رأينا في المقال السابق أن الردع يتحقق في ظل الاحتكار النووي في بعض الأحيان ولا يتحقق في أحيان أخرى وهذا شيء يبعث على القلق. ويعبر الجنرال اندريه بوفر في كتابه "الردع والاستراتيجية" عن هذا القلق بقوله: "في ظل الانتشار النووي سيصبح المصير في يد عدد يتكاثر ليس بينهم إلا النادر ممن هم على هذه المسؤولية الخطيرة فافتراض الجنون بين بعض هؤلاء الرجال شيء متوقع. ولكن الأكثر توقعاًَ ويصبح في الوقت نفسه مدعاة للقلق المتزايد هو عدم المعرفة، إذ أن المشكلات المتعلقة بالحرب والسلام أصبحت بالغة الدقة ما يجعلها غيرمفهومة تماماً لرجال السياسة كافة. وترتيباً على ذلك لا بد من الحذر من وضع أعواد الثقاب في أيدي الأطفال". كلام معقول من خبير محترم يجلعنا نتساءل: ما الذي يمكن أن يفعله شخص مثل بنيامين نتانياهو أو ارييل شارون او من سبقهما مثل مناحيم بيغن أوحتى بن غوريون لو استخدم الرؤوس النووية التي يتردد أنها في حوزة اسرائيل تحت شعورهم بالتفوق والغطرسة اللتين مارسا بهما سياساتهم الغليظة؟ ماذا يمكن أن يحدث لو استبدلوا الاسلحة التقليدية بالرؤوس النووية في القتال في جنوبلبنان بعد أن اعجزتهم الاسلحة تحت التقليدية التي في يد المجاهدين؟ بل ماذا يحدث لو امتلك بعض قادة الدول النامية، والكثيرون منهم منصف عقلاً ونصف جهلة، هذه الاسلحة ذات التدمير الشامل واستخدموها بقرارات خاطئة رعناء "يكون ضحيتها الجماهير وينجو منها القادة"، كما كتب بول بيكر في كتابه "هيروشيما والقنبلة الذرية - القرار الخطير". ولكن علينا أن نترك هذه التخيلات المزعجة ونعود الى السؤال الخطير الذي يتعامل مع قضية انتشار الروادع النووية وعلاقتها بالاستقرار الاقليمي فنجد انقساماً في الرأي عند العلماء المهتمين بالأمر فبعضهم يؤيد تحقيق الاستقرار المنشود والبعض الآخر يعارض ذلك. من أمثال المؤيدين كلاوس نود في كتابه "حول استخدامات القوة العسكرية في العصرالنووي"، جيفري كامب في كتابه "الاهداف او أنظمة الاسلحة" ويهوشفاط هاركابي في كتابه "الحرب النووية والسلام النووي" وهيرمان كانن في كتابه "في الحرب الحرارية النووية وآخرين وقد اوضحت آراءهم في كتابي "الصراع العربي الاسرائيلي بين الرادع التقليدي والرادع النووي" وتتخلص في الآتي: - الخوف الذي يفرض الرادع النووي والذي يكون بمثابة اللقاح المهدئ لتصعيد العنف واستبعاد الاطراف استخدام القوة عند ممارسة الديبلوماسية. - الرادع النووي الاسرائيلي هو البديل الوحيد لمواجهة الرادع التقليدي العربي، وهذا يفرض الاستقرار عن طريق التدمير المرفوض. - التكنولوجيا النووية تؤدي الى فترة تهدئة وزوال الحروب وهذه تؤدي الي السلام. - الاحتكار النووي بغرض الاستقرار الاقليمي وفي حال تعدد القدرات النووية يفرض الاستقرار عن طريق الرعب المتبادل او الخوف من التدمير المتبادلة. - عدم دقة وسائل الاطلاق والخوف من اصابتها اهدافاً مدنية يعرض المهاجم إلى العقاب بالمثل. - انتشار الاسلحة التقليدية وتعدد المواجهات باستخدامها يفتح المجال لتصاعد العدوان الى درجة المواجهة النووية وهذا في حد ذاته رادع للعدوان. أما الآراء المضادة، أي التي ترى أن الانتشار النووي لا يحقق الردع أو الاستقرار، فهي كثيرة ايضاً مثل تيدغر ينورد في كتابه انتشار الاسلحة النووي، وروبرت هانك في كتابه "الدولة النووية" وجيمس ايفري جوسيي في كتابه "آلة الحرب: في مواجهة سباق التسليح" وآخرين. اوضحنا آراءهم في كتابنا سالف الذكر وتتلخص في: - سيسبب سباق التسلح حالة من عدم الاستقرار تأكل معه المنظمات الدولية وتصبح ضوابط الأمن القائمة غير صالحة. - سيقلد بعض الدول اسرائيل في استراتيجيتها الخاصة ب "الردع بالظن" ولا تعلن عن امتلاكها او عدم امتلاكها للروادع النووية وحينئذ يصبح تصاعد الحروب التقليدية الى حروب نووية مفاجئاً وأكثر احتمالاً. في نهاية هذا القرن ستستخدم الاسلحة الذرية إذ أن تصميم القنبلة أصبح في يد الكثيرين وأنه يمكن صناعتها من نوع خاص من البلوتونيوم المتوفر في أماكن كثيرة. - سيكون من الممكن علي الارهابيين والمخربين الحصول على أنواع بدائية من القنابل الذرية. وإزاء هذا التضارب يرى البعض ألا فائدة في أن تصبح دولهم دولاً ذرية رغم قدرتها على ذلك، إذ ان ونستون تشرشل كان يرى هذا الرأي خشية تعرض بلاده لانتقام سوفياتي، ولكن لم يستطع ايقاف ذلك. وفي أي حال فلم يحدث بعد مرور أكثر من نصف قرن، أن استخدمت إحدى الدول النامية سواء كانت من اعضاء النادي الذري أو ليست من اعضائه قدراتها النووية، فكوريا غير النووية لم ترتدع أمام الولاياتالمتحدة النووية، وكذلك الحال مع فيتنام وافغانستان في مواجهة الاتحاد السوفياتي النووي، ومصر غير النووية لم ترتدع ايام عبدالناصر من قوة الغرب النووية فكسرت احتكار السلاح وأممت قناة السويس واجهت العدوان الثلاثي وطاردت الاستعمار في كل المنطقة. بل لم يمنع تزايد عدد الدول الذرية من سباق التسلح الذي تقوم به الدول غير النووية على اساس أنه في إمكان الرادع الأصغر أن يتصدى للرادع الاكبر ما يعني تصدي الروادع التقليدية للروادع النووية على أساس الاعتبارات الآتية: - ليس المهم أن الردع الوسيلة المستخدمة فالأهم هو النتيجة التدميرية التي تحدث نتيجة استخدام الرادع، فالتدمير ممكن ان يحدث باستخدم السلاح النووي أو أي سلاح آخر. - يمكن للرادع الأقل تأثيراً ردع الرادع الأكبر تأثيراً إذا كانت هناك عزيمة في استخدامه بالعزيمة الصادقة تعوض النقص في حجم التدمير. - الرادع الأقل تأثيراً أكثر صدقية من الرادع الأكبر تأثيراً، فالتردد في استخدام القوة النووية يكامل قوتها للتأثير المخيف الناجم عن ذلك يعادل عدم وجود أي قيود على استخدام القوة التقليدية بكامل قوتها. - عامل الشك في حجم التدمير المتوقع، وليس القدرة على حسابه بدقة ترجح جانب الرادع الأصغر. - لم يمنع امتلاك أحد طرفي النزاع للرادع النووي الطرف التقليدي الآخر من التصدي، رأينا من تصدي يوغوسلافيا لقوات حلف الاطلسي التي تدعمها القوى النووية الاستراتيجية والتكتيكية. وأدى اهتراز الاستقرار العالمي والاقليمي الى تعدد أنواع الروادع، فالروادع تحت التقليدية مثل القنابل البشرية وأطفال الحجارة، وزجاجات مولوتوف والأسلحة الصغيرة والسكاكين والخناجر، ما يحدث في جنوبلبنان، تتصدى للروادع التقليدية الاسرائيلية من طائرات ودبابات وقطع بحرية وصعدت بعض الدول سلم الردع فامتلكت الأسلحة فوق التقليدية، مثل الصواريخ والأسلحة البيولوجية والكيماوية لمواجهة الروادع النووية. وهنا نرى أن التوسع في امتلاك الروادع وتعددها لم يحقق الردع والاستقرار وهذا ما نشاهده الآن بين الهند وباكستان. إن سباق التسلح والتوسع في امتلاك الأسلحة النووية والاسلحة شديدة التدمير وزيادة وسائل العدوان لن يحقق الردع والاستقرار، الأن هذا لن يتحقق إلا تحت مظلة توازن المصالح في نطاق شرعية دولية تزيد الازمات بين الدول على أساس من العدالة والأمن المتبادل لأن غالبية الشعوب تريد أن تعيش في سلام حقيقي. يعترف بوجود الخلافات وحلها عن طريق مختلف الوسائل عدا استخدام القوة، لأن تحقيق السلام الكامل بنزع كل فتائل التناقضات الموجودة وهو مجرد وهم وعلينا أن نعرف ان مفتاح الاستقرار هو ليس الحد من وسائل الحرب التكنولوجية التي تجري في مسارح العمليات فقط ولكن بالسيطرة على حرب التكنولوجيا التي تجري في المعامل بواسطة العقل البشري الذي يخلق وسائل البناء والفناء على حد سواء. من المناسب ان نكتب كلمة عن اسرائيل والقدرة النووية كختام لهذا البحث، فقد تردد منذ اوائل الخمسينات ان اسرائيل تسعي الى امتلاك القدرة النووية، وللتاريخ فإن المخابرات العامة المصرية كانت اول من نبه الى بعض هذه المحاولات بل واكتشفنا مفاعل ديمونة في صحراء النقب قبل أن يتم انشاؤه وعززنا ما وصل الينا من معلومات بصورة جوية. أوضحت بجلاء منطقة المفاعل وعلى أثر تلك الطلعات الجوية حولت اسرائيل المنطقة الى قلعة يصعب اختراقها جواً وبراً، وبهذه المناسبة فليس بعيداً عن الصحة ان "ابو جهاد" رئيس الدائرة الفلسطينية في منظمة "التحرير الفلسطينية" القى حتفه بواسطة الموساد في تونس لأسباب عدة: كان أهمها اقتراب بعض جماعاته من "عش الزنانير" في المنطقة المحرمة. ومنذ ذلك الوقت اتبعت اسرائيل استراتيجية الردع بالظن لتترك نشاطها في هذا المجال تحت الشك أمام احتمالات تتراوح بين امتلاكها الرؤوس النووية ووسائل اطلاقها وبين التوقف عند المعرفة التقنية فقط تجنباً للنفقات الباهظة والتعقيدات الدولية. وفي أي حال فإن الردع لم يتحقق في المنطقة حتى في ظل احتمال تملك اسرائيل للقدرة النووية، فالقتال دار في حروب كبيرة متوالية ولا يزال مستمرا في الأرض المحتلة وفي جنوبلبنان، ما يدل على أنه مهما ارتفع حجم القوة المعتدية او زاد كفاءتها فإن الارادة التي لا تعرف الاستسلام أو الخنوع هي الأمر الحاسم في مواجهة العدوان واسترداد الحقوق لأن الفعل لا بد لمواجهته من فعل وان الضربة الاولى لا بد من منعها بالقدرة على امتصاص تأثيرها ثم بالرد بالضربة الثانية وأن الجريمة يجب أن تواجه بالعقاب فعلينا أن نعد لهم ما نستطيع من قوة نرهب بها من يعتدي على أراضينا ويطرد أهلينا وأن نعمل دائماً على أن تتوفر لنا القدرة على ردع العدوان الصغير لمنع العدوان الكبير. * كاتب ووزير دفاع مصري سابق