بالنسبة الى الذين لا يزالون يحملون ذكرى ما، عن الرئيس التشيلي الراحل سلفادور الليندي، هناك صورة لن ينساها أي منهم على الاطلاق، هي على الارجح الصورة الأخيرة التي التقطت له وهو حي وترينا اياه معتمراً قبعة واقية وسلاحه بيده، ونظراته حائرة بين الدهشة لما يحصل والتصميم على المقاومة مهما كلف الامر. هذه الصورة التقطت له، كما هو معروف، في قصر الرئاسة، في ذلك اليوم الصائف من العام 1973، حين انقلب عليه الجيش بزعامة الجنرال بينوشيت ووضع نهاية دامية لحكم كان يعد، ويعد نفسه، بالكثير. صورة الليندي تلك ترمز، في نظر الكثير من التقدميين في العالم أجمع، الى فردوس اشتراكي ضائع، فردوس كان لضياعه في ذلك الحين طعم أمر ألف مرة من طعم ضياع العالم السوفياتي بأسره. فالحال ان سلفادور الليندي، الذي وصل الى سدة الحكم في سانتياغو التشيلية يوم 24 تشرين الاول اكتوبر 1970، بعد ان انتخبه اعضاء البرلمان لذلك المنصب بأغلبية 135 صوتاً مقابل 35 صوتاً نالها منافسه ادواردو فراي، معززين انتخابه شعبياً، بوصفه مرشح "جبهة الوحدة الشعبية"، كان يريد ان تكون اشتراكيته، اشتراكية مثالية، هو الذي كان أول شعار اطلقه "الاشتراكية مع الحرية"، وذلك عبر احداث الاصلاحات الاجتماعية الضرورية في الوقت الذي يتم فيه احترام الديموقراطية ودولة القانون. ترى هل كان ما نادى به الليندي يوم 24/10/1970 حلماً مستحيلاً؟ اذا كانت الاحداث والتطورات التالية قد أتت لتقول ان الحلم الذي حلمه وسعى اليه، كان حلماً مستحيلاً بالفعل، وليس فقط بسبب العوامل الذاتية، بل لأنك لا تستطيع ان تبني حلماً وسط عالم لا يعدك الا بالكوابيس. ان الرصد الدقيق لتطور الاوضاع الشيلية بين اليوم الذي وصل فيه الليندي الى السلطة واليوم الذي قضت فيه عليه دبابات واسلحة بينوشيت، سيقول لنا ان قوى كثيرة معادية قد تكالبت على التجربة الشيلية لتجهضها. ولكن ما لا بد من قوله، واستناداً الى تحليل معمق كتبه عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين بعنوان "حياة وموت التشيلي الشعبية"، وترجم وقتها الى العربية، هو ان العوامل الذاتية، عوامل التدمير الذاتي التي مارسها اليسار الشيلي المتحلق من حول الليندي قد لعبت دوراً اساسياً في انهيار تلك التجربة. كل هذا واحزاب اليمين والجيش بالمرصاد. وأخيراً حين تبين ان الحلم قد استحال كابوساً، وان الليندي معزول وليس قادراً على الوفاء بأي من وعوده، بدا واضحاً ان زهوة انتصار يوم 24 تشرين الاول اكتوبر 1970 قد خبت. ولم يعد أمام الليندي الا ان يبذل آخر ما لديه من جهود للمقاومة. ولكن هل يمكن لأحد ان يقاوم ربات بيوت يحملن الطناجر يقرعنها في الشوارع؟ وكانت النتيجة ان انهارت التجربة، لتعرف تشيلي واحداً من ادمى الانقلابات وادهشها في تاريخ اميركا اللاتينية، انقلاباً كان أول ضحاياه الرئيس الذي حمل حلمه، فكان جلجلته الاخيرة.