هناك تعبير تركي يقول: "مبنيٌّ كدولة". وهذا التعبير - الوصف انما يُستخدم للاشارة الى ما هو قوي ومنسجم في آن. والحال ان الدولة التركية عاشت طويلاً آيةً على القوة والانسجام، وتهيّأت لها ظروف دولية ساعدتها على ذلك. فحين انحلّت دولة آل عثمان وقامت دولة "تركيا الفتاة" ومن بعدها مصطفى كمال اتاتورك، استأنف التقليد الاستبدادي ذاته معززاً بالنبرة القومية التي كانت تهبّ من المانيا وايطاليا اللتين تشكلتا للتوّ دولتين قوميتين. بعد ذاك كان الصعود الفاشي في اوروبا الذي وجد كبير تعاطف في اوساط الضباط الاتراك، حتى اذا اسفرت الحرب العالمية الثانية عن حرب باردة تحوّلت الدولة التركية عازلاً في مواجهة الشيوعية السوفياتية، يمحضها الغرب دعمه ويكل اليها انشاء الاحلاف الاقليمية الموالية له. هذا الغرب، أكان أوروبياً أم أميركياً، اختلف كثيراً بعد انتهاء الحرب الباردة عنه قبل ذلك. لهذا فحين وصل الى انقرة، منتصف تموز يوليو الماضي، مفوض الاتحاد الاوروبي المسؤول عن شؤون توسيعه، غونتر فيرهوغن، بدا ان ما يدور بينه وبين مضيفيه الاتراك اقرب الى حوار طرشان. فهو حمل اليهم، للمرة الاولى، ملفاً يحدد مطالب الاتحاد من دولتهم، والتي على ضوئها يتم قبولهم بعدما تم قبول ترشّحهم الى العضوية في 1999. لكن "وثيقة فيرهوغن" التي طالبت بالغاء "مجلس الأمن القومي" العسكري، ودعت الى الغاء حال الطوارىء في المناطق الكردية، والى السماح بالبث التلفزيوني والاذاعي بالكردية، ناهيك عن شجبها عقوبة الاعدام وكبت حرية التعبير والتنظيم السياسيين، مسّت مقدسات السلطة في انقرة. وبدا ان قوة الدولة التي لا تزال مقياساً في تركيا، لم تعد كذلك في "الغرب" الذي عصفت به دعوات التعدد والنسبية في موازاة ضمور نزعات الحرب الباردة وما سبقها. لكن الكتاب الذي يتداوله الآن اهل النخبة في اسطنبول، وهو كتاب الباحث والمؤرخ التركي احمد أنسل "تركيا وأوروبا"، يذهب ابعد من ذلك باحثاً عن الجذور البعيدة لسوء الفهم بين تركيا والغرب، او على الاقل اوروبا. وهذه الجذور هي التي لم تكن ظروف ما بعد الحرب الباردة وصعود الاتجاهات التعددية في القارة غير فرصة لانكشافها واشتغالها. فمنذ الستينات وانقرة تحاول الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وتلقى الصدّ الذي لم يخففه الا تأييد اليونان لترشّحها في السنتين الاخيرتين. ولهذا الصدّ تفسيرات سريعة لا يجافيها قدر من الصواب، كالاختلاف الديني والثقافي، بل الجغرافي في ظن البعض. والى ذلك هناك استمرار الصور المنمّطة عن "التركي" في المخيّلة الأوروبية والذي يرجع الى محاولات احتلال فيينا، ولا ينتهي عند فيلم "قطار الشرق". كذلك لا يغيب عن هذه العوامل الخوف من الهجرة اذ تشرّع قوانين الاتحاد الاوروبي الابواب كلها امام امة فتية من 65 مليوناً، علماً ان هناك الآن 4 ملايين مهاجر تركي في اوروبا، معظمهم في المانيا، فيما يعاني بعضهم ردات فعل عنصرية لا تفتر. لكن البحث عن جذور سوء الفهم يقود احمد انسل الى تشكّل الدولة التركية الحديثة نفسها: فهذه الاخيرة، وعلى يد اتاتورك، اختارت لذاتها الشكل الجمهوري الفرنسي، او اليعقوبي، حيث تحتكر الدولة المركزية معظم الادوار: لا السياسي منها فحسب بل المجتمعي ايضاً. واذا كانت بلدان اوروبية اخرى، كبريطانيا وهولندا، افترقت عن هذا الشكل ومجّته، فان الفرنسيين انفسهم بدأ يظهر في اوساطهم حالياً من يراجعه ويعيد النظر فيه. واليعقوبية كانت لتكون محتملة لو لم يرافقها التأثّر بالتأويل الالماني، الاثني واللغوي، للقومية. ولئن وجد التأثّر بعض اسبابه في ان الاتراك والالمان "يمتدون" في شعوب تقع خارج حدودهم الوطنية، فان التتريك القسري الذي عرفه العرب مطالع القرن العشرين كان من آثار هذه النزعة. غير ان شعوبا اخرى عرفت على يدها ما هو اسوأ: التطهير العرقي المبكر. فمن مذابح الارمن التي قُدّر عدد ضحاياها بما بين مليون ونصف المليون ومليونين، ومعهم عشرات آلاف السريان العرب في جنوبتركيا، الى مذابح الاكراد بعيد ثورتي جبل آرارات ومدينة درسيم في الثلاثينات واللتين سُحقتا بقسوة استثنائية. ومن عمليات التهجير الجماعي لليونانيين من ابناء السواحل التركية، على اثر الحرب التركية - اليونانية عام 1922، هي التي ذهب ضحيتها مليون ونصف مليون تركي من اصل يوناني، الى مذابح متفرّقة طاولت اقليات اخرى، شاملةً يهود تراقيا عام 1934 واقليات اسطنبول صيف1955. ومن اعمال الترحيل التي تعرض لها المسيحيون العرب في انطاكية واسكندرون جنوب شرق الاناضول، الى الارتداد ثانية، عام 1964، على الاتراك اليونانيين في موازاة تفاقم النزاع القبرصي، بحيث اخليت مدينة اسطنبول من رعاياها اليونان... تبدى استئصال التعدد شرطاً لبلورة الهوية القومية. وبالفعل افتقر التشكّل الحديث لتركيا من اي بعد تعددي. ففي مدينة كوزموبوليتية كاسطنبول كانت ذات يوم عاصمة المسيحية الشرقية، يتندّر البعض بان عدد اليونان بات يقتصر على 1617 شخصاً، فيما انخفض عدد اليهود بين العشرينات واليوم من 150 الفاً الى 25، ولم يعد هناك اكثر من 40 الف ارمني. وكانت المفارقة الكبرى ان حامل هذا التشدد لم يكن الوعي الديني، بل الوعي القومي. ومن هنا تصوّرت الهوية التركية لا في صورة نافية للاسلام فحسب، بل في صورة نافية للمواطنة التي حل محلها الانتماء الى الامة بالمعنى العرقي والثقافي. وغني عن القول ان هذا الفهم انما يجافي مفهوم المواطنة الاوروبية كما ينسجه الاتحاد الاوروبي اليوم، بوصفه ثمرة تحول تاريخي ينقل الاوروبيين من الدولة القومية الى اخرى تتعداها. وحتى العلمانية التي كثيراً ما ارتبطت بالتجربة الاتاتوركية، جعلها التصور الاثني - الثقافي شائهة وسطحية. فهي لم تتجاوز سطح الدولة الى صلب المجتمع: ذاك ان بطاقة الهوية التركية، مثلاً، تعيّن المذهب الديني والطائفي لحاملها. اما الزواج المدني المعتمد فلم تبذل الدولة اي جهد فعلي لنقله الى عمق العلاقات الاجتماعية. والدليل ان المحاكم التركية لا تزال تقرّ كأمر واقع بتعدد الزيجات الممنوع رسمياً في القانون. وهذه الممارسة لا تزال منتشرة في الارياف بحيث ادت بين 1933 و1970 الى اكثر من 270 الف زيجة ولد بنتيجتها اكثر من 10 ملايين مولود. وابعد من هذا كله ان الدولة، ومن موقع تعصّبها لما هو "أصفى تركيةً"، تمارس التمييز الطائفي والديني في مجال التوظيف. هكذا، وتبعاً لقانون 1926 الذي يشترط الأصل التركي، لا المواطنة التركية، للحصول على وظيفة عامة في الادارة والجيش، يجد ابناء الاقليات انفسهم مستبعدين من المجال المذكور. ويشكل الاتراك العلويون مثالاً صارخاً على التمييز هذا، هم الذين يعدّون نحو عشرة ملايين. فبعد ان انجذبوا في الستينات والسبعينات الى احزاب اليسار توهّماً لخلاصهم، حملت لهم الثمانينات والتسعينات تهديدات المجموعات الاصولية المسلحة اغتيالاً وحرقاً للاملاك والمخازن. وبدورها لم تسمح السلطة لهم، حتى سنوات قليلة خلت، وفقط بهدف الموازنة مع الاسلاميين، بفتح مراكز عبادتهم المعروفة ب"بيوت الجمّ" أو الجمع. وجاء تتويج ذلك في التعاطي مع المشكلة الكردية. ذاك ان الثقافة القومية التقليدية بررت التعامل مع هذا الموضوع الشائك بوصفه "قضية داخلية" تعالجها الدولة من ضمن منظور سيادتها. الا ان عالماً يقوم على التشكيك بالسيادات النهائية والمغلقة لا يقبل توصيفاً كهذا. والتحدي، في الحالة التركية، مُلح ومباشر يتجسّد في طلب الانضمام الى الاتحاد الاوروبي الذي يُحلّ سلطة فوق دولتية محل سلطة الدولة، فكيف وان الامر المعني يخص مصير عشرين مليون تركي من اصل كردي، فضلا عن خمسة عشر مليونا موزعين ما بين ايران والعراق وسورية والمهاجر؟ فاذا صح ان تركيا اضطرت، في 1991، الى رفع الحظر عن استخدام اللغة الكردية الا انه لا يزال محظوراً استخدامها في المجالات السياسية او الرسمية، كما في الاذاعات والمنشورات، بما يدل الى المسافة التي لا بد من عبورها توصلاً الى الاوروبية. في هذه المعاني جميعاً كان اعتماد تركيا للديموقراطية اعتماداً للآلية الانتخابية اكثر منه بكثير اعتماداً لثقافة مجتمعية وعلاقات حديثة. وهذا ما اسس، في آخر المطاف، للدور الكبير الذي تمكن العسكريون من لعبه على امتداد تاريخها في القرن العشرين. بيد ان ما لا يكتبه احمد انسل تضيفه الجامعية والمعلقة في "حريات"، فيرائي تنش، التي ترى ان البناء المذكور قدّم ركيزة أخرى لخنق التعدد وصعود العسكر. ذاك ان الطبقة الوسطى التركية التي تبقى عريضة بالقياس الى مثيلاتها العربية، لم يُقيّض لها ان تتخلص من تبعيتها لجهاز الدولة، ومن ظهورها بالتالي في مظهر الامتداد لبيروقراطيتها. والحق ان الفرصة التي وفّرتها الحرب العالمية الثانية التي استدعت تطوير السوق والانتاج الداخليين لتعويض انقطاع طرق المواصلات والتبادل، ما لبثت ان بددتها الاجراءات الضريبية الباهظة على تجار الاقليات. وفي النتيجة تكرّس اللون البيروقراطي للطبقة الوسطى فيما بدأت هجرة جديدة تضرب الارمن واليونان واليهود الذين عصفت بهم الضرائب. وهذا النقص المزمن في مناعة الطبقة الوسطى هو ما مهّد الطريق للانتصار الداوي الذي حققه عدنان مندريس و"الحزب الديموقراطي" في 1960. فقد استطاع هذان، بالتحالف الشعبوي الذي عقداه بين المهاجرين من الارياف وصغار الحانوتيين في المدن، ان يطيحا رموز الكمالية و"حزب الشعب". ولم يوضع حد لهذا الارهاص المبكر بالحركة الاصولية الا في 1960، حين استولى جمال غورسيل وجيشه، للمرة الاولى، على السلطة واعدما مندريس! وقصارى القول ان ما يفصل تركيا العسكرية عن اوروبا ما بعد الحرب الباردة اكبر مما يظن المرء للوهلة الاولى. فكيف وان العسكريين اضافوا الى تحالفهم الحاكم الحركةَ القومية وزعيمها دولت بهتشلي، وهم ورثة "الذئاب الرمادية" الفاشية، ممن يزيدون تنفير القارة بقدر ما يتصدرون الهجوم على مطاليبها. وربما كان هذا من العوامل التي حملت مؤخراً مسؤولين في المجموعة الاوروبية وفي حلف الناتو على استقبال رجائي قوتان، خليفة اربكان وزعيم حزب الفضيلة الحالي! كيف تتصرّف تركيا العسكرية امام هذا الواقع الذي لا يتوقف عن مفاجأتها؟ في مطالع ايلول سبتمبر الماضي تحدث نائب رئيس الحكومة والمسؤول عن العلاقة باوروبا، مسعود يلماز، فرأى ان الجيش متخوف من ان يقود تبنّي الاصلاحات التي تطالب بها القارة الى انهيار البلد. واضاف، هو المعروف بتحفظاته عن تقديم تنازلات ثقافية للاكراد، ان المطلوب تبديد مخاوف المؤسسة العسكرية عن طريق انفاذ خطوات كتسريح الموظفين المتهمين بعلاقات مع الاسلاميين و"الانفصاليين". لكن تركيا الرسمية، في المقابل، حُملت على التصديق على الشرعة الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما على تلك المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية. وهذان التوقيعان اللذان طال انتظارهما والتمنّع فيهما، لا يلغيان احتمالات المراوغة في التنفيذ لاحقاً، الا انهما يدلان على تحكم الخبط العشوائي بالقرار العسكري والحكومي. واغلب الظن، اذا ما بقي العسكر في السلطة، ان يدوم الاشكال التركي - الاوروبي طويلا قبل ان يُحسم امر العضوية في المجموعة. فلا العسكر يحب اوروبا التي ظنها شيئاً آخر، ولا اوروبا تحبّ العسكر. اما الولاياتالمتحدة فما من شك ان تركيا لا تزال تهمّها لأسباب كثيرة، وإن قلّت عنها ابان الحرب الباردة. فهناك ادوار صغرى في القوقاز والبلقان، وهناك ما يتعلق بافغانستان وحربها من ذيول التطرف والتهريب والفوضى، وما يتعلق باتراك الاتحاد السوفياتي السابق. وهناك بالطبع اكتراث بجيشها بصفته صاحب التدريب والثقافة العسكرية الاطلسية. لكن هذا كله شيء وتحمّل الحكم العسكري بعد انتهاء الحرب الباردة، شيء آخر. وقد جاء الاشكال الارمني الذي استدعى من انقرة التهديد باغلاق قاعدة انجيرليك، رداً على اعتراف الكونغرس بحصول المذبحة، اشارة صغرى الى تحول العلاقات الدولية في زمننا. فالقوة لم تعد تنفع كثيراً. وعلى الجيش التركي، رمز القوة، ان ينسحب من حياة المجتمع الذي هو وحده... الصاعد.