الذين لا يؤمنون أن التغييرات الجذرية في بنى السلطة والحكم، يمكن أن تتم من طرق ديموقراطية، يمكنهم الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على بدء تجربة "الوحدة الشعبية" في الشيلي، أن يبرهنوا على أنهم كانوا على حق، وأن الذين آمنوا بعكس ذلك كانوا مخطئين. ولكن في يوم 24 تشرين الأول اكتوبر 1970، حين أوصل تحالف الجبهة الشعبية الذي يضم اشتراكيين وشيوعيين وراديكاليين آخرين سلفادور اللندي الى السلطة في الشيلي، بدا الاحتمال ممكناً وواقعياً. ففي ذلك اليوم أثبتت الاشتراكية أنها يمكن أن تتم من طريق صناديق الاقتراع، من دون انقلابات فوقية أو مذابح دموية أو معارك شوارع أو إضرابات عامة. في ذلك اليوم وبعد الإعلان الصاخب عن استلام الاشتراكي اليساري سلفادور اللندي السلطة، تفاءل الكثيرون وبدا أن آفاقاً جديدة ومهمة قد انفتحت آفاقها أمام البشرية، وساد الحبور خصوصاً في بلدان العالم الثالث التي اعتبرت نفسها معنية بالأمر. نعرف بالطبع أن تلك التجربة لم تصمد سوى أربع سنوات، إذ ما لبث العسكر أن تحركوا وقاموا بانقلابهم الدامي، الذي أطاح سلطة اللندي وقتله كما قتل الشاعر نيرودا والمغني فيكتور يارا، وألوف المناضلين الآخرين. لقد ساد الاعتقاد يومها، وبنيت التحليلات على ذلك الأساس، أن أخطاء الحكم الاشتراكي المتراكمة هي التي أدت الى فشل التجربة. في المقابل كانت هناك أصوات تقول إن الانقلاب لم يكن على مثل تلك البراءة ولم يكن حتى ممثلاً، لمصالح الطبقات الوسطى التي أنزلها الحكم الاشتراكي عن مكانتها، بل كان انقلاباً دبرته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لإجهاض تجربة كان من شأن نجاحها أن يعممها في طول العالم الثالث وعرضه، ولا سيما في طول أميركا اللاتينية وعرضها، ما يتنافى مع المصالح العليا للولايات المتحدة. طبعاً، نعرف على ضوء الوثائق المذاعة اليوم، ومعظمها تنشره الصحف الأميركية الكبرى، أن الانقلاب كان من تدبير وإعداد السي آي إي على غرار الانقلاب ضد مصدق في إيران أوائل الخمسينات، والانقلاب الانفصالي في سورية أوائل الستينات، وأن ذلك الانقلاب كانت وراءه مصالح شركة "انترناشيونال تلغراف اند تلفون" آي تي تي الأميركية العملاقة التي كانت دائماً تسيطر على اقتصاد الشيلي ولا سيما على مناجم النحاس التي يعتمد عليها ذلك الاقتصاد. والحال أن "الصراع بين اللندي وشركة "آي تي تي" كان بدأ يظهر بكل وضوح منذ شهر أيلول سبتمبر 1971، وذلك حين أعلن الرئيس اللندي أنه "لأسباب تتعلق بمصالح الدولة الوطنية وأمنها"، قرر أن يؤمم المصالح المحلية لشركة "آي تي تي"، وكانت في ذلك الحين تقدر ب153 مليون دولار، ما كان يجعل من تلك الشركة اكبر مستثمر أميركي في التشيلي. والملفت هنا أنه بعد ذلك بفترة من الأمن قصيرة علم ان شركة "آي تي تي" نفسها قد قدمت 400 ألف دولار مساهمة منها في حملة المرشح ريتشارد نيكسون الانتخابية. وفي آذار مارس 1972، وحسبما كتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية في ذلك الحين، كشف الصحافي الأميركي جاك اندرسون أن شركة "آي تي تي" قد سعت في العام 1970، وقبل أن يعلن اللندي نواياه التأميمية حتى، إلى الحيلولة دون وصول اللندي الى السلطة، وذلك بمساعدة السي آي اي. يومها كشف اندرسون عن وجود وثيقة سرية تنادي بضرورة "اغراق الشيلي تحت وابل من الفوضى الاقتصادية الشاملة" وذلك من أجل حث العسكريين الشيليين من أصدقاء الولاياتالمتحدة، على القيام بانقلاب عسكري. وهنا لا بد من الإشارة الى أن جون ماكون، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والذي كان بعد مبارحته منصبه قد دخل في خدمة شركة "آي تي تي"، جون ماكون هذا أكد من ناحيته أنه كان قد فكر حقاً بمثل هذا المشروع وبحثه مع كبار المسؤولين الأميركيين. ولاحقاً أكد ماكون أن شركة "آي تي تي" بدأت، ومنذ وصول اللندي الى السلطة بتوزيع أموال على أجهزة أمنية اميركية متنوعة، للوقوف في وجه اللندي. طبعاً نعرف أن ذلك الصراع الذي بدأ يتبلور حقاً منذ يوم 24 تشرين الأول اكتوبر 1970، قد انتهى، على رغم الفضائح، بإزاحة اللندي عن السلطة، من طريق الانقلاب الذي قاده اوغستو بينوشيه. أما الأميركيون فإنهم انتظروا 30 سنة قبل أن يعترفوا بأن ايديهم ملوثة بدماء الشيليين. الصورة: اللندي وبينوشيه عام الانقلاب.