السلاح الذي تتزود به يزداد قلقك على أمن الوطن والمواطن!.. فلا أمن الوطن تحقق حتى بعد 50 عاماً على انشاء الدولة، ولا استقرار المواطن ساد الغالبية العظمى من الشعب. ولم تتوقف لحظة امام هذا التناقض العميق بين ضخامة التسليح كماً وكيفاً وبين تراجع أمن الوطن والمواطن... لمَ هذا التناقض؟.. ولماذا تتسع الفجوة بين ما يحدث وبين ما تريد؟.. لماذا يستمر القتال في الجبهة الشمالية في جنوبلبنان؟.. ولماذا يستمر الزلزال والغضب والسخط في كل المدن شرق الخط الأخضر الكراهية الكامنة غربه؟.. إلامَ تستمر الدولة في الحياة تحت ظل اقتصاد الحرب الدائم؟.. وإلامَ يتحمل الآباء والامهات فقدان أولادهم في قتال ليس له معنى ولا هدف؟.. أمام هذا الوضع الغريب تجد نفسك تحت ضغوط ثقيلة متضاربة، فبعض النداءات يطالبك بالسلام مع الجيران وبالانسحاب من جنوبلبنان وايجاد حل لمشكلة الجولان وتنفيذ اتفاقاتك مع الفلسطينيين، وبعض النداءات يطالبك بعدم التخلي عن أرض التوراة وبعدم الانسحاب من بوصة من الارض المغتصبة وبزج أعداد أخرى من المناضلين الى داخل السجون. وحينئذ يحتار المرء بين السجان الذي وضع نفسه في المصيدة وفرض على شعبه حياة الغيتو من جديد وبين السجناء المناضلين الذين حرمهم هذا السجين من الزوجات والابناء في غلظة أبكت الرئيس كلينتون ومادلين أولبرايت في بيت حلم اثناء زيارتهم الأخيرة الى فلسطين! وفي حيرتك الكبيرة الظاهرة للعيان تظهر أمام العالم أجمع كأضغف رؤساء وزراء اسرائيل قاطبة لا تقوى على اتخاذ أي قرار، ولا تقوى على احترام توقيعك على أي اتفاق، فالاتفاقات التي تعقدها سرعان ما تتنكر لها وانت تظن ان هذا من مظاهر القوة. ولكنك في ظل عجزك عن اتخاذ قرار أو تحديد موقف، وفي ظل عدم قدرتك على الالتزام بما تتعهد به تظهر وكأنك ريشة احد الصقور في مهب الرياح، والسياسي الضعيف الذي يضع نفسه داخل جلباب فضفاض لا يعرف إلا كلمة "لا" ولا يعرف إلا الرفض ويعجز عن التحرك في طريق السياسة الوعر ليس سياسياً... فقول "لا" اجراء سلبي وسهل ينطق به من يفتقر الى الخيال والشجاعة والاقدام يؤدي الى الجمود فتبقى المشاكل على ما هي عليه حتى يحدث الانفجار نتيجة للتناقض بين تحرك الأحداث وتغير المسارح وبين جمود الحركة لمواجهتها بالحلول اللازمة لنزع الفتائل. وأنت كرئيس وزراء على هذه الحالة من الضعف لا يمكن ان تكون زعيماً في يوم من الأيام لأن القائد الحقيقي هو الذي يقود الجميع لتحقيق الأغراض القومية لبلاده فلا يخضع لديكتاتورية الاقلية ويقف عاجزاً امام صوتين أو ثلاث في الكنيست ويغلب مصلحة بقاء حكومته الهشة على تحقيق الأمن القومي لبلاده، والزعيم أو القائد يا رئيس الوزراء هو الذي لا يهبط الى آراء الأقلية بل يعمل على جذبها الى مستواه، فهو سيد داره وصاحب قراره ولا دخل للديموقراطية في ذلك، إذ لا يجوز الخلط بين عجز القائد وضعفه وبين الاتجاه الديموقراطي، لأن الرئيس في نهاية الأمر هو الذي يصدر القرار خصوصاً اذا كان رئيساً منتخباً انتخاباً مباشراً وان لم يفعل ذلك - كحالك لأن في إدارة الأمور - يصبح قزماً في رئاسته خاضعاً لغيره من عمالقة الاقلية و لا أدري كيف يقود الاقزام غيرهم من العمالقة! ولا أدري ايضاً كيف نسمي تحكم الاقلية في آراء الأغلبية ديموقراطية؟! وفي حالتك هذه، التي تظهر بها أمام العالم، تصبح الرجل غير المناسب في الموقع غير المناسب وفي الوقت غير المناسب. وحده التحول في تاريخ الامم يحتاج الى القادة العظام ليقودوا شعوبهم الى طريق سلام الشجعان، وقيادة الشعوب في عهود السلام أصعب كثيراً من قيادتها في عصر الحروب لان السلام بناء وتقدم رخاء وهذا في حد ذاته ويحتاج - كما سبق ان ذكرت - الى العظماء من القادة، وشئناً أم أبينا فقد أصبحت اسرائيل دولة ضمن أفراد العائلة الدولية والاقليمية الأمرالذي يحتم عليها الالتزام بالشرعية الدولية وإلا اصبحت دولة شاردة. فهناك فرق كبير بين العصابات التي يتعامل معها الانتربول وبين الدول التي تعمل في إطار القانون الدولي وتحت مظلة الهيئات الدولية، إذ الواجب على الدول ان تلتزم بتعهداتها واتفاقاتها حتى لو تغيرت حكوماتها واداراتها فما تعهد به السابقون فيه إلزام للاحقين، وعلى الدول أن تحترم توقيعاتها على الاتفاقات والمعاهدات والمذكرات بما فيها من مبادىء وبرامج زمنية، وعلى الدول ألا تسرق مياه الغير ولا أرضهم، إذ تجرف ترابهم لنقله الى أراضيها الجرداء. هذه البديهيات تلتزمها الدول المحترمة ورؤساؤها ذوو الشرف والكرامة حتى تنال احترام المجتمع الدولي. فهل تلتزم بذلك يا سيادة رئيس الوزراء؟ هل تظن أن ضربك عرض الحائط بكل ماذ كرنا هو من علامات القوة أم مظاهر الضعف؟ وهل العناد في نظرك هو صنو للقوة وهل التهديد بالبطش والتراجع عن تنفيذ الالتزامات واغراقها في قيود جديدة هو رمز للسيطرة على الأمور والتحكم فيها؟. هذا الخلط في إدارة الأزمة يغذي العزم على المقاومة وينمي روح عدم الثقة لدى أصحاب الحق في الوصول الى اتفاقات متوازنة مع فريق قائده على هذا الحال من العجز وعدم المصداقية. هذه التصرفات لا تعبر عن القوة بقدر تعبيرها عن الحيرة والعجز، الأمر الذي يخشى منه ان تفلت الأمو وتقود الجميع الى الكارثة. الأمن الذي ترفعه شعاراً للسلام شيء معقول نتفق معك فيه على طول الخط ولكن الأمن لمن؟ وبمن؟ فاذا تخيلت ان الأمن هو الامن المطلق لاسرائيل عن طريق احتفاظك بالارض وعن طريق تفوقك في توازن القوى فأنت واهم لأن الأمن المطلق هو مجرد وهم ولكن الأمن المتبادل لجميع الاطراف هو السبيل الوحيد لتحقيق أمنك وأمننا، فهل اغتصابك لأرض الغير هو تحقيق للامن الذي تسعى إليه؟ وهل يتحقق الامن بالقوة فقط؟ وأي قوة تلك تؤدي الى ذلك في نظرك؟ فالأسلحة التقليدية وفوق التقليدية منتشرة وفي يد الجميع ولكن اصبح لدى الفلسطينيين ترسانة من الاسلحة تحت التقليدية تجعل توازن الرعب في جانبهم والقدرة على الإيلام معهم. والمفارقة الغريبة تكمن في ان الاسلحة التقليدية وفوق التقليدية والنووية لا تجدي أمام الأسلحة تحت التقليدية والذي لا يملكون يمكنهم التصدي للذين يملكون، وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة ويعرفها ايضاً قادة جيش الدفاع على مستوياتهم المختلفة، فما هو الحل؟. الشيء الغريب، وأنت في ما أنت عليه من قوة، انك توكل الى غيرك الحفاظ على الامن. ففي جنوبلبنان توكل الأمر الى جيش الخائن لحد وتشترط لانسحابك من هناك تنفيذ القرار 425 ان يتولى جيش لبنان ذلك. وقد تفكر تحت وطأة الخسائر الفادحة التي توقعها بك عمليات الفدائيين ان تقوم باحتلال مزيد من الارض أو ربما تفكر في الوصول الى بيروت كما فعل شارون ذلك من قبل في عملية السلام من أجل الجليل ولكن عليك أن تسأل نفسك: ثم ماذا بعد؟ اسطول خطوط مواصلاتك وتمتد في الوقت الذي تريد تقصيرها وسوف تسهل الأمر أمام الهجمات المضادة لتقطيع مواصلاتك وتزيد من متاعب إعاشة تموين قواتك، ثم خوفاً من القنابل البشرية ومن العمليات الفدائية في قلب اسرائيل توكل مسؤولية الأمن الى السلطات الفلسطينية وفي الوقت نفسه تخشى القوات التي يكلفونها بالأمن، وهذا وضع غريب بحق فلعجزك عن تحقيق الأمن في الداخل تكلف الفلسطينيين في مناطق حكمهم الذاتي بذلك حينما يتولون الأمر تبدأ في الشك في اجراءاتهم وأفعالهم ويزداد الأمر صعوبة بالنسبة لك وخوفاً من تكرار ما حدث لاسرائيل من تساقط الصواريخ سوخود العراقية أيام حرب عاصفة الصحراء توكل الى الصواريخ باتريوت الاميركية بأطقمها مسؤولية الدفاع ضد الصواريخ. ثم ينتهي بك الأمر لتصبح حدودك أغرب حدود في الدنيا فخوفاً على أمنها تلجأ الى القوات الدولية والقوات متعددة الجنسيات والاراضي المنزوعة السلاح أو التي تحدد فيها الأسلحة كماً ونوعاً، كل ذلك لا يحل مشكلة الأمن التي تعززها بتصرفاتك. ماذا لو جربت الطريق الآخر؟ طريق السلام وحسن الجوار فاسرائيل كدولة شاردة يمكن ان تتحول الى دولة تحترم الشرعية الدولية. واسرائيل التي تسرق الارض والماء والتراب يمكن ان تنال ما تحتاجه بناء على اتفاقات ثنائية أو إقليمية. واسرائيل كدولة لا تحترم توقيعاتها وتتنكر لاتفاقاتها يمكن ان تزرع الثقة فيمن تتعامل معهم باحترامها للاتفاقات والمواعيد وقبل كل ذلك لا بد أن يكون رئيس وزرائها من القوة بحيث يكون قادراً على ان يقود غيره لا منقاداً لغيره، وان يكون شجاعاً ليبني مع غيره السلام والاستقرار في المنطقة ليتفرغ الجميع للبناء الذي يحقق الرخاء، في ظل امن متبادل يسعى الجميع للحفاظ عليه بدلاً من أمن مطلق ينقض عليه الجميع في أول خطوات الطريق. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.